في سنة 1883 كان سير جون ماكدونالد، أوّل رئيس وزراء لحكومة كندا التي ولدت سنة 1867، قد خاطب مجلس العموم هكذا: «حين تكون المدرسة في منطقة التحفظ يعيش الطفل مع ذويه، وهم همج؛ وهو محاط بالهمج، ورغم أنه قد يتعلم القراءة والكتابة فإن عاداته وتلقينه ونمط تفكيره هندية. إنه ببساطة همجي يستطيع القراءة والكتابة. لقد آليت على نفسي بقوّة، بوصفي رئيس الإدارة، أن أسحب الأطفال الهنود بعيداً قدر الإمكان عن تأثير ذويهم، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك سوف تكون وضعهم في مدارس تدريب صناعية مركزية حيث يتوجب أن يتلقوا عادات وأنماط تفكير الرجال البيض».
كان ماكدونالد وراء التشريع المعروف باسم «القانون الهندي» الذي أقرّه البرلمان الكندي في سنة 1876 وأسفرت بعض تعديلاته اللاحقة عن إقامة مدارس داخلية سيق إليها نحو 150 ألف طفل انتُزعوا قسراً من عائلاتهم وأسرهم المنتمية إلى الأقوام الأصلية من سكان البلاد، والتي أطلقت عليها الرطانة الحكومية الكندية تسمية «الهنود». كان الهدف، كما أوضحه ماكدونالد أمام مجلس العموم، هو سلخ هؤلاء الأطفال عن محيطهم «الهمجي» وتربيتهم على نحو يجعلهم ينفصلون عن ثقافتهم «الهمجية» ويتشربون ثقافة الإنسان الأبيض. وفي أكثر من 139 مدرسة تعيّن على الأطفال بين 7 إلى 16 سنة أن يتعلموا مهناً صناعية مثل الحدادة والزراعة والتنظيف بالنسبة إلى الفتيان، والخياطة والتدبير المنزلي والطبخ بالنسبة إلى الفتيات؛ كما تحتم، استطراداً، أن يتعرضوا لانتهاكات شتى وضروب العقاب والتعذيب والاستغلال الجنسي.
وفي سنة 2015 أنهت «هيئة الحقيقة والمصالحة» الكندية تقريرها النهائي عن حقبة المدارس الداخلية تلك، وجاء في المقدمة: طوال ما يزيد على قرن، كان الهدف المركزي لسياسة كندا حول الأقوام الأصلية قد تمثّل في تصفية حكومات هذه الأقوام، وفي إهمال حقوقهم، وإبطال الاتفاقيات، واعتماد سيرورة استيعاب أدّت إلى إعدام وجود الأقوام الأصلية ككيانات قانونية واجتماعية وثقافية ودينية وعرقية في كندا. وكانت إقامة وتشغيل المدارس الداخلية عنصراً مركزياً في هذه السياسة، التي يمكن أن توصف على نحو أفضل بـ«الإبادة الثقافية». ويضيف التقرير: «الإبادة الفيزيائية هي القتل الجماعي لأعضاء جماعة مستهدَفة، والإبادة البيولوجية هي تدمير قدرة التكاثر لدى الجماعة، وأمّا الإبادة الثقافية فإنها تدمير تلك البنى والممارسات التي تتيح للجماعة أن تواصل البقاء كجماعة.
والدول التي تنخرط في الإبادة الثقافية تستهدف تدمير المؤسسات السياسية والاجتماعية للجماعة المستهدَفة. الأرض تُصادر، والسكان يُجبرون على الانتقال وتقييد الحركة، واللغة تُحظر، ويُضطهد القادة الروحيون، وتمنع الشعائر الروحية، وتُصادر الموادّ ذات القيمة الروحية. وما يتسم بمغزى أهمّ في هذا أنّ الأُسَر يجري تفكيكها لمنع تناقل القيم الثقافية والهوية من جيل إلى جيل».
ولأنّ الحكومة الكندية أوكلت إلى الكنائس الكاثوليكية إدارة تلك المدارس الداخلية والإشراف عليها، ثمّ لأنّ الحكومة الكندية اعتذرت رسمياً عن تلك السياسة في سنة 2008 ودفعت المليارات على سبيل التعويض للضحايا، وأخيراً لأنّ مصادفة رهيبة شاءت أن تنكشف في سنة 2015 مقبرة جماعية في منطقة بريتيش كولومبيا احتوت على 1000 مقبرة… فقد تقدّم أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في كندا باعتذار رسمي عن أدوار كنائسهم في ذلك النظام الشائن، ثمّ أبدى البابا فرنسيس أسفه في نيسان (أبريل) الماضي لدى استقباله في الفاتيكان وفداً من الأقوام الأصلية، وها هو اليوم يطلب الصفح صراحة خلال زيارته الحالية إلى كندا، بصدد «الطرق التي تعاون بها العديد من أعضاء الكنيسة والجماعات الرهبانية، وأيضاً عبر ما أظهروه من اللامبالاة، في تلك المشاريع المدمّرة للثقافات وفي الاستيعاب القسري، والذي بلغ ذروته في نظام المدارس الداخلية الإجبارية».
وأن يصل الفاتيكان متأخراً إلى طور الاعتذار خير من ألا يصل أبداً؛ الأمر الذي لا يمنحه فضيلة الشكّ دائماً، مسبقاً، أو على طول الخطّ. المثال على هذا موقف الفاتيكان من جرائم الحرب التي ارتكبها ويرتكبها النظام السوري، خاصة تلك التي تُصنّف بسهولة في خانة الفظائع والمجازر وأنساق العقاب الجماعي والإبادة. على سبيل المثال، في صيف 2013 حين افتُضحت أخبار المجازر الكيميائية في الغوطتَين الشرقية والغربية، اكتفى الفاتيكان بالدعوة إلى «الحذر في التعامل مع الادعاءات والمزاعم» حول مسؤولية جيش النظام عن استخدام أسلحة كيميائية هناك؛ كما حضّ على «عدم إطلاق أحكام إلا بعد الحصول على دليل واضح» حسب الأسقف سيلفانو توماسي، المراقب الدائم للفاتيكان لدى مقرّ الأمم المتحدة في جنيف. أيضاً، في مقابلة مع إذاعة الفاتيكان الرسمية، اعتبر توماسي أنّ «السؤال الحقيقي المطروح بهذا الصدد هو من المستفيد الحقيقي من هذه الجريمة اللاإنسانية». وكي لا يظلّ المشهد خالياً من هوية المذنب، أشار الأسقف إلى أنّ «التسرّع في إصدار الأحكام خلال أزمنة الحرب والنزاع، خاصة من جانب وسائل الإعلام، لا يقود دائماً إلى الحقيقة، ولا يجلب السلام!»
من جانبه كان الأب أدولفو نيكولاس، الرئيس العام للرهبانية اليسوعية، قد أدلى بدلوه أيضاً، ضمن توجّه مماثل لا يتعمد تبرئة النظام السوري من المجازر الكيميائية، فحسب؛ بل يلقي باللائمة على الآخرين، في صفوف المعارضة السورية أو خارج البلد. لقد انتقد الضربات التي تردّد أنّ الولايات المتحدة وفرنسا على وشك توجيهها إلى النظام السوري، وهذا حقّه بالطبع، وثمة كثيرون يوافقونه الرأي من منطلق التعاطف مع الشعب السوري، ضحية كلّ تدخل أجنبي، وليس بسبب أيّ تعاطف مع النظام. غير أنّ نيكولاس اعتبر أنّ الضربات هذه ـ وليس المجازر الكيميائية، البتة! ـ هي التي تدفع البشرية إلى «ردّة نحو الهجمية»؛ فتخسر فرنسا موقعها كـ»مرشد حقيقي للفكر والذكاء، له إسهام كبير في الحضارة والثقافة» وتفقد الولايات المتحدة ما كان الأب اليسوعي يكنه لها من إعجاب بالغ!
والحال أنّ ذلك المشهد الفاتيكاني ـ البائس سياسياً والمتعامي أخلاقياً عن رؤية الحقائق الدامغة، والمرتاح إلى مساواة الضحية بجلاّدها… ـ لم يكن جديداً على مواقف الصرح البابوي من الملفّ السوري، ولا يلوح أنه سيكون خاتمة التعامي. وثمة مقدار فاضح من التشويه، فضلاً عن التهويل، طبع تغطيات وكالة أنباء الفاتيكان للوقائع السورية منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية؛ يشدد، بالطبع، على أوضاع مسيحيي سوريا، ويكيل شتى التهم إلى المعارضة عموماً، والفصائل الإسلامية بصفة خاصة؛ بحقّ نادراً، ودون وجه حقّ غالباً. وثمة، في هذا المضمار، سوابق كثيرة سارت على المنوال ذاته، واتضح أنها عارية عن الصحة تماماً، في المقام الأوّل؛ كما أنها، في المقام الثاني، تكشف تلك المنهجية القصدية التي تتوخى التضخيم، وتتلقف التقارير المغالية، أو الكاذبة عن سابق قصد، وتتبناها كحقائق مسلّم بصدقيتها.
يومذاك، حين أعلن البابا فرنسيس أنّ قلبه «مجروح بعمق بسبب ما يحدث في سوريا، ومهموم من التطورات المأساوية الماثلة أمامنا» سارع أساقفة دمشق إلى إصدار بيان يعيد إنتاج خطاب النظام السوري، ذاته، حول نظرية المؤامرة الخارجية؛ ليس على سوريا وحدها هذه المرّة، بل على المنطقة بأسرها، فقال البيان إنّ دعوة البابا «تأتي فى وقت تتعرض فيه سوريا إلى حرب من قبل دول وأنظمة جلّ همها القضاء على سوريا وتاريخها ومستقبلها، إضافة إلى خلق حالة من الفوضى والرعب في جميع دول المنطقة»!
كأنّ البابا في واد، يعتذر بقلب حزين؛ وكثير من أساقفته في واد آخر، يتغافلون ويتعامون.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي