قراءة في رواية: غدا تبدأ الحياة

أحمد العربي

المخطوط للكاتبة: سحر وائل. وليلى تتحدث عن نفسها أنها طبيبة في زمن الحرب في سوريا، تكره الحرب، غير مقتنعة بالحراك السلمي الذي حصل ضد النظام، وخاصة بعد أن تحول للعمل العنفي، وبالطبع غير راضية عن رد النظام العسكري على حراك الناس الذي وصل الى القصف والتدمير وقتل الناس الابرياء. لنقل انها تنتمي لذاتها لمشاعرها، والجانب العام الاجتماعي لا يعنيها إلا بما ينعكس على حياتها، لذلك هي موزعة بين أن تكون منتمية لعائلتها ممثلة بأخيها عامر، الذي بقي لها بعد اعتقال أبيها ووفاته في مُعتقله منذ أحداث الثمانينات، انها من حماة، علمت ماحصل فيها من قتل وتدمير. امها نموذج ديني تقليدي، تلزم ليلى بلباس و سلوك محتشم منضبط دينيا كما ترى، انعكس ذلك على ليلى برفض للدين والتدين، وما أن توفت والدتها حتى تمردت على هذه المظاهر، خلعت حجابها وزينت نفسها وارتدت ملابس تُرضي انوثتها ونفسها. ليلى تعيش في المنطقة الرمادية تجاه ما يحصل في سوريا، فتارة تخاطب صورة والدها المعلقة في صدر البيت أن يحضر ليرى الثورة التي كان يحلم بها. وتجد نفسها منصاعة لموقف أخاها الذي أصبح أحد قادة العمل الأمني لمواجهة حراك الناس، يعتقل ويعذّب ويقتل. اما حبيبها عماد فهو ناشط ميداني يتابع بكاميرته كل أحداث الحراك يصوّر ويوثّق ويوزّع على وسائل التواصل الاجتماعي ووكالات الأنباء العالمية.

ليلى ملتزمة مع مشفى حكومي تعالج المصابين والجرحى من جنود النظام وأجهزته الذين يصابون في الصراع الدائر. كذلك تجد نفسها محرجة ومجبرة على علاج بعض الناشطين الذين يصابون في التظاهرات ولا يذهبون للمشافي الحكومية خوفا من الاعتقال واحتمال التعذيب والقتل، كانت تندد بالقصف والتدمير ووقوع ضحايا بين المدنيين، وتحمل مسؤوليته على الحرب المعاشة في سوريا، وأن سوريا ضحية تدخلات دولية واقليمية ومصالح متصارعة على سوريا وفيها، وليس فقط صراع بين شعب ونظام.

 تنوس ليلى بين ولائها للدولة “النظام” وإحساسها بأن هناك مشروعية ما ومبرر لهؤلاء الذين يرمون انفسهم للنار من أجل قضية يؤمنون بها ويضحون بحياتهم لأجلها، لم تستطع فهم ذلك ولا تستوعبه، انه جنون حقيقي.

ليلى مسكونة بذاتها، تعيش مع عالمها النفسي الداخلي أكثر مما تعايش الواقع، لها في وسائل التواصل الاجتماعي نافذة تطل بها على الآخرين، تتفاعل معهم. وجدت شاب يبادلها النقاش، جاءها من جانب قوتها، وهو حضورها اللغوي وقدرتها التفاعلية، وحصل سجال استمر لفترة، تحول لهوى داخل النفس، ثم لحب متبادل، ثم تلتقي بذلك الشاب الذي اغواها واحبته، لتجد انه عماد الذي كانت قد عالجته، الناشط الذي يحمل كاميرته ويتابع الأحداث مخاطرا بحياته، احبته وربطت نفسها به، لقد اعطى لحياتها معنى ونكهة وافق مستقبلي، صارت تتلهف له وتخاف عليه وتتابعه. وتلتقي به كلما استطاعت.

ليلى تعرف ذاتها وجسدها وافكارها واعتقاداتها، انها بلا عقائد يقينية، متمردة على كل اعتقاد. تؤمن بحق روحها وجسدها بالتحرر. لذلك كانت تتلهف لتلتقي بحبيبها وتتلهف ليحصل بينهما وصال جسدي، وعلاقة مفتوحة، لكنه هو من كان يضع حدودا، وينتظر أن يأتي ظرف مناسب وتنتهي محنة سوريا، ويتزوجان ويبني معها حياة مستقرة وينجبون الأولاد و يصنعون مستقبلهم.

عاشت ليلى تجربة حب سابق، فقد تعرفت قبل سنوات على يونس رجل يكبرها بعقدين، لكنه استطاع أن يتجاوز معها فارق السن، استطاع بدأب ودراية ان يكون فارس احلامها. ولأنها لم تكن تعتد بأي قيود على الجسد، إلا شرط الحب، فما أن نضج حبهما حتى عاشا علاقة جسدية كاملة. واستمرت لفترات طويلة، وصار يظهر معها، وعرفته على عائلتها، زار بيتهم وشاهد صورة والدها، عند ذلك انقلب رأسا على عقب، تركها دون أن يقدم أي مبرر وغادر حياتها. كان ذلك قاسيا جدا عليها، أعادها الى احساسها بالغبن والوحدة وظلم الحياة المجسد بسلوك حبيبها يونس. لكن الحياة لا تنتهي عند موقف واحد، وسرعان ما يظهر عماد في حياتها بعد علاجه وعودة الحب لنفسها وروحها وتوقها لأيام قادمة معه وزواج وأسرة وعائلة.

