على الرغم من أن بدائل آلية “الأمم المتحدة” للمساعدات إلى سوريا تحمل شكوكاً خاصة بها، إلّا أن استمرار الوضع الراهن المحطَّم لن يؤدي إلا إلى تعزيز موقف موسكو، وتعريض المدنيين السوريين للخطر، ومساعدة نظام الأسد على تجنب العقوبات – ناهيك عن إثارة شهيته لشحنات الغاز الطبيعي.
في 12 تموز/يوليو، تبنّى “مجلس الأمن الدولي” القرار رقم 2642، بالموافقة على الاستمرار في توفير المساعدات عبر الحدود للمناطق السورية التي لا يسيطر عليها نظام بشار الأسد، وذلك لمدة ستة أشهرٍ إضافية. وعلى الرغم من أن هذا الترتيب سيُبقي المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها تتدفق عبر معبر “باب الهوى” إلى محافظة إدلب حتى 10 كانون الثاني/يناير 2023، إلّا أن التمديد جاء على حساب تنازلات كبيرة لروسيا. فقبل أيام من ذلك التاريخ، كانت موسكو قد استخدمت حق النقض ضد قرار تقدّمت به أيرلندا والنرويج كان من شأنه تمديد عمليات تسليم المساعدات لمدة عام كامل. وعلى الرغم من وجود تمديد ثانٍ لمدة ستة أشهر في القرار الحالي، إلا أنه سيتطلب اعتماد قرار جديد آخر في كانون الثاني/يناير قبل أن يصبح ساري المفعول. ومن المرجح أن تكون مثل هذه التنازلات أكثر قسوةً للمدنيين في شمال سوريا، إذا بدأت جولة أخرى من مفاوضات “الأمم المتحدة” المثيرة للجدل في الوقت الذي يكافح فيه هؤلاء المدنيين في عمق الشتاء القارص.
وتجدر الإشارة بشكلٍ خاصٍ إلى الخطوط العريضة للقرار حول الأنشطة المتعلقة بالكهرباء. فقد جادلت دمشق وموسكو والجهات الفاعلة الأخرى بأن الجهود الأخيرة لتوفير الكهرباء والغاز الطبيعي عبر الأراضي التي يسيطر عليها النظام يجب أن تُعفى من العقوبات الأمريكية التي يفرضها “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019. وقد تعزز اللهجة المستخدَمة في القرار 2642 هذه الحجج، ومن المحتمل أن توفر سبل التمكين للنظام لتنفيذ خططه لإعادة إعمار البلاد دون إجراء المفاوضات السياسية التي يتطلبها القرار 2254، وهي الصيغة المتفق عليها من أجل التوصل إلى تسوية للحرب تكون عادلة وقابلة للاستمرار. ولمنع ذلك، يجب على واشنطن وحلفائها تطوير “خطة بديلة” التي كثر الحديث عنها ولكن لم يتم الكشف عنها مطلقاً من أجل إيصال المساعدات إلى سوريا دون قرار من “مجلس الأمن الدولي”.
ربح صافي لروسيا
لدى الغرب تاريخ من الرضوخ لمطالب موسكو في سوريا مقابل الحفاظ على آلية مساعدة مخففة بشكل مطرد. فمنذ تموز/يوليو 2014، عندما سمحت “الأمم المتحدة” بتقديم مساعدات عبر الحدود عن طريق العراق والأردن وتركيا دون موافقة نظام الأسد، وصف المسؤولون الروس ذلك وبصورة مستمرة بأنه “إجراء مؤقت طارئ” يجب التراجع عنه مع دخول المزيد من المناطق تحت سيطرة الأسد. وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، بدأت موسكو وبشكل منهجي في تقليص عدد معابر المساعدات المسموح بها ونطاقها من خلال قرارات جديدة، والتي وافق عليها الغرب في النهاية لأن البديل المهدِّد كان حق النقض على جميع المساعدات. واستخدمت روسيا التكتيك نفسه هذا الصيف، محذرة من أنها لا ترى سبباً وجيهاً لتجديد آلية المساعدة على الإطلاق ما لم يخفف الغرب العقوبات المفروضة ضد نظام الأسد ويعيد توجيه المزيد من المساعدات من خلال الحكومة “الشرعية” في دمشق.
إن موقف موسكو التفاوضي بشأن هذه المسألة قوي من الناحيتين المحلية والجيوسياسية. ففي سوريا، لم تنسحب روسيا بأي شكل ملحوظ بصرف النظر عن إعادة التموضع التكتيكي لشركتها العسكرية الخاصة التابعة لـ “مجموعة فاغنر” وربما بعض قوات الشرطة العسكرية. وفي الواقع، أفادت بعض التقارير أنها نفذت سلسلة من العمليات ضد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في حزيران/يونيو. وعلى الصعيد الدولي الأوسع نطاقاً، تواصل موسكو التعوّد على مواجهة طويلة الأمد مع الغرب. ومن المحتمل أن الكرملين لم ير أي داعٍ لأن يكون تصالحياً بشأن سوريا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الجيش الروسي يحقق مكاسب في حرب أوكرانيا على الرغم من تكبده خسائر فادحة. وأقرّ المسؤولون الغربيون بهذا “التقدم الحقيقي” الأسبوع الماضي.
ومن منظور إنساني بