برغم مرور سبعين سنة اليوم على 23 يوليو 1952، فإن الثورة التى حملت هذا الاسم ، لم تتحول إلى تاريخ موضوع على الأرفف وفى المكتبات ، بل تحولت إلى مثال معيارى ، تقاس على أساسه تصرفات وسياسات عبث ، هوت بنا من الحالق إلى الفالق ، منذ طوت هذه الثورة آخر أوراقها مع حرب أكتوبر 1973 ، بعد ثلاث سنوات على رحيل رمز الثورة وقائدها جمال عبد الناصر .
وفى أوائل أكتوبر 1970 ، أى بعد رحيل عبد الناصر الصادم المفاجئ بأيام ، استعاد المرموق “أحمد بهاء الدين” سطوراً مما كتب ، وهو من هو فى الطراز الفكرى والمهنى الأرفع ، وصاحب مدرسة “فكر بعمق واكتب ببساطة” ، استعاد “بهاء” وقتها مقالاً كان كتبه فى يناير 1970 ، وكان عبد الناصر لا يزال بيننا وأمامنا ، وحمل المقال مع إعادة نشره عنوان “ماذا كان عبد الناصر وماذا سنكون ؟!” ، وجاء فى المقال ـ النبوءة “من النادر جداً فى عالم السياسة ، أن يحدث مثل هذا التركيز المطلق على شخص قائد ، كالتركيز الذى هو حادث اليوم على شخص عبد الناصر ، فالشرق الأوسط منطقة هامة وحساسة ، لا يمكن أن تغفلها أى قوة كبرى من حسابها ، وكل قوة من القوى تحمل فى مخيلتها خريطة تتمناها لهذا الشرق الأوسط ، وتعمل على تحقيقها ، وعبد الناصر يقف كحجر العثرة فى طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة ، هكذا كان منذ سبعة عشر عاما ولا يزال ، القوى الدولية المتصارعة والكتل السياسية هنا وهناك ، فرنسا يوما وانجلترا يوما آخر وأمريكا يوما ثالثا ، وإسرائيل كل يوم ، ومتعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها ، والمشكلة هى زعامة عبد الناصر ، ذلك أننا إذا أردنا فى حقيقة الأمر ، أن نلخص دور عبد الناصر إلى أقصى درجات التلخيص ، وأن نلخص الموجة التى دفعها والتى حملته فى نفس الوقت ، لقلنا أن معركته هى معركة من يريد أن تكون الإرادة فى المنطقة العربية إرادة عربية ، والقول فى مستقبل العرب للعرب ، ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المحركة فى المنطقة مربوطة فى النهاية إلى أيد غير عربية ، وإرادات غير عربية (….) وجود عبد الناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به ، ويحجر بالتالى على حرية الذين يريدون أن يلعبوا فى المنطقة ، والقوى الكثيرة التى تريد أن تتخلص منه ، تريد أن تسترد حرية اللعب ، وأن تضع كل منها قواعد اللعبة التى تناسبها ، وهى حرية لا يتمتعون بها فى وجود قيادة عبد الناصر وما تمثله لدى الجماهير العربية (…) يثيرهم أن ترتبط اللعبة فى المنطقة كلها به وهو منتصر ، ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو غير منتصر ، ذلك أنهم يرون المغزى هنا أعمق والارتباط أقوى ، وهم لايتمنون إلا أن تدب الفوضى ويعم التسيب ، فتنقض الذئاب الغريبة عن المنطقة العربية على القطيع تلتهمه واحدا واحدا” .
انتهى الاقتباس المطول من مقال “أحمد بهاء الدين” المذهل ، وقد كان الكاتب نفسه من ضحابا نبوءته البصيرة ، حين صحا ذات صباح على مشهد اكتساح دبابات “صدام حسين” لأراضى “الكويت” ، ولم يستطع قلبه المرهف تحمل الصدمة ، فسقط العقل فى متاهة الغياب ، وفى ظلام الغيبوبة الثقيلة لست سنوات متصلة ، انتهت بوفاته فى 24 أغسطس 1996 ، فقد عاش “بهاء” أزمة العراق والكويت نفسها زمن عبد الناصر ، ورأى كيف ردع عبد الناصر قرار الزعيم العراقى “عبد الكريم قاسم” فى غزو وضم الكويت ، تماما كما جرى فى عشرات الأحداث العاصفة الأخرى ، بينها نذر حرب أهلية بلبنان ، مع تدخل الأسطول الأمريكى السادس وقت رئاسة “كميل شمعون” ، وفى منع خطر غزو تركى لسوريا أراده الزعيم التركى “عدنان مندريس” ، والتدخل بالوحدة لحماية الكيان السورى ، وفى اختصار زمن المعاناة اليمنية بالتدخل العسكرى لدعم الثورة ، وفك حصار “صنعاء” الجمهورية ، وفى دعم كل ثورات التحرير فى المنطقة ، وفى الإسناد العفوي لثورة الجزائر وتحريرها من الاحتلال الاستيطانى الفرنسى ، وفى التصدى للأحلاف والقواعد العسكرية الأجنبية ، وإسقاط مؤامرات “حلف بغداد” و”الحلف المركزى” ، وفى هزيمة العدوان الثلاثى 1956 وقطع ذيل الأسد البريطانى ، وإطلاق موجة التأميمات الوطنية ، التى استوحت ملحمة تأميم قناة السويس ، التى لم نكن لتعود إلى مصر سلما مع انتهاء فترة الامتياز البريطانى الفرنسى المفروضة إلى عام 1968 ، لو لم يستردها عبد الناصر بقرار التأميم ، ومعه بناء السد العالى ، وإطلاقه لنداء “بترول العرب للعرب” ، وبناء لبنات التعليم والإدارة الأولى فى كل أقطار الخليج ، ولم يكن لذلك كله أن يجرى فى هدوء ، بل تآمرت على عبد الناصر ونظامه كل القوى الراغبة فى الاستيلاء على المنطقة وقرارها ، وكانت حرب 1967 ، التى أسمتها المخابرات الأمريكية “عملية اصطياد الديك الرومى” ، ووقعت الهزيمة الفادحة الخاطفة ، التى تحمل عبد الناصر مسئوليته عنها ، وقرر التنحى ، وأعادته جماهير 9 و 10 يونيو 1967 المليونية الطوفانية المتدفقة تلقائيا ، ليخوض الرجل أعظم ملاحمه ، ويعيد بناء الجيش من نقطة الصفر ، ويقود حرب الاستنزاف ، التى كانت أطول صدام بالنار مع كيان الاحتلال الإسرائيلى وأمريكا من خلفه ، وكونت لمصر وأمتها كوكبة من الجنرالات الذهبيين العظام ، صنعوا معجزة العبور فى حرب أكتوبر 1973 ، التى كان عبد الناصر قد أعد أدواتها وخططها ، وصولا لبناء حائط الصواريخ العظيم ، الذى لم يكن للعبور أن يتم بدونه ، وفى قلب المعركة وابتلاءاتها ، كان سعى عبد الناصر الأخير لإنقاذ منظمات المقاومة الفلسطينية فى حرب الأردن ، ووقف سفك الدماء العربية بالأيدى العربية ، وما إن أتم عبد الناصر دورة حضوره الحى فى التاريخ ، وقد امتد بالقصور الذاتى والتعبئة الشاملة حتى حرب أكتوبر ، وحتى كان ما كان ، من خذلان السياسة لنصر السلاح ، وإحلال الركام محل النظام ، والاندفاع فى تفكيك ركائز التقدم والدور المصرى القيادى ، وانفجار الأوضاع فى المنطقة كلها ، وتوالى سلاسل الحروب الأهلية ، بدءا من حرب لبنان 1975 ، إلى ما شهدناه بعدها ولليوم من خراب ودمار وحروب داخلية فى أقطار عربية ، من الصومال إلى السودان فالعراق واليمن وليبيا ، وبالأيادى غير العربية بالشراكة مع العدو ، ومع غياب الإرادة العربية والقرار العربى فى تقرير مصائر المنطقة ، التى تحولت إلى ملاعب دم ونار أشعلها الأقربون والأبعدون من الغرباء .
لقد قفزنا إلى المجهول المرعب الذى تنبأ به “أحمد بهاء الدين” قبل 52 سنة ، وقتها كتب بالنص “أعرف ساسة ورسميين وأفرادا عاديين فى أقطار عربية شتى ، ليسوا من الملتقين مع أفكار عبد الناصر ، ولم يكونوا دائما من الواقفين معه ، ولكنهم حتى هم فى ساعات الظلام والخطر والغموض ، يجدون أن زعامة عبد الناصر تعنى لهم شيئا ، وتعنى عدم القفز إلى المجهول ، يقول لى مسئول فى ركن قصى صغير من أركان العالم العربى : الأجنبى حين يتعامل معنا ، يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية ، وهذا شئ أوجده عبد الناصر” ، قال “بهاء” قولته قبل وفاة عبد الناصر ، وحين رحل الرمز والقيادة والزعامة الجامعة ، أضاف “بهاء” وصيته الداعية لملء فراغ الرحيل ، وبفقرة قاطعة قال فيها “نقول شيئا واحدا ، أن هذا الدور لابد أن يملأ، ولا يمكن أن تملأه إلا مصر كلها ، لأن فى استمرار هذا الدور حياتها وحياة كل العالم العربى” ، ولا بد أن كلام “بهاء” القديم يذكرك بما يجرى هذه الأيام ، وبأحاديث الرئيس الأمريكى “بايدن” عن ملء فراغ منطقتنا العربية ، وعن ضروروة ألا تترك أمريكا وإسرائيل الفراغ العربى لتزحف إليه روسيا والصين وإيران ، وكأن التاريخ يعيد نفسه ، وتستعاد عظاته ودروسه التى لا تفنى ، حين روجت أمريكا زمن “أيزنهاور” لنظرية ملء الفراغ نفسها فى خمسينيات القرن العشرين ، وأرادت صناعة ما أسمته سلاما ودمجا بين “إسرائيل” ومصر وقتها ، وهو ما رفضته ثورة يوليو بزعامة جمال عبد الناصر ، وأكدت أن المنطقة لأهلها لا لغيرهم ، وصارعت كل المطامع الأجنبية ، وانتقلت من كونها ثورة مصرية إلى ثورة عربية شاملة ، وصعدت بحركة القومية العربية الجبارة إلى أعلى ذراها ، ففى المنطقة أمة واحدة وشعوب متعددة ، تحلم بالحرية والكرامة والتقدم والوحدة ، ويختلف أهلها كما تختلف شعوب الأمم كلها ، لكنها تظل على شعور وسلوك التاريخ الواحد والمصير الواحد ، ولا تترك بين أهلها فراغا يحتله غيرها ، فقد كان هنا عبد الناصر ، وتكون الأمة من بعده إلى وقت نهوض تحلم به .
المصدر: القدس العربي