قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نهاية القمة التي انعقدت في طهران، وجمعته مع الرئيسين الإيراني، رئيسي، والتركي، أردوغان: إن الأطراف الثلاثة ملتزمة مواصلة الجهود الرامية إلى عودة الوضع في سورية إلى “طبيعته”.
أي طبيعة هذه التي يعملون على إعادة سورية إليها؟ لم يعد خافياً على أحد ما قامت به هذه الأطراف، وصنعت واقعاً في سورية، صار من الصعوبة البالغة إعادتها إلى نقطة انطلاق أحلام أبنائها بمستقبلٍ طالما تطلعوا إليه. فما الجديد في ما اتفق عليه، أو تداوله الرؤساء الثلاثة، عن الأزمة السورية الممتدة منذ سنوات، والمفتوحة على آجالٍ لا يمكن التكهّن بها؟
العنوان العريض، الذي شكّل حمّالة الذرائع على طول الأزمة السورية هو: محاربة الإرهاب، ولأجل هذا “الإرهاب” متعدّد الوجوه، دارت المعارك الطاحنة، معارك حرب المصالح بين قوى العالم، الكبرى والإقليمية، على أرض سورية، فكانت النتيجة دماراً شاملاً وتهجير نصف الشعب وإفقار الباقي وتجويعهم. لقد مارسوا الإرهاب بأبشع أساليبه وصوره بحق شعب ودولة يُفترض أنها ذات سيادة، لكن المؤسف أن الحقيقة التي يجب عدم إغماض العينين عنها، أن الشعب السوري، في الأساس، كان فاقد السيادة على قراره ومصيره ومستقبله، فكانت النتيجة استدعاء هذه القوى وانقسام الشعب وتشرذمه وارتهانه إلى تلك الإرادات الخارجية، وفقدانه حتى القليل الذي كان يمتلكه من قراره وحياته.
أعرب الرؤساء عن رفضهم المحاولات الرامية إلى “إيجاد حقائق جديدة على الأرض بذريعة مكافحة الإرهاب، بما في ذلك مبادرة الحكم الذاتي غير المشروعة، وأعربوا عن تصميمهم على الوقوف في وجه المخطّطات الانفصالية الهادفة إلى تقويض سيادة سورية وسلامتها الإقليمية”. والواقع أن تركيا ماضية في هدفها بشنّ عملية عسكرية لضمان عمق ثلاثين كيلومتراً في الأراضي السورية، وإيران تدافع عن وجودها الراسخ في سورية، وروسيا التي لها عدة قواعد عسكرية، والاثنتان لهما عدو يجاهران بعداوته: أميركا. هكذا، بمنتهى الوضوح والفجور يتكلمون عن السيادة، بينما يجتمعون ليتدارسوا قضية شعبٍ بكامله، ويتفاوضوا ويجترحوا الحلول، ولا وجود لممثلٍ عن هذا الشعب، فأين السيادة، يا سادة؟
وهم إذ جدّدوا تأكيد التزامهم استقلال الأراضي السورية ووحدتها، فهذا لا يعدو أن يكون كلاماً بلا حياء، لأن واقع سورية بات مقسّماً، تحتل سماءه راياتٌ بألوان متعدّدة، وفوق أرضه مئاتٌ من المواقع العسكرية لجيوش لا عدّ لها. وفي ما يتعلق باللاجئين والنازحين وضرورة عودتهم الآمنة إلى بلادهم، فإن عودتهم التي يطالبون بها مرهونة بما تؤول إليه المفاوضات والاتفاقيات ومدى القدرة على تنفيذها، ومدى توافر الشروط اللازمة لهذه العودة في سورية، فإلى أين يعود المهجّرون، وما زالت سورية بلاداً ترزح تحت ركامها على مختلف الأصعدة؟ لا بنى تحتية، لا مساكن تُؤوي العائدين، لا خدمات، لا فرص عمل، لا أمن لا أمان، مهما قيل عن انتصارات وعن عودة الحياة إلى “طبيعتها”، وهذا معروف للقاصي والداني، عدا عن أن اللاجئين ورقة في بازارات السياسة في بلدان الجوار التي يشكلون فيها الغالبية العظمى من حالات اللجوء، كلبنان وتركيا.
