كان ياما كان… وكان في لبنان حركة عمالية!

 خالد بريش

تعودنا أن ننام فيما مضى، على حكايات الأم والجد والجدة، التي كانت تبدأ بـ « كان ياما كان… ». وعلى هذا المنوال سار الساسة باللبنانيين حيث خدروهم ونوموهم بتخاريف ووعود، ومن ثم أدخلوهم في مستنقعات النتن الطائفي والمذهبي، وأصبح الماضي الجميل، أشبه ما يكون بحكايات الجد والجدة، التي أصبح الحديث عنها أمام الأبناء والأحفاد وهذا الجيل عموما، من قبل الحواديت والخرافات التي لا تمت إلى الواقع بصلة، وكأننا كنا نعيش يوما في عالم الخيال وألف ليلة والسندباد، أو نشاهد مسلسلا تلفزيونيا من إنتاج هوليود…!

المناضلة وردة إبراهيم جرجس

فلو حكى أحدنا اليوم لأبنائه عن نضالات العمال في هذا الوطن، وعلى سبيل المثال عن وردة الورود، وحلوة الحلوين، المناضلة وردة إبراهيم جرجس، التي ضحت بدمها ولاقت حتفها برصاص الدرك فداء لرفاقها ولقمة عيشهم.
وكيف تمددت يوما ورفيقاتها المناضلات الشريفات بحق على الأرض، أمام مصنع التبغ والتنباك مانعات شاحنات وسيارات الدرك من المرور لفض إضرابهم بالقوة، وهن يهتفن بأعلى صوتهن « لن تدخلوا إلا على أجسامنا »… لظنوا أن ذلك في عالم آخر، لا يمت لهذا الوطن، ولا لعوالمنا بصلة على الإطلاق، ولن يصدقوا أن ذلك حدث في لبنان فعلا…!
ولو حكينا لهم مثلا، أقول مثلا… عن شركة الكهرباء التي كانت تسمى حينها « شركة الجر والتنوير » يوم قام أكثر من 400 عامل من عمالها في عام 1926 بإضراب استمر حوالي شهرين، مطالبين بحقوقهم، من زيادة أجور، إلى أن كان لهم ما أرادوا… فقررت على إثرها شركة الكهرباء، المدعومة حينها من المُسْتعْمر، عفوا المنتدب الفرنسي حتى لا ينزعج من ذلك البعض الذين يعتبرونه أمهم الحنونة… تحميل المواطن نتائج ذلك الإضراب، فرفعت التسعيرة…! فقاطعها الأهالي، وساندهم النواب وعلى رأسهم دولة الرئيس الشيخ محمد يُمْن الجِسْر ــ رحمه الله ــ الذي قام حينها بعقد جلسة المجلس النيابي على ضوء الشموع، مُرْسِلًا من خلال ذلك برسالة تضامنية قوية لشركة الكهرباء والمستعمر الذي يدعمها، مؤكدا أنه وزملاءه أبناء هذا الشعب مهما علت مناصبهم، وأن دورهم الأساسي كمسؤولين، هو الدفاع عن حقوق المواطن وكرامته ولقمة عيشه… والوقوف إلى جانبه ضد جشع شركة الكهرباء ومن يقف وراءها، فاشتد على إثر ذلك الإضراب، وامتنع المواطنون عن استخدام الكهرباء، فرضخت الشركة في نهاية المطاف لمطالب المواطنين…
ولو حكينا لهم مثلا وقلنا: كان يا ما كان، كان هناك ساسة ينزلون إلى الشارع، ويقفون إلى جانب العمال وفي طليعة تظاهراتهم، ويدافعون عن حقوقهم، لأنهم كانوا مسكونين بهموم الشعب… وكان انتماؤهم للوطن بالدرجة الأولى، وعلى أساس ذلك كانوا يرتبون المقدمات والأولويات… ويشعرون بهموم المواطن، وعندهم حدود للعيب وللسفالة لا يتجاوزونها… ويخافون على سمعتهم وشرفهم، ويخافون من الله إلى حد كبير، ويخافون على هذا الشعب والوطن وهو الأهم، لظن أبناؤنا أننا نهذي…!

إضراب عمال بلدية بيروت

وخير مثال على ما نقول، ما حدث خلال إضراب عمال بلدية بيروت في عام 1957 بعدما رفضت البلدية تلبية مطالبهم المحقة في ملابس العمل والإجازات الصيفية والمرضية… فبدأوا حينها إضرابا عن العمل، فما كان من أمر بعض نواب الجنوب، إلا أن أحضروا عمالا جنوبيين ليحلوا محلهم، مُشكلين طعنة في الظهر لعمال بلدية بيروت… فنزل يومها الزعيم السياسي، وابن بيروت النائب عدنان الحكيم ــ رحمه الله ــ إلى سوق الطويلة على رأس مجموعة كبيرة من العمال المضربين، واشتبكوا مع العمال الذين تم إحضارهم، فألقي القبض على عدنان الحكيم، ومجموعة من العمال الذين كانوا معه… فضج الشارع، وتدخل المحامون وبعض النواب ورجالات بيروت لإخلاء سبيل عدنان الحكيم، إلا أنه رفض الخروج من سجن الرمل…!
نعم رفض الخروج إلا ومعه كل العمال المعتقلين… وهو ما حدث بعدها بسبعة أيام، وقد تحققت مطالب العمال حينها وهو الأهم…
أما اليوم، فكان يا ما كان، وبعد مُضي الأزمان، أعني انقضاء البارحة القريب، وتحول النقابات العمالية التي من المفروض أن تدافع عن حقوق العمال بصورة خاصة، والمواطنين عامة، إلى دكاكين طائفية ومذهبية، وغدت صورة طبق الأصل تماما عن المنظومة الحاكمة الفاسدة، وأصبحت بلا صوت يسمع، وبلا أي فائدة ترجى منها… بل غدت عبئا على العمال بالدرجة الأولى، لأنها تقف ضد كل ما يتعارض مع رغبات وتوجهات « الزعيم »… وأصبحت كل المكتسبات النقابية التي دفع العمال ثمنها يوما من دمائهم وجيوبهم وخبز أولادهم، أثرا من بعد عين. وغدت كل القوانين التي اعتبرت يوما مكتسبات، حبرا على ورق…
وكان ياما كان، كان يوجد وطن اسمه لبنان، يوجد فيه حركة عمالية قوية وفعالة، كانت محط أنظار كل الطبقة العمالية في الوطن العربي، وملهمة لها تنظيما وتحركات وأساليب نضال… إلى أن أتى زمان دخلت فيه مراحيض الساسة، فاختفت عندها كلمة « نضال »، من قاموسها، وأصبح النضال والتحركات العمالية هذا فيما لو حصلت، فإنها تتم بناء على هواتف، أو أوامر من الزعيم، وقرارها في جيبه ورهن إشارته…!
إنها إحدى عبثيات لبنان، حيث يدافع فيه العبيد عن أسيادهم… عفوا يدافع عماله عن ساسة مجرمين، نهبوا أموالهم ومدخراتهم… وأفقروهم بل أذلوهم وحرموهم الخبز…! من دون أن يدركوا أن النضال لا يتفق والدخول في جُحْر الطائفة والمذهب وسدنة معابد الفساد…

معارك انتخابية

وكان ياما كان، كانت هناك معارك انتخابية عرمرمية، تتم بين المناضلين من الطبقة العاملة، المستعدين للتضحية بالغالي والنفيس من أجل المواطن والوطن. فأصبحت تتم الانتخابات اليوم بين الزعامات السياسية، وضمن توافقات بينهم على تقاسم قالب الجبنة والمناصب النقابية… فاختفى بالتالي العمال المناضلون، وأصبح لا يسمع لهم صوت… وكان ياما كان، وكان في زمن من الأزمان، نقابات عمالية تُرْفع لها القبعات، فأصبحت اليوم صورة طبق الأصل عن الطبقة السياسية الفاسدة بامتياز إن لم يكن أسوأ، وغدت وجههم الآخر والبشع قولا وفعلا وممارسة…!
وإذا كانت النقابات العمالية في لبنان لم تتحرك من أجل لقمة عيش مناضليها والمواطنين، وضد الذين سرقوا مدخراتهم وأموالهم، وأرسلوا أصدقاءهم ورفاقهم بعد انفجار بيروت إلى حتفهم بعدما تقطعت أجسادهم إربا… وكذلك ضد عمليات الطرد التعسفي لرفاقهم العمال من قبل أرباب العمل المتوحشين، وعلى امتداد ساحة الوطن… فإنني لا أدري بحق متى تتحرك…! وماذا تنتظر لكي ترفع أصواتها، وتهدر هتافات مناضليها بالثورة التي تهز العروش… وخصوصا بعدما وصلت الحالة الاقتصادية إلى مرحلة مزرية بشعة جدا، أشبه ما تكون بالقتل البطيء بكل معنى الكلمة…
أحوال وأوضاع لا أدري كيف يتحملونها، ولا أدري ماذا ينتظرون لكي… ولكي… خصوصا وقد أصبح ما يتقاضونه لا يكفيهم لمجرد شراء الخبز، أو لدفع فاتورة الكهرباء هذا فيما لو وجدت هذه الكهرباء اللعينة والماء النظيف…!
أوليسوا معنيين بكل ذلك يا ترى، وبالدفاع عن حقوق العمال…؟!
وإذا لم يتم تحرككم عاجلا وتكونون أيها العمال وأرباب النقابات كما كنتم يوما الطلائع لثورة الخبز والعيش الكريم، فإن الوطن والمواطنين ليسوا بحاجة لنقاباتكم، ولا لصوركم الجميلة، ولا إلى هذا النوع من الرفاهية على الإطلاق…
إن لبنان اليوم بحاجة ماسة إلى تحركات شعبية حقيقية، تتلاحم فيها الطبقة العاملة مع الطبقة المتوسطة… تحركات تعيد عقارب الساعة إلى حركتها الصحيحة، وتعيد للنضال بريقه ومعناه، وتعيد في نفس الوقت قادة الحركة العمالية إلى صوابهم، وتخرجهم من وراء قضبان الطائفية والمذهبية التي دخلوا أقفاصها بطواعية… تحركات تحدث توازنا في مقابل جشع أصحاب العمل المدعومين من الساسة الذين غالبا ما يكونون شركاءهم أو أنهم مجرد صور وهمية لهم…
نعم تحركات تقول لكل من تصدروا واجهة الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول/ اكتوبر:
إن خلافاتكم، وتنظيراتكم، وعمليات النقاش والسفسطة التي تمارسونها على شاشات الفضائيات، وأجهزة الإعلام المختلفة، لا تعنينا مطلقا… وتقول بالفم الملآن للسادة النواب الجدد، أقصد « التغييريين »، إن حقوق المواطنين ولقمة عيشهم أهم من الرفاهية التي تريدون إغراقهم بها، من خلال الولوج في مستنقع الزواج المدني والمواضيع التافهة الأخرى، أنتم ورجال الدين بكل طوائفهم… الشعب اليوم يريد أن يأكل، ويريد لقمة عيش كريمة شريفة بعيداً عن الإذلال، ويريد كهرباء، ومياه نظيفة، وتعليم حديث فعلي، ومدارس لائقة بأبنائه، ويريد طبابة لا تمر عبر مكاتب الساسة وأزلامهم، وضمان صحي شامل… وعندها سوف ندخل عصرا آخر، سيكون، ونكون بالتالي كيانا ووجودا بشرا مواطنين، وليس كان وياما كان…!

كاتب وباحث لبناني – باريس

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى