لا زيارة للوسيط الأميركي إلى بيروت وحديث عن أن “قانا” حقل وهمي ومطالبات بدراسات جيوفيزيائية. على الرغم من تأكيد الرئيس اللبناني ميشال عون أن ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية يقترب من الحل، وتبشير وزير الخارجية عبد الله بو حبيب بموعد للاتفاق بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، إلا أن الأمور تبدو وكأنها تراوح مكانها.
وفي مواقف واشنطن المعلنة، تحدث الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس عن إحراز تقدم في هذا الملف، وهو ما كان أعلنه الوسيط الأميركي آموس هوكستين بعد آخر زيارة له إلى بيروت، التي استكملها باتصال مع المسؤولين الإسرائيليين ومحادثات مع وزيرة الطاقة في تل أبيب، على هامش زيارة الرئيس جو بايدن للشرق الأوسط.
المعلوم أن هوكستين كان حمل إلى الجانب الإسرائيلي اقتراحاً لبنانياً موحداً تضمن المطالبة بحقل قانا بالكامل مقابل حصول تل أبيب على حقل كاريش، على أن يتم اعتماد الخط 23 بدلاً من 29، لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، الذي وعد بالقيام بكل ما يلزم لدعم التقدم الحاصل في ملف ترسيم الحدود ودفعه إلى الأمام، أعلن أيضاً أن هوكستين لن يزور المنطقة، وأن وزارة الخارجية الأميركية لم تعلن عن أي سفر له، ما يعني أن لا عودة قريبة إلى المفاوضات، وأن الملف قد يكون معلقاً حتى تحين اللحظة الإقليمية له، هذا إن وصلت.
مفعول المسيرات
لم يشر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إلى المسيرات التي أطلقها حزب الله فوق حقل كاريش، ولا إلى تهديد الأمين العام للحزب حسن نصر الله بقلب الطاولة على المنطقة، والاستعداد للمواجهة إذا استمرت إسرائيل باستخراج الغاز قبل إبرام الاتفاق مع لبنان ليتمكن من استخراج غازه أيضاً، علماً بأن إسرائيل لم تخفِ انزعاجها، ملمحة إلى تأثير سلبي للمسيرات على الملف.
وأكد مصدر دبلوماسي لـ”اندبندنت عربية” أن ملف الترسيم لم يعد بين لبنان وإسرائيل، بل صار جزءاً من المواجهة الأميركية العربية الإسرائيلية من جهة، والإيرانية الروسية من جهة أخرى.
وأوضح المصدر أنه بعد أن انتقل نصر الله من موقع وراء الدولة إلى المقرر عنها، وبعد تعثر الاتفاق النووي مع إيران، واستمرار تمددها في المنطقة، وعلى حدود إسرائيل من خلال حزب الله ومسيراته، فإن تل أبيب باتت بحاجة إلى اتفاق أمني مع لبنان تبين أن الدولة اللبنانية عاجزة عن القيام به بعد عدم قدرتها على التحكم بقرار مسيرات الحزب.
في المقابل، يؤكد مصدر أوروبي أن هناك اتفاقاً دولياً وعربياً ولبنانياً على إنهاء ملف الترسيم، والعمل على انضاج التسوية بنجاح، وأن التريث الحاصل لا يعني تأجيلاً للموضوع الذي يسير بخطه الإيجابي، على حد وصفه، وقد تم الاتفاق على سحبه من التداول الإعلامي لعدم استغلاله بالشعبوية أو العنتريات.
وكشف المصدر الدبلوماسي الأوروبي لـ”ادندبندنت عربية” عن أن هناك إصراراً دولياً على إنهاء هذا الملف من خلال المؤسسات الرسمية والوساطات الدبلوماسية، وقد تم التعامل مع كلام نصر الله الأخير على أنه رسالة إيرانية وليست لبنانية تذكر بوجود إيران على حدود إسرائيل، كما هدف نصر الله إلى تطمين بيئته وحلفائه.
وأشار المصدر الأوروبي إلى أن فرنسا تواصلت مع حزب الله ونقلت له رسالة بأهمية المحافظة على الاستقرار وعدم العبث بالوضع الأمني على الحدود.
هل أخطأ لبنان؟
بانتظار أن تتوضح صورة الوساطة الأميركية ومسار المفاوضات غير المباشرة وإعلان توقيتها، ومدى ارتباط الملف بالمواجهة الإقليمية، يتكرر في الداخل اللبناني سؤال واحد: هل أخطأ لبنان في الاقتراح الذي قدمه لهوكستين؟ وما الخطوات التي يجب أن ترافق هذا الاقتراح ليضمن لبنان حقه؟
الخبير في التنقيب عن النفط فؤاد جواد، قال إنه لم يكن على لبنان أن يسير بمعادلة قانا مقابل كاريش قبل التأكد من حقيقة وجود حقل اسمه قانا، حيث لا شيء يثبت وجود هذا الحقل، مؤكداً أنه استناداً إلى دراسات أجراها فإن حقلي كاريش وقانا هما حقل مشترك، وهذا ما لا تعرفه السلطات اللبنانية.
وأضاف جواد أنه بالتوازي مع المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، التي يجب أن تحدد المراسيم والنقاط التي يجب اعتمادها، على لبنان أن يسير في مسار الدراسات الجيوفيزيائية وإجراء مسح لتحديد مكان النفط في المنطقة المتفق عليها التي لا تشمل حقل كاريش، وتبلغ مساحتها نحو 1700 كيلومتر مربع، وإلا فكيف يمكن للوفد اللبناني أن يفاوض من دون معلومات علمية يمكن من خلالها أن يحدد الربح والخسارة، والتأكد من وجود حقل قانا.
وأكد جواد أنه يمكن إرسال عريضة إلى الأمم المتحدة لأخذ الإذن بإجراء الدراسات والمسح الجيوفيزيائي قبل حسم أي أمر، أو التقدم بطلب إلى الوسيط الأميركي آموس هوكستين من أجل السماح للبنان بالقيام بالدراسات خلال 6 أشهر بالموازاة مع استكمال المفاوضات.
وبحسب جواد، فإن “الخطيئة التي ارتكبها المسؤولون في ملف ترسيم الحدود البحرية كانت الإهمال والانتظار والتأجيل، فيما كانت إسرائيل تحفر الآبار وتستعد لاستخراج الغاز والنفط”.
ويتساءل لماذا انتظرت السلطات اللبنانية 6 سنوات قبل الاعتراض على حقل كاريش؟ وماذا كانت تفعل كل تلك الفترة؟ ولماذا التزمت الصمت؟ مضيفاً أن “الصمت هو في أغلب الأحيان علامة الرضا”.
ويرى الخبير في شؤون التنقيب أن السياسيين في لبنان كانوا في غياب تام عن الموضوع، وقال إنه كان أول من أبلغ رئيس لجنة الطاقة السابق محمد قباني عن وجود حقل كاريش، حيث اكتشفه أثناء قيامه بأبحاث جيولوجية عن منطقة شرق البحر المتوسط في مكتبه بتكساس.
“إنرجي” إسرائيلية و”توتال” هي الحل
تردد أن هوكستين ذكر، في الاقتراح الأخير الذي حمله إلى لبنان، عبر السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا، أن تتولى الشركة العاملة حالياً في حقل كاريش التنقيب عن الغاز في حقل قانا أيضاً.
وشركة “إنرجي” المكلفة من إسرائيل بأعمال التنقيب في كاريش، بحسب جواد، من أصل يوناني، لكنها مسجلة في سوقي أسهم لندن وتل أبيب، والمعروف أن أي شركة لا يمكن أن تسجل في إسرائيل إلا إذا كانت إسرائيلية. وتساءل هل تسعى إسرائيل إلى ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال إنرجي؟ وهل يستطيع لبنان تكليف شركة إسرائيلية بالتنقيب عن الغاز في مياهه؟
في الاقتراح الأميركي أيضاً، ترك توزيع الحصص للحقول المشتركة بين لبنان وإسرائيل إلى الشركة المشغلة، وهنا يسأل الخبير في التنقيب ما هي النسب؟ وماذا تعني؟ وكيف ستحتسب؟ وهل هي من نسبة الملكية لكل طرف في هذا الحقل أم احتساباً للفائدة العملية؟
في المقابل، كشف مصدر أوروبي لـ”اندبندنت عربية”، أن شركة “توتال” أبدت استعدادها لشراء كميات النفط والغاز مباشرة قبل عملية التنقيب وقبل الاستخراج بمجرد إعلان التوصل إلى اتفاق نهائي حول الحدود، ما قد يطمئن لبنان إلى إمكانية استغلال غازه بالتزامن مع بدء إسرائيل تصدير الغاز إلى أوروبا، كما أن هذه الخطوة قد تجنب لبنان مشكلة تأمين بيع الغاز المستخرج من مياهه لعدم مشاركته في الاتفاق الذي يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل.
الخط البحري الأنسب
بالعودة إلى الخطين 23 و29 وأيهما يجب أن يعتمد لبنان، وهل أخطأ في التنازل عن الـ29؟ أجاب جواد أنه بعد التأكد من وجود حقل قانا من خلال الدراسات الجيوفيزيائية يمكن عندها الحديث عن خط ثابت ينطلق من الخط 23 باتجاه الناقورة، وهو الخط نفسه الذي اقترحه لبنان على الوسيط الأميركي في الزيارة الأخيرة له إلى بيروت.
وكشف عن أن هذا الخط يمر بين حقلي كاريش وقانا، حيث إن هناك مساحة خالية بين الحقلين، ليصل إلى الخط 29 بالقرب من الناقورة، لافتاً إلى أن الكميات المتوقعة من غاز ونفط في المنطقة الجنوبية فقط تقدر بنحو تريليون دولار أميركي، خصوصاً إذا بقيت أسعار الغاز على هذا الارتفاع.
الدراسات الجيوفيزيائية
اعتبر الخبير في شؤون التنقيب عن النفط أن المشكلة الأساسية في ملف ترسيم الحدود هي أن المخزون النفطي لا يحترم الخطوط والنقاط بين لبنان وإسرائيل، لأنه مع التغيرات في ضغط المخزون قد تنتقل مع الوقت كميات الغاز من مكان إلى آخر.
ودعا إلى التركيز على مصلحة لبنان وعلى أكبر حصة منطقية له من الإنتاج الإجمالي للنفط والغاز بدلاً من التركيز على الخطوط المقترحة، وقال إن “هذا لن يتحقق إلا من خلال العودة إلى تشخيص المعلومات الجيوفيزيائية المتعلقة بالمنطقة المتنازع عليها، حتى يتمكن لبنان من اكتشاف العلاقة الجيولوجية بين حقلي كاريش وقانا غير المؤكد”. وتساءل عما إذا كانت إسرائيل، استناداً إلى الدراسات الجيوفيزيائية التي أجرتها، تعلم أن قانا غير فعلي؟ وهل هو سبب موافقتها بقبول معادلة قانا مقابل كاريش؟
وكشف جواد عن أنه سبق وعرض على الوفد اللبناني المفاوض، الذي كان يرأسه العميد بسام ياسين، ضرورة إجراء الدراسات والمسح الجيوفيزيائي للمنطقة المتنازع عليها قبل الدخول في المفاوضات، لكن الوفد تجاهل الاقتراح لعدم توفر كلفة الدراسات التي تبلغ 100 مليون دولار أميركي.
المصدر: اندبندنت عربية