أمّا تأكيدهم ضرورة “الحفاظ على الهدوء في منطقة خفض التصعيد في إدلب، عبر تنفيذ جميع الاتفاقيات المتعلقة بها بشكل كامل” مع التعبير عن “القلق” من وجود أنشطة “الجماعات الإرهابية” التي تشكل خطراً على المدنيين داخل المنطقة وخارجها، فيستدعي هذا الكلام إلى البال مباشرة ظهور زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، أبو محمد الجولاني، الذي عوّدنا على ظهوره كل مرّة بجديد يبثه إلى الخارج والداخل، إنْ بواسطة هيئته، أو خطابه، في محاولة لتمويه صورته ومنحها بعضاً من الحداثة وخطب ودّ أميركا والغرب من أجل شطبه عن لائحة الإرهاب، منذ تصريحه للصحافي الأميركي، مارتن سميث، في فبراير/ شباط 2021، عندما قال: “هيئة تحرير الشام لا تشكل أي تهديد للولايات المتحدة، وعلى الإدارة الأميركية رفعها عن قائمتها للإرهاب”. وأضاف: “كنا ننتقد بعض السياسات الغربية في المنطقة، أما أن نشن هجمات على الدول الغربية، فلا نريد ذلك”، متراجعاً عن تصريحاته السابقة عن محاربة أميركا، كما جاء في رسالته الصوتية في 28 سبتمبر/ أيلول 2014، بأنه سيحارب الولايات المتحدة وحلفاءها، وحثّ مقاتليه على عدم قبول مساعدة الغرب في معركتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
الجولاني، الشخصية البراغماتية، الذي ظهر، أخيراً، في اجتماعه مع وجهاء إدلب وأعضاء حكومة الإنقاذ، في أيام عيد الأضحى، وقدّم نفسه فيه زعيم دولة، يفصح عن طموحه في محاربة نظام الأسد، وتحرير مناطق سورية، وعدّدها مبتدئاً بمدينة حلب، وإقامة الكيان “السُّني” باعتبار أن جماعة السُّنة التي تشكل الأغلبية الكبرى من الشعب السوري تعرّضت للظلم والتهجير والإبعاد والاعتقال وغيره، وأكّد أنه يمتلك قرار الحرب والسلم، وليس التأخر في بدء المعارك إلا بسبب الظروف الإقليمية والدولية، مع تأكيده أن روسيا لم تضعف في سورية، بسبب حربها في أوكرانيا، مثلما لو أنه يستبق معركته بإعطائها أهمية كبرى، لكونها ستقارع دولة قوية، كأنه يلوّح بقوته التي مع غيرها من المعطيات والطروحات التي جاءت في خطابه تجعلنا نتساءل: ما معنى ظهوره أخيراً هذا، بهذه الأفكار واللهجة والوعيد؟ إذ لا يمكن أي عمل عسكري بهذا الحجم والهدف أن يجري من دون موافقة الدول العظمى، والإقليمية، وخصوصاً روسيا وتركيا وإيران. وبدا أن مشروعه بات يتخذ ملامح أخرى، فأهدافه لا تقف عند المنطقة التي يديرها، بل يسعى إلى مزيد من التوسّع ومزيد من السيطرة، وهو لا يمانع الاندماج مع الجيش الوطني، متكئاً على حجّة أن الأهالي يطالبونه من أجل إدارة مناطقهم وضبط الفوضى التي تتفشّى ويعانون منها في ريفي حلب الشرقي والشمالي. فهل يستطيع الجولاني، الذي لم يستطع أحد التأكد من اسمه الحقيقي بين من يقول إنه أسامة العبسي الواحدي، ومن يؤكّد أنه أحمد حسين الشرع، تسويق نفسه ومشروعه؟ وهل ما يطمح إليه السوريون، بعد كل هذا الجحيم والخراب الناجمين عن صرخة الحرية، أن يكون لديهم “كيان” عوضاً عن دولة حديثة، يتزعمها رجل لا أحد يستطيع تأكيد اسمه؟
يثير ظهور الجولاني هذا، قبيل انعقاد قمة ضامني أستانة في طهران، الأسئلة عن علاقته في ما يحضّر في القريب لسورية والشعب السوري، والواضح أن الأطراف لم تأتِ بجديد سوى الكلام المستعاد والعبارات الفضفاضة، وعلى المختصّين والخبراء أن يفتشوا ما بين السطور، أما الأناس العاديون فليس لديهم ما يؤهلهم ليفهموا خطابات السياسيين ومراوغاتهم، عدا عن مشكلاتهم وقضاياهم الكبرى التي باتت تنحصر في رغيف الخبز وتأمين الحد الدنى من أسباب البقاء. لكنهم، وللحق والحقيقة، أعادوا الكلام الممجوج، منذ بيان جنيف في عام 2012، أن لا حلّ للصراع في سورية من طريق الحل العسكري، بل بإطلاق عملية سياسية يقودها السوريون، تماشياً مع قرار مجلس الأمن 2254، مع الإشارة إلى الدور المهم للجنة الدستورية المنبثقة من جهود ضامني أستانة، التي أوشكت على إتمام الأعوام الثلاثة على تأسيسها من دون التقدم خطوة إلى الأمام، وتنفيذ قرارات مؤتمر الحوار السوري في سوتشي. وأعربوا عن استعدادهم لدعم التفاعل المستمر مع أعضاء اللجنة والمبعوث الخاص، غير بيدرسون، من أجل أن تتمكّن اللجنة من تنفيذ مهامها في إعداد إصلاحات الدستور وصياغتها لإخضاعه للتصويت الشعبي “من دون تدخل أجنبي”، هذه الجملة التي تتكرّر دائماً بلا خجل.
ودرءاً للخجل، جاء في نهاية البيان المنبثق من القمة المذكورة، إدانة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية، واعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي، و”سيادة” سورية ووحدة أراضيها، وتزيد من التوتر في المنطقة، وهذا صحيح، لكن ماذا عن انتهاكات كل هذه الأطراف القوانين الدولية والسيادة والسطو على الأرض والثروات وحياة الشعب ومصيره؟ هذا ما وصل إليه الزعماء الضالعون في مأساة الشعب السوري، فأين الوضع الطبيعي الذي يصرّح بوتين بأن سورية يجب أن تعود إليه؟
المصدر: العربي العربي