أعترف بأنني أبذل ما بوسعي كي أهرب من مرارة ذكريات الأسر في إيران الشر والخرافة والضلالة، ولكن تلك الذكريات تطرق أبوابي بقبضات أثقل من قبضات الجنود الإيرانيين، وهم يهوون بسياطهم على ظهور كانت جلودها تلامس العظام حتى لتكاد تلتصق بها من فرط الألم والجوع والجزع ومعاناة الغربة عن الأهل والوطن.
وإن كنت نجحت في إبعاد تلك الذكريات المرة عن خيالي وذهني، في يقظتي، أو عندما أكون قادرا على التحكم بمداركي كلها، تفلت الذكريات من الوعي اليقظ، إلى اللاوعي في العقل الباطن الذي لا يمكن التحكم بتفاصيله ولا بفصوله، وتأتيني على شكل كوابيس مرعبة تتضاعف فيها المعاناة بأعلى الدرجات، وكأنها تكتب قصة من عالم الرعب البعيد لتضغط بكل قوة على رقاب استطالت فسهلت عملية خنقها.
الأسر حكاية لا يمكن أن تنتهي فصولها في عالم اليقظة، وفي كل وقت عندما أعود إليها فأيامها الـ 7245 يوما ليست نزهة عابرة، فإنما أعود شاكرا لأنعم الله سبحانه، أن منَحنا قوةَ المطاولة ومنحنا قوة التحدي، وبعد ذلك أن بَعَثَنا من مرقدنا، بعد أن تفاقم إحساسنا بوطأة الزمن في سجون معتمة رطبة، يتفنن الجلادون في إيقاع الأذى بأسرى كل ذنبهم أنهم باقون على أصلهم وولائهم، فهل يمكن أن تنبت نخلة عراقية في خراسان أو الري أو أصفهان أو في مدن الثلج الفارسية.
تنوعت المعاناة التي عاشها الأسرى العراقيون، الذين كانت أعمارهم تتقدم بوتائر أسرع بكثير من الزمن الطبيعي، ربما كان اليوم بثلاثة أيام أو أكثر، ولهذا كانت أوضاعهم الصحية تتناسب طرديا مع معاناتهم والخوف من المجهول أو الموت في الغربة، من دون بواكي أو حتى عزاء عابر يريح قلب أم ودعت أبنها على أمل أن تلتقيه مرة أخرى وهو يحمل لها بشارة العودة من رحلة الأبدية، أو زوجة تحلم بلقاء شريك حياتها مرة أخرى.
كانت الأمراض تفتك بالجميع، وتجد لها في الجوع المرّكب والمعاملة الوحشية، عونا يساعدها على إنجاز مهماتها على أفضل ما تشتهي الكائنات المجهرية.
في مثل هذه الأيام من صيف عام 2000، كنت أمارس هوايتي المفضلة أثناء الفسحة المؤقتة التي تمنح للأسرى في التمشي في الساحة الداخلية لمعسكر “قمصر كاشان” وهي التمشي مع صديقي اللواء الركن دخيل الهلالي رحمه الله، والذي تفاقمت حالته الصحية سوءً جراء التقدم بالعمر ومرض السكر، الذي أتعبه كثيرا وفاقم من وطأته الإهمال الطبي وسوء التغذية، كنت أشعر بثقل حركته، فربما بدأ بدنه يخذله قليلا، ولكن أبا علي، أبى أن تخذله نفسه العالية، وبقي رمزا متوقدا متألقا من رموز الجندية العراقية التي لا تشعر بالانكسار مهما بلغ فيها الألم، كان الأطباء قد أوصوا إدارة المعسكر، للواء الهلالي بكوب حليب على الأقل في كل يوم، وبعصا يتوكأ عليها، عندما علم آمر المعسكر “الحاج عباس بزرك نيا” بأمر الحليب، ضحك ساخرا، وقال على الأسرى أن يتوقفوا عن الأحلام الوردية، وألا ينسوا أنهم أسرى في إيران وليسوا ضباطا في العراق، أما عن العصا فإن ميزانية إيران لا يوجد فيها باب لصرف عصي التوكؤ، فقط هناك عصي التبختر، (احترام مبالغ فيه من الحاج لميزانية الدولة)، ولهذا اعتبر هذا ترفا لا موجب له حتى من قبل أسير مريض ومسن، لذلك استعضنا عن العصا بأن تطوع أسرى حولوا أجسادهم المتعبة أصلا، ليتوكأ عليها أحد قادتهم الكبار، لأنهم أرادوا أن يضربوا للعدو مثلا بأن الأسر لم يهز نخوتهم العراقية العربية، ولم ينسف انضباطهم العسكري الذي صار جزء من بنائهم الشخصي، وأخذ بُعدا مضاعفا في عالم الأسر، كانوا بقدر ما يشعرون بالفخر من تفانيهم في خدمة الضباط الكبار وكبار السن بصرف النظر عن رتبهم، فإنهم كانوا يوجهون صفعات قوية لكل ما بذله الإيرانيون من مجهودات لتغيير قناعات الأسرى، الذين كانوا يتشبثون بقيمهم وعراقيتهم وعروبتهم.
وفي أحد الأيام دخل “الحاج عباس بزرك نيا” حاملا غص شجرة كالبتوس وربما من غيرها، ظن كثيرون أنه تأبط شرا بالأسرى وأنه عازم على إيقاع عقوبة بعدد مختار من الأسرى، وعندما حدق في وجهه الأسرى، لاحظوا أنه كان مبتسما ومنشرحا إلى حدود لم يتمكن من إخفائها مع أنه حاول ذلك، بعد قليل وقد استدعى “الأرشد” وكان ما يزال يلوح بالعصا، قال له استدعِ اللواء الركن دخيل الهلالي، جئت له بهذه العصا بجهد خاص مني بعد أن اقتطعتها من إحدى الأشجار المحيطة بالمعسكر.
يا لله، إلى هذا الحد يحب الفرس الإطراء؟ وكل يريد أن ينسب كل شيء إليه، عالم حافل بالغرائب لن يتعرف على مكنوناته إلا من عاش تفاصيله بعين عراقية تراقب بدقة، وعقل واعٍ وقلب سليم تنظف من كل أدران الخوف والخيانة.
المصدر: رسالة بوست