الأكاديمي اللبناني أنطوان حداد: “الطبعة الثانية” من الثورة ستكون أكثر عنفاً من دون السقوط في الفوضى الشاملة

رلى موفق

يرى الأكاديمي اللبناني والخبير في السياسات العامة الدكتور أنطوان حداد أنه من الطبيعي أن تكون الطبعة المتجددة من ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر ذات مكوّن عنفي أكبر من الطبعة الأولى نظراً لتفاقم الأزمة المعيشية خلال الأشهر الستة الماضية، لكنه لا يُبدي تخوفاً كبيراً من أن تتحوّل إلى فوضى شاملة، مراهناً على ما أظهره الجيش سابقاً من وعي وحكمة في إدارة حركة الشارع، بما أمن حق المتظاهرين الشرعي بالتعبير وبالتظاهر السلمي، وبالمقابل الحفاظ على النظام العام، عازياً غليان حركة الاعتراض في المناطق السنية، ولا سيما طرابلس في شمال لبنان، إلى عنصري ارتفاع منسوب الحرمان وتمتعها بحرية حركة سياسية.

ينظر حداد، الذي كان من مؤسسي “حركة التجدد الديمقراطي” مع السياسي الرفيع الراحل نسيب لحود، إلى الخطة الاقتصادية للحكومة على أنها الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، فمن إيجابياتها أنها تضمنت تشخيصاً مقبولاً وموضوعياً للوضع الكارثي وطلبت مساعدة صندوق النقد الدولي كأحد الأدوات التنفيذية، لكنه يشتمُّ وجود نوايا للترويج السياسي، أكثر من نوايا وضع لبنان على سكة الإنقاذ.

بقراءة أولية للخطة، يُفنّد ملاحظاته على الخطة، مُسجلاً غياب توزيع عادل للأعباء ومقاربة سطحية للبعد الاجتماعي في عزمها المعلن لمكافحة الفقر، فضلاً عن إغفالها تحديد الهوية الاقتصادية للبنان التي على أساسها تترتب طبيعة الاقتصاد والمالية العامة والسياسات العامة المتصلة بها.

وإذ يتوقع مواصلة سياسة محاصرة “حزب الله” أقله حتى موعد الانتخابات الأمريكية، والتي تُرجمت أخيراً بإدراجه من قبل ألمانيا على لائحة الإرهاب، فإنه لا يستبعد أن يضع ذلك “الحزب” والسلطة عموماً أمام خيارات أكثر صعوبة قد تدفعهم لإظهار رغبة أكبر بالانتقال إلى موقع تهدئة وتحييد للبنان.

وهنا نص الحوار:

* السقوط المدوّي لليرة وقيمتها الشرائية والارتفاع الهستيري للأسعار يؤشر إلى انفجار اجتماعي بدأت ملامحه في الشارع. هل نحن أمام طبعة جديدة من ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر أم أن البلاد تتّجه نحو الفوضى؟

**نحن أمام الاثنين معاً. من المؤكد أن هناك طبعة متجددة من ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر التي هي ثورة مدنية وسياسية بالدرجة الأولى تطالب بمحاربة الفساد وبالتغيير السياسي الشامل، إنما مع مكوّن عنفي أكبر، بفعل التفاقم الكبير في الوضع الاجتماعي وانتشار الفقر والغلاء والحرمان منذ 6 أشهر إلى الآن. ولكن من المؤكد أن الاثنين سيتعايشان لفترة طويلة. أما الفوضى، فمن المبكر الحديث عنها بالمعنى الشامل، أي لناحية تفلّت الأمور من أي ضوابط. ما زال هناك متّسع من الوقت لاستلحاق عدم السقوط في الفوضى الشاملة.

*استهداف القوى الأمنية من قبل الثوار مسار جديد يحمل مخاوف من الوقوع في الفوضى؟

**هذا الأمر لم يحدث باتجاه واحد. دعينا نستعيد تفاصيل ما حصل، فسقوط قتيل من الثوار برصاص الجيش، وإن كان بشكل عرضي، من الطبيعي أن يؤدي إلى احتجاجات صاخبة واشتباكات في الشوارع، هذه المسألة يجب ألا تفاجئنا لأن مَن يُراق دمه لا يمكن له أن يبقى متفرجاً. إن شاء الله تكون غيمة عنف عابرة وأن يعود الاحتجاج إلى شكله الطبيعي، ولا سيما بعدما شاهدنا مجموعة من الثوار تقدّم الورود إلى عناصر الجيش بحركة نبيلة جداً.

* ما سرّ اقتصار تعبيرات الحركة الغاضبة غير السلمية في الشارع على المناطق ذات الغالبية السنية؟

** يجب التمعن في هذا الأمر، فالمناطق التي حصل فيها غليان، وتحديداً طرابلس، يجتمع فيها عنصران، الأول هو الفقر المدقع الذي تعاني منه أكثر من أي منطقة لبنانية أخرى، وهي توصف بأنها المدينة الأفقر على ساحل المتوسط. أما الثاني فهو قدرة التحرك التي تتمتع بها المجموعات المدنية في هذه المدينة وتفتقدها أماكن أخرى. هناك مجموعات في مناطق أخرى لديها مستوى مرتفع من الحرمان لكنها لا تتمتع بنفس الحرية السياسية أو حرية الحركة الموجودة في طرابلس حيث الزعامات التقليدية التي كانت تمثل نوعاً من القيادة السياسية فقدت قسماً كبيراً من نفوذها. شهدنا بالتزامن تحركات في النبطية وصور ومزرعة يشوع والزوق وبيروت، وإن كانت غير عنفية.

* ثمَّة مخاوف من إغراق الشارع المنتفض بأجندات سياسية تقوده من الخلف ويتحكم فيها الأقوى والأكثر تنظيماً كحزب الله مثلاً؟

** ربما لدى البعض تخوّف من هذا النوع، لكني لا أتبنى عموما نظريات المؤامرة، وأحكم على الوقائع. ما نلمسه من خلال متابعة تحركات القوى المنتفضة لا يشي بهذا الأمر. ربما في أماكن أخرى هناك تحركات مدفوعة سياسياً من قبل قوى منظمة، لكن إحدى مشاكل هذه الثورة أنها غير منظمة ما يجعلها عرضة للاختراق، لكن ما شاهدناه حتى الآن، وخاصة في الفصل الأخير في طرابلس، لم يُظهر لنا هذا الأمر. هذه حركة عفوية فيها شوائب كثيرة بسبب عفويتها إنما لا ترقى إلى حد الاختراق.

* هناك خشية من الدفع في اتجاه فوضى تستدرج الجيش والشعب إلى المواجهة، فإما تؤول إلى المجازفة بالمؤسسة العسكرية كضامنة للوحدة والسلم الأهلي أو تُفضي إلى قيام حكومة عسكرية؟

** أنا أستبعد أن تحصل مواجهة مفتوحة أو مستديمة بين الجيش والمنتفضين، فبالرغم من أن “الطبعة الثانية” من الثورة ستكون أكثر عنفاً، لكن المرحلة الأولى منها أظهرت أن الجيش تعامل مع الشارع وحركته بطريقة ناجحة، ويبدو أن هناك وعياً سياسياً لدى قيادة الجيش والقوى الأمنية حول هذا الأمر، مع توقع بعض الاستثناءات العنفيَّة، فأحياناً كثيرة يحصل سوء تقدير للموقف من قبل أحد العناصر الأمنية أو سوء إدارة محلية من قبل الضابط المسؤول، لكن يبدو إن قيادة الجيش تُدير الأمر حتى الآن بحكمة، ضمن معادلة حماية الحق الشرعي بالتظاهر والتعبير السلمي مقابل الحفاظ على النظام العام. وهذا ما أقصده بإمكانية تفادي الفوضى، ولكن إلى متى؟ لا أعرف. أما قيام حكومة عسكرية، فهو أمر غير واقعي في لبنان. فدرجة تعقيد الاجتماع السياسي اللبناني وتوزّع مراكز القوى فيه يجعلان هذه الاحتمالية غير قابلة للتنفيذ.

* المراقب للحركة الاحتجاجية في طبعتها الأولى، رأى ارتفاعاً في منسوبها ونشاطها وفعاليتها، لكن فجأة شاهدناها تخبو، وركنت إلى حكومة تكنوقراط في الشكل، هل كنت تتوقع هذه النهاية؟

** دعينا نميّز بين مستويين، الأول تأثير أي تحرّك شعبي على آلية تشكيل السلطة، والثاني تأثيره على السياسات العامة وخيارات السلطة. طبعاً هناك تفاوت كبير في المستويين. في المستوى الأول، وتحديداً الحكومة – لأنها الوحيدة التي طالها التغيير- كان تأثير التحرك الشعبي ضعيفاً. أُعيد تشكيل الحكومة وفق موازين القوى بين الأطراف السياسيين الذين يشكلون عصب السلطة، أي “حزب الله” ورئاسة الجمهورية. ولم تلعب الانتفاضة أي دور، لأنه من غير الممكن أن يكون لها دور بدرجة تنظيمها الحالي.

وفي المستوى الثاني، أي تأثيرها بالسياسات العامة، لعبت دوراً أساسياً. اليوم هناك معادلة جديدة، لا أحد يأخذ قراراً في الحكومة أو على أي مستوى، سواء في السلطة أو المعارضة إلا ويحسب حساباً لرأي الشارع. هذا المسار قائم منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، ولا يقتصر الأمر على اللاعبين السياسيين، فالمجتمع الدولي وحتى المجتمع الاقتصادي بات يتطلع إلى ردّ فعل الشارع. صحيح أنه لم يكن للانتفاضة في المرحلة الأولى دور في تشكيل السلطة لكن هذا لا يعني أنه سيكون كذلك في المستقبل، خاصة إذا حصل تنظيم أكبر وإفراز قيادات لها برنامج موحد. عموماً يمكن القول إن الثورة الشعبية باتت تشكل حتى الآن قوّة معنوية وسلطة رقابة لا يُستهان بها.

* لكن هذه القوّة المعنوية لا تُصرف في السياسة، ولا تؤثر في عملية تكوين السلطة؟

**صحيح، لكن لا يعني أنها من دون تأثير. السياسة ليست فقط مواقع ومناصب، إنما أيضاً قرارات ومصالح، ويجب أن نتعوّد على هذا الشيء. حتى الآن هي سلطة رقابة معنوية، وهذا ما فشل به مجلس النواب نتيجة للانتخابات المشوّهة عام 2018، والتي جاءت بأناس يشبهون بعضهم من حيث بنيتهم الطائفية المتخلفة وتمثيلهم لمصالح لها علاقة بالقرون الوسطى، ما جعلهم يفقدون الشرعية. وبالتالي انتقلت آلية المحاسبة إلى الشارع. هذا وضع انتقالي سيستمر إلى حين إجراء انتخابات طبيعية غير مشوهة وغير مُعلّبة.

* قيل سابقاً إن وظيفة حكومة حسان دياب هي توفير “هبوط سلس أو هادئ” للانهيار المحتّم. هل هي قادرة على لعب هذا الدور؟

** لا أعرف إذا كان الهبوط الهادئ المتصل بالأزمة الاقتصادية ما زال ممكناً. هو يزداد صعوبة مع عملية إضاعة الوقت ويحتاج إلى حكومة تملك قاعدة اجتماعية وسياسية واسعة. مشكلة هذه الحكومة، قياساً بالحكومة السابقة، أنها قلصت قاعدة تمثيلها السياسي بالمعنى التقليدي، وبالمقابل لم تستطع أخذ ثقة الشارع والثورة، فدعمها السياسي يقتصر فقط على قسم من الطبقة السياسية التي كانت متكتلة في الحكومة السابقة المتهمة أصلا بالفساد. هذا يعني أنها تقف على أرضية رخوة، فيما الهبوط السلس يحتاج الى أرضية صلبة.

*كيف قرأت هجوم رئيس الحكومة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وردّ الأخير عليه؟ وهل أُعيد ضبط الأمور بعد هذه “المبارزة”؟

** يمكن قول الكثير في انتقاد السياسات النقدية لمصرف لبنان على مدى سنوات، وتحميله جزءاً كبيراً من المسؤولية. باعتقادي أن هناك مثلثاً يتحمّل مسؤولية تفاقم هذه الأزمة: السلطة السياسية، والسلطة النقدية، والمصارف.

أما “المبارزة” الأخيرة بين رئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان فهي تقع على تقاطع رغبتين: سعي رئيس الحكومة للحصول على شعبية ومصداقية ونفوذ أكبر، وسعي فريق رئيس الجمهورية، بدعم من حزب الله، لوضع يده على السلطة النقدية، وتصفية أحد المرشحين الدائمين لرئاسة الجمهورية.

من المؤكد أن السياسة النقدية بحاجة إلى إصلاح، لكن هذا لا يمكن أن يتم من خلال “المبارزة” والصراع على المواقع بين أطراف السلطة. النتيجة واضحة، حاكم مصرف لبنان أظهر أنه ما زال يملك الكثير من الأوراق، ربما أكثر من حزب الله في هذا الظرف، وقد أحسن استخدامها وخرج من المواجهة بما يضمن له البقاء حتى الآن في منصبه.

* هل تُشكّل خطة الحكومة للإنقاذ الاقتصادي خريطة طريق قابله للتحقيق للخروج من الانهيار المالي وإطلاق مسار النهوض؟

** هي خطوة أولى في رحلة الألف ميل. من القضايا الإيجابية أنها تتضمن تشخيصاً مقبولاً وموضوعياً للوضع الكارثي الذي وصلنا إليه، والذي لم نكن نحصل دائماً على تشخيص دقيق له، بل حسب أهواء القوى السياسية. النقطة الإيجابية الثانية أنها تستعرض احتمالات المعالجة، وتقول ما هي أدواتها، وخصوصاً أنها تريد تحكيم صندوق النقد الدولي وتطلب مساعدته تمهيداً للحصول على دعمه المالي. لكن المقلق هو مظاهر تقديم الخطة ومن ضمنها وصفها بـ”الإنجاز التاريخي” والتي تُظهر نوايا للترويج السياسي أكثر من نوايا وضع لبنان على سكة الإنقاذ. لبنان شهد خططاً على مدى الثلاثين الماضية، بدءاً من باريس 1 و2 و3 ومروراً بمؤتمر سيدر وصولاً إلى خطة ماكينزي. ولكي أكون موضوعياً، فإن أكثر الخطط جدية وشمولية وأفضل حتى من الخطة الحالية، مع فارق الزمن، هي الخطة التي قُدّمت في مؤتمر باريس 3 في العام 2007. فالخطة التي قُدمت بالأمس لم تستطع اعتماد سياسة واضحة حيال سعر صرف الليرة، وهذه نقطة جوهرية لأن ازدواجية سعر الصرف القائمة حالياً لها آثار خانقة على الاقتصاد، وتفقدنا القدرة على تمويل استيراد المواد الأولية الضرورية لاستمرار أي مرفق صناعي أو زراعي، مما يترتب عليه إقفال المصانع والشركات الكبرى.

*الحكومة تقول إن تثبيت سعر الصرف من مهمة مصرف لبنان؟

** في هذه المرحلة لا أحد يستطيع أن يرمي المسؤولية على الآخر، يجب أن يحصل تكامل وتفاهم بين السياسة النقدية والسياسة المالية للحكومة. الكلام الذي سمعته أن هذه المشكلة ليست من مسؤولياتي هو مجرّد ذريعة. لو كنا في ظرف طبيعي لأمكننا القول إن السياسة النقدية مستقلة، ورغم ذلك فإن التنسيق مطلوب.

* أي مخاوف لديك من الخطة؟

** من ملاحظاتي أنها تدّعي توزيع الأعباء بشكل عادل، لكنها رمت بثقل الأعباء بشكل مبالغ فيه باتجاهين: الأول أملاك الدولة، ما يعني توجهها لحل جزء من المشكلة عن طريق التخلي عن الأملاك العامة التي هي ملك للأجيال المقبلة، والثاني هو العبء الثقيل الذي تمَّ تحميله للمصارف التي -بمعزل عن أخطائها – لا يجوز الضغط عليها بطريقة تؤدي إلى تصفيتها. المطلوب إعادة هيكلة القطاع المصرفي لا تصفيته.

كان من الأفضل لو ركزت الخطة على المسائل التي تعطي نتائج مباشرة. من المعيب ألا نتطرق بالعمق إلى قطاع الكهرباء رغم انتقادات المجتمعين اللبناني والدولي المزمنة لكيفية التعامل معه. ومن المعيب كذلك ألا تتطرق الخطة لقضية التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية والتهريب عموماً لأنهما يشكلان نزيفاً كبيراً للاقتصاد ولمالية الدولة. وقف التهريب يؤمن للخزينة مليار دولار سنوياً وحل مشكلة الكهرباء ملياراً آخر.

ومن ملاحظاتي، أن الخطة تدّعي مكافحة الفقر لكن مقاربتها للبعد الاجتماعي سطحية. لم تشرح لنا كيفية دعم نصف الشعب اللبناني الذي أصبح بحاجة إلى المساعدة. ورغم أنها تُشدّد على تنقية حسابات المالية العامة ومكافحة الفساد وإصلاح النظام المصرفي، لكنها لم تتحدث عن هوية لبنان الاقتصادية؟ هذه القضايا لها مترتبات كبيرة في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية، فإذا أرادوا تعزيز السياحة واقتصاد المعرفة والخدمات المالية والتكنولوجيا المالية، فهل يستطيعون القيام بهذا الدور ولبنان يعاني من عزلة دولية بسبب تموضعه الإقليمي؟ هذه أمور ليست ثانوية او سياسية بالمعنى السطحي للكلمة، هذه أمور جوهرية لأنه على أساسها يترتب نوع الاقتصاد ونوع المالية ونوع السياسات العامة المتصلة بها.

*في غياب رؤية مشتركة حول وظيفة لبنان الاقتصادية، وفي ظل اختلال التوازنات السياسية، هناك مخاوف من محاولات لتغيير طبيعة النظام الحر؟

** لا أريد أن أبالغ أو أن أظلم الخطة، فهي في النهاية لا تُثير مثل هذه المخاوف. وجهة نظري أن النظام الاقتصادي اللبناني مأزوم ومعطّل ليس في جوهره بل في أدائه وطريقة تشغيله. لكن لا يوجد طرح جدي وعملي لاستبداله، ولا أحد قدّم بديلاً لغاية الآن، وتحديداً “حزب الله” القوة النافذة في السلطة. هو الأكثر راديكالية، ماذا يقول؟ هل قال مثلاً إنه يريد أن يُقيم نظاماً مشابهاً للنظام الإيراني أو السوري؟

*”استدارة نحو الشرق” هذا ما قاله السيد حسن نصر الله؟

** أعتقد أنه قصد تعزيز العلاقة مع الصين، وهذا لا يعني تغيير طبيعة النظام الحر. أولاً الصين أصبحت اليوم ثاني أكبر اقتصاد رأسمالي في العالم، ثانياً هي الشريك التجاري الأول للبنان، وبالتالي هي غير معنية للحلول مكان أحد في لبنان وتحديداً الولايات المتحدة. الكل يتمنى أن تزدهر العلاقات اللبنانية – الصينية ولكن على قاعدة التجارة الحرّة والتصنيع والتصدير وليس على قاعدة تغيير النظام الحر. أنا اتكلم عن الأنظمة الاقتصادية الحليفة لحزب الله في المنطقة، مثل إيران والنظام السوري. هي دول مأزومة، ولا حلول لديها لاقتصاداتها، فكيف للبنان؟

* دياب وقّع طلب مساعدة صندوق النقد الدولي؟ هل نحن أمام إقرار أو قبول ضمني من هذه القوى بأنها ستتخلى عن مصالحها أم هي لعبة “كسب وقت” كون التفاوض سيأخذ وقته؟

** الاثنان معاً، فلا تناقض بينهما. في الأساس “حزب الله” كان حذراً في تناول موضوع صندوق النقد، لا بل كان يميل إلى الاعتراض على هذا الموضوع ووضعه كخط أحمر. تطوُّر الموقف جاء بعدما لجأت إيران إلى صندوق النقد، وعندها لم يعد بإمكان “حزب الله” التذرع بأن الصندوق هو جهة لا يمكن الركون إليها. وفي الوقت نفسه تفاقم الأزمة في لبنان وانتفاء القدرة على الحل من دون اللجوء إلى مساعدة خارجية، فكل الدول العربية والأوروبية والمجتمع الدولي تؤشر باتجاه واحد وهو صندوق النقد، والممثل المقيم للأمم المتحدة في لبنان يذكرنا دائماً به.

هذه بداية الطريق، والتفاوض مع الصندوق يأخذ أشهراً إذا سارت الأمور بطريقة سلسة، في نهاية العام قد يظهر الخيط الأبيض من الأسود. السلطة ستكون أمام خيارات صعبة حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية لأن تطوُّر الوضع في هذه المرحلة يمكن أن يخلق حقائق تصبح معها منطلقات الخطة الاقتصادية في خبر كان. ففي البداية كان الافتراض أن السعر الواقعي للدولار هو 2000 ليرة، لكن مؤخراً تُبنى التوقعات على فرضية 3500 ليرة.

*كيف للحكومة أن تؤمّن متوجبات المرحلة الانتقالية ونحن نعيش انهياراً متمادياً؟

** قد نشهد نزاعات جانبية وتصفية حسابات وعمليات فرض نفوذ، كما شهدنا الأسبوع الماضي بين مواقع السلطة. إذا كانت أولوية الحكومة تحسين صورتها عبر التركيز على لوم الآخرين، بدل الإصلاح الحقيقي، فهذا لن يفيد. ثلاثة أنواع من القضايا يمكن أن تساعدنا على عبور المرحلة، أولاً الاستمرار بمعالجة الأمور الطارئة بطريقة عقلانية، كالواقع الذي فرضه وباء كورونا. وثانياً التركيز على شبكات الأمان للفئات الأكثر فقراً، وبرأيي المجتمع الدولي، وتحديداً البنك الدولي، جاهز هنا للمساعدة بمعزل عن مصير العلاقة مع صندوق النقد. وثالثاً الشروع الفوري بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي لا تتطلب أي تمويل أو مساعدة من الخارج. هناك خطوات لا أحد يمنعهم من القيام بها، وخاصة على صعيد خطة الكهرباء ومكافحة التهريب، ناهيك عن استقلالية القضاء وإقرار التشكيلات التي أجراها مجلس القضاء الأعلى.

* استعادة الثقة تجسدها الشروط الدولية للحصول على المساعدات، وهي البدء بالإصلاحات المطلوبة، برأيك، هذه الحكومة يمكنها أن تقوم بذلك؟

** التحدّي مطروح على القوى السياسية التي أتت بهذه الحكومة. هل ستسمح لها بالقيام بهذه الإصلاحات، ولو بالحد الأدنى؟ هذا يساعد على إعادة بناء الثقة أولاً مع اللبنانيين ثم مع الخارج، وهذا هو التحدي الأكبر. أما إذا غلّبوا قضايا أخرى من نوع من يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية سنة 2022 أو من يريد أن يظهر بطلاً أمام الرأي العام لدى طائفة معينة، أو من يريد تغليب القضايا المتصلة بالمحاور الإقليمية والصراعات الخارجية، أعتقد أن هذا سيكون مؤشراً سلبياً. وإذا سمحت القوى السياسية التي تمسك بالسلطة للحكومة أن تقوم بواجباتها، فأنا متأكد أن كثيراً من الوزراء الاختصاصيين يعرفون كيف يديرون الأمور تقنياً.

* كيف ستأتي حكومة يعتبرها الخارج حكومة “حزب الله” بالمساعدات والاستثمارات؟

** إذا بقيت الممارسات السابقة قائمة، لا يمكنها القيام بذلك، لكن أنا لا أحكم على الأمور من هذه الزاوية، ولا أحب تسمية الحكومة بأنها تابعة لأحد الأطراف، إنما أفضل إصدار الأحكام على الممارسات وعلى الخيارات والسياسات، ولا شيء يمنع هذه الحكومة ومن يقف خلفها، حزب الله ورئاسة الجمهورية، من القيام بواجباتها.

* فيما حكومة دياب تسعى إلى فتح ثغرة في الموقفين العربي والدولي لكسب الدعم، جاء الموقف الألماني بوضع راعي هذه الحكومة، أي “حزب الله”، على لائحة الإرهاب. ألا يدل ذلك على توسع العزلة وبالتالي استحالة الرهان على انقاذ عربي- دولي؟

** صحيح أن الأمر يبدو كذلك، لكن أنا لا أربط بشكل آلي بين الإعلان عن الخطة وما قامت به ألمانيا تجاه “حزب الله”، هذا أمر غير مفاجئ ويمكن أن تتواصل سياسة محاصرة “الحزب”، على المدى المنظور، أقله حتى موعد الانتخابات الأمريكية، وقد يستمر أو يتوقف بعدها. ما حصل وضع “حزب الله” والسلطة عموماً في لبنان أمام خيارات أكثر صعوبة قد تدفعهم لإظهار درجة أعلى من الرغبة بالانتقال إلى موقع تهدئة وحياد للبنان.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى