لا تتوقف تجاوزات “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بحق المدنيين في مناطق سيطرتها، وهي التي تستغل ظروف الحرب للتحكم في الأوضاع والاقتصاد، لا سيما في إدلب ومحيطها، وتحقيق أرباح مادية، حتى ولو بالتعاون مع النظام السوري. وليست التجاوزات التي ارتكبتها بحق المدنيين الرافضين لافتتاح معبر تجاري بين مناطق سيطرتها في إدلب، ومناطق النظام في ريف حلب، أولى الانتهاكات، ولا يُتوقَع أن تكون الأخيرة.
وأجبرت الاحتجاجات التي نظّمها مدنيون في إدلب “هيئة تحرير الشام” على تعليق افتتاح معبر تجاري يوم الخميس الماضي، بين بلدتي معارة النعسان شمالي شرق إدلب، وميزناز بالقرب من قرية كفر حلب بالريف الجنوبي الغربي من حلب والتي يسيطر عليها النظام. لكن الهيئة لم تستجب بشكل هادئ للرفض الشعبي، بل إن عناصر منها كانوا قد حاولوا الخميس دهس المحتجين أمام المعبر بالسيارات، ما أدى إلى إصابة عدد منهم، كذلك أطلقوا الرصاص الحي على المحتجين، ما أدى إلى مقتل أحدهم. الأمر الذي فجّر احتجاجات متفرقة للمدنيين على ممارسات “تحرير الشام”، فتظاهر عدد منهم في مدينة إدلب مرددين شعارات ضدها وضد قائدها أبو محمد الجولاني، ما أدى أيضاً إلى تدخل عناصر الهيئة في المدينة، محاولين تفريق المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحي في الهواء، ومن ثم الهجوم عليهم بالدراجات النارية. كذلك كان الحال في مدينة كفرتخاريم التي خرج بعض سكانها مطالبين برحيل الهيئة عن مدينتهم، احتجاجاً على مقتل المدني على يد عناصر “تحرير الشام” في معارة النعسان، ما أدى إلى التعامل مع المتظاهرين بوحشية، إذ أطلقوا الرصاص الحي لتفريقهم.
وتصرّ “تحرير الشام”، منذ أن هدأت المعارك في إدلب، و”منطقة خفض التصعيد” عموماً، على افتتاح معبر تجاري مع مناطق سيطرة النظام، وهذا ما يرحب به الأخير بطبيعة الحال، بسبب الخناق الاقتصادي الذي تعيشه مناطقه بعد إغلاق كل المعابر والمنافذ الحدودية باتجاهه إثر تفاقم أزمة كورونا. كما كان للمعارك الأخيرة دور في إيقاف الحركة التجارية بين مناطق النظام والمعارضة، والتي يحاول النظام والهيئة استئنافها بكافة الوسائل.
وقبل تراجع الهيئة عن افتتاح المعبر، ذكرت صحيفة “الوطن”، الموالية للنظام، أن الأخير “نجح بفتح معبر تجاري يصل بلدة ميزناز ببلدة معارة النعسان حيث تهيمن حكومة الإنقاذ التابعة لتنظيم جبهة النصرة الإرهابي، وذلك لتخفيف معاناة الأهالي في آخر منطقة لخفض التصعيد، على الرغم من المساعي التي بذلها النظام التركي لتعطيل افتتاحه عن طريق مرتزقته الذين حالوا دون افتتاح معبر سراقب المشابه في 19 إبريل/ نيسان الماضي”. ونقلت الصحيفة عما سمته مصدراً ميدانياً أن “الهدف من فتح معبر ميزناز مساعدة أهالي إدلب والأرياف المجاورة لها، والواقعة خارج نفوذ الدولة السورية الشرعية، في تخطي ضائقتهم الاقتصادية والتخفيف من المعاناة الإنسانية التي يعيشونها جراء رزوحهم تحت وطأة الإرهاب، على الرغم من تعمّد النظام التركي إفشال أي مساعٍ لتخفيف أعباء الحياة عن المدنيين، عبر ممارسات الإرهابيين ومرتزقة زعيم أنقرة رجب طيب أردوغان التعسفية ضدهم”.
إلا أن النظام يستميت لافتتاح المعبر للتخلص من الضائقة الاقتصادية التي تعصف بمناطق، وحالة نقص السلع والمواد والقطع الأجنبي من العملات، بسبب توقف التبادل التجاري مع أي جهة كانت. ومنع محتجون ونشطاء، في منتصف إبريل الماضي، الهيئة من افتتاح معبر تجاري بين مدينتي سراقب (التي سيطرت عليها قوات النظام في المعارك الأخيرة) وسرمين الواقعة تحت سيطرة المعارضة.
ويعارض المدنيون في إدلب افتتاح المعابر مع النظام لأسباب عدة، منها الخوف من انتقال فيروس كورونا إلى مناطقهم من مناطق سيطرة النظام، الذي أعلن عن وجود أكثر من 40 إصابة في حدود سيطرته، فيما يتوقع خبراء في الشأن الطبي أن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير. ويتخوف الأهالي كذلك من أن افتتاح المعابر سيحض التجار على الدفع ببضائعهم نحو مناطق سيطرة النظام، ولا سيما الخضراوات والمنتجات الزراعية، ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار في مناطقهم، علاوة على الارتفاع الذي يعانونه اليوم في كل السلع والمواد. كما يتخوف المدنيون من أن المعابر ستسهم في ترميم العجز الاقتصادي والمالي لدى النظام بعد إغلاق المعابر والمنافذ الحدودية، براً وجواً وبحراً، ولم يتبقَ أمامه سوى التبادل التجاري مع إدلب، لتعويض خسائره وإيقاف حالة النقص التي تعيشها مناطق سيطرته، ولا سيما من المواد التموينية. كذلك سيسهم التبادل التجاري بدخول أموال بالدولار وعملات أجنبية إلى النظام، هو بأمسّ الحاجة إليها في هذا الوقت، بعد خلو البنك المركزي من القطع الأجنبي وتراجع سعر صرف الليرة، وذلك سينهض، ولو بشكل جزئي، بالعجز الذي أصاب البنية المالية للنظام، ما سيجعله يعيد التفكير في استئناف المعارك لقضم مزيد من المناطق في إدلب وما حولها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النازحين من مناطق شرق وجنوب إدلب وغرب وجنوبي حلب، وشمالي وغربي حماة، والذين اضطروا لترك منازلهم خلال الحملات العسكرية الأخيرة للنظام والروس والإيرانيين على مناطقهم، الواقعة ضمن “منطقة خفض التصعيد”، يتوجسون من خطر تثبيت خرائط السيطرة والوضع القائم، في حال استؤنفت الحركة التجارية والطبيعية مع النظام، ما سيبدد آمالهم بإمكانية العودة إلى منازلهم، سواء سلماً عبر الضغط التركي، أو حرباً بالمشاركة بين الفصائل وأنقرة.
في حين يُعد افتتاح المعابر بالنسبة لـ”تحرير الشام”، ولا سيما مع النظام، فرصة لملء خزينتها بالعملة الصعبة، إذ تفرض الهيئة رسوماً مرتفعة على دخول البضائع والسيارات من وإلى مناطق النظام، كما كانت تفعل في معابر سابقة. وهي تحاول، بشتى السبل، إعادة هذا النشاط التجاري المهم بالنسبة إليها وإلى اقتصادها، من دون اعتبارات أخرى، ولا الأخذ بالاعتبار لمخاوف المدنيين، أو حتى حجم الاستفادة للنظام، العدو المفترض لها، من هذا التبادل. يشار إلى أن مناطق إدلب و”خفض التصعيد” عموماً وشمالي حلب، تستفيد من تبادلها التجاري اليومي مع تركيا، من دون حاجتها إلى فعل ذلك مع مناطق النظام، ما يجعل النظام و”تحرير الشام” والتجار في مناطق إدلب الذين يودون تصدير منتجاتهم بسعر مرتفع المستفيدين من فتح المعابر فقط.
وليست تجاوزات افتتاح المعابر واستهداف المعترضين عليها هي الوحيدة التي ترتكبها الهيئة بحق المدنيين في إدلب، إذ يعاني هؤلاء من العديد من الانتهاكات اليومية بحقهم، منها ما يستهدف نشطاء وعسكريين من فصائل أخرى، أو مدنيين، بالقتل أو الاعتقال التعسفي، ومنها ما يأتي على شكل أتاوات وضرائب ورسوم تفرضها على المدنيين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الذين يعانون أساساً من ضائقة مادية كبيرة بسبب الهجمات، وارتفاع الأسعار في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى تحكّم الهيئة بعصب الاقتصاد في إدلب وما حولها، بسبب احتكارها تجارة أهم السلع والمواد.
وتفرض “تحرير الشام” ضرائب تتعلق بالنظافة والخدمات في المناطق التي تنشط فيها “حكومة الإنقاذ” التي شكلتها لإدارة الشؤون المدنية في المناطق التي تسيطر عليها، علماً أن الخدمات تكاد تكون شبه معدومة في تلك المناطق، ولولا المبادرات التي تقدمها المنظمات لكان الوضع الخدمي كارثياً. وعلى الرغم من ذلك تفرض الهيئة قيوداً على تحرك ونشاط الكثير من المنظمات. كذلك تحتكر قطاع تجارة المحروقات عبر شركة “وتد” التي أسستها لهذا الغرض، ما أدى لارتفاع أسعار المشتقات النفطية في إدلب بشكل جنوني، ولم يستطع معظم المدنيين في الشتاء الماضي استخدام مادة المازوت للتدفئة نظراً لارتفاع سعرها بشكل لم يعد يطيقه الميسورون قبل الفقراء، علاوة على تهريب المادة ومشتقات أخرى إلى خارج إدلب.
وأدى احتكار المازوت إلى ارتفاع تكلفة تغذية المنازل والمحال التجارية بالطاقة الكهربائية، كون المولدات التي تغذي المنازل والمحال، عبر اشتراكات أسبوعية أو شهرية، تعمل على هذه المادة، علماً أن الهيئة لم تستطع، على الرغم من هيمنتها على مفاصل الحياة والاقتصاد في إدلب، أن تجد بدائل لقطع النظام الطاقة الكهربائية عن المحافظة، منذ خروجها عن سيطرته. وتصل الكهرباء إلى المدنيين في إدلب ساعتين أو أربعاً على أعلى تقدير يومياً، وبأسعار مرتفعة جداً. وتفرض الهيئة أتاوات تبررها بمسميات مختلفة، كـ”زكاة” الزيت والزيتون التي تفرضها بالقوة على أصحاب كروم الزيتون ومعاصر الزيت، ما يذهب بالمكاسب البسيطة لهؤلاء. وقد خاضت الهيئة معركة كبيرة العام الماضي ضد أهالي مدينة كفرتخاريم لإجبارهم على دفع “زكاة” الزيت، ما أدى لوقوع العديد من الضحايا.
وعلاوة على ذلك، يعتبر أهالي إدلب والنازحون منهم على وجه الخصوص، أن الهيئة هي السبب وراء تشريدهم عن منازلهم وقراهم، لاتخاذ وجودها ذريعة من قبل النظام والروس والإيرانيين لمهاجمة “منطقة خفض التصعيد”، ما أدى إلى قضم مساحات واسعة، تضمّ مدناً وقرى عديدة جنوبي وشرق إدلب من قبل النظام خلال المعارك الأخيرة، التي أدت إلى نزوح مليون و700 ألف مدني إلى مناطق شمال إدلب الحدودية مع تركيا. وتُتهم الهيئة بالتهاون خلال التصدي لقوات النظام، على الرغم من ترسانتها العسكرية الكبيرة، ما أدى إلى سقوط دراماتيكي وسهل لكثير من القرى والمدن، إذ تصدت الفصائل الأخرى للهجمات وسط تراخي الهيئة، التي كانت قد استولت على السلاح الثقيل لتلك الفصائل في معارك للسيطرة والنفوذ معها، في حين لم تكشف عنه في المعارك مع النظام.
المصدر: العربي الجديد