لكن يونس يعاود الظهور مجددا في حياة ليلى يريد أن يوضح لها لماذا اختفى من حياتها وترك حبه في قلبها الما وعذاب. يلتقيان يحاول ان ينفخ في نار الحب الذي كان لكنه عندها كان قد أصبح رمادا. حوّلت ليلى اللقاء الى فرصة للانتقام منه على تخليه عنها دون مبرر، اقترب من موضوع تركه لها حتى يوضح السبب. لم تترك له فرصة، توضح له انها الان لا تكرهه وكذلك لا تحبه، وتتركه وتغادر دون أن تسمع جوابا منه ولا توضيح لفعله. لقد ارتاحت من عبء العلاقة السابقة مع يونس، انتقمت لنفسها، غادرته ونفسها ممتلئة بحبيبها عماد وأحلامها المستقبلية معه.

عند هذا المنعطف في الرواية يجلس يونس على منصة البوح ليتحدث عن نفسه.

يونس الشاب الفقير الذي يعمل ليتعلم ويعيل نفسه. دخل كلية الحقوق، كان يؤمن بالعمل والجهد وصناعة الذات. صدمته عربة لابن مسؤول، أسعفه للمشفى وعالجه وحوله الى صديقه. ثم جعله شريكه في أعماله الغير مشروعة. بيع مخدرات وسوق سوداء للسلاح وغيره… ككل أبناء السلطة أصبح ثريا ومن عصبة السلطة، تطوع في الأمن وأصبح ضابطا في أحد الفروع الامنية كل ذلك برعاية المسؤول وابنه. كان له دور أمني في أحداث حماة فقد شارك في اعتقال الناس والتحقيق معهم وتعذيبهم. يذكر أنه التقى بأحدهم فاجأه صموده وتحديه وسأله وقتها: لماذا انت هنا مع الأمن ضد الناس؟ !. مشيرا الى هوية النظام الطائفية وأنه مجرد اداة شر بيد النظام ضد اهله وناسه. أثّر به الموقف كثيرا، فكر أن يساعد ذلك الرجل بشكل ما، لكنه وجده قد قُتل تحت التعذيب. لقد شكل ذلك في نفسه ندبة. أما ليلى فقد كانت بالنسبة له واحدة من كثير من الفتيات اللواتي كان يتعرف عليهن ويمارس دورا تمثيليا ويعيش غرائزه دون رادع او ضمير، لكن علاقته مع ليلى اخذت منحى مختلف، فقد استطاعت ان تدخل نفسه ويحبها ويجدها الفتاة المناسبة ليبني حياته معها، يتقرب من عائلتها ويزورهم. وهناك يتفاجأ بصورة والد ليلى المعلقة في منزلهم. انه ذلك الرجل الذي حقق معه وقُتل بعد ذلك تحت التعذيب، لم يستطع المتابعة مع ليلى لقد حضر والدها وما حصل معه ومصيره في ذات يونس فلم يستطع الاستمرار معها، خاصة أن ليلى تعرف انه ضابط بالأمن و انه استلم مسؤولية السجن بعد موت رئيسه السابق بالمرض وإن ليلى لم تساعد في إسعافه عند إصابته بالجلطة. وعندما مرت سنين على ابتعاده عن ليلى دون أن يوضح السبب. حاول أن يلتقي بها ليخبرها عن اباها لكنها سبقته بإخباره أنه لم يعد يعني لها شيئا وغير مهتمة بمعرفة لماذا تركها، تغادره مع خيبته مبهوتا.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها نقول:

اننا امام كاتبة متمكنة لغويا، تعرف كيف تجعل اللغة مطاوعة بين يديها وتجعلها أداة توصيل رائعة، خاصة في ما يعتمل في نفس بطلتها ليلى…

تنجح الرواية في إيصال التمرد والتحدي عند الكاتبة لكل معتقد وإيمان وفكر وثوابت، وكأنها تقول ضمنا: ان ما حصل مع السوريين يجعلهم يراجعون كل شيء: نقد ونقض وتساؤل وتحرير وتنوير… كل ماعندنا هو تحت المساءلة.

الرواية جريئة جدا في موضوع الجنس والجسد، يصل في بعض الاحيان الى درجة الاحساس ان التوسع في الحديث عن ما يعتمل في النفس وما يسلك بين الجنسين مقصود لذاته، أكثر من كونه يخدم فكرة تود الكاتبة توصيلها لنا نحن القراء.

طغى على الرواية البعد الذاتي لبطلتها وما عاشته ومن له علاقة معها. لقد كانت الثورة السورية وحراك الشعب في المرحلة السلمية وما بعد ذلك ورد الفعل الوحشي للنظام وكأنه هامش ملحق في الرواية، كان يجب أن يضاء واقع الثورة قليلا، غير كافي رفض ليلى العنف، ولا الحديث عن الناشط الميداني الحبيب وكمرته ومتابعة الحدث، ولا الأخ الضابط رجل الأمن الذي يقتل الشعب السوري، وحتى الحبيب السابق المتورط بدم الشعب السوري منذ الثمانينات. كان ذلك اطلالة على الحدث العام. لكن تضخم الذات لبطلة الرواية إلى درجة غير معقولة، فلا الحب ولا الجسد ولا الجنس ولا شبكة العلاقات الضيقة لأي أحد في سوريا في سنوات الثورة بقادر على أن يكون منعزلا عن ما حصل، ليس فقط هذا، بل سيكون كل ذلك مصبوغا بالذي حصل في سوريا ومنعكسا على نفسية وحياة كل الناس بشكل أو آخر. اخيرا نحن أمام موهبة واعدة ننتظر منها المزيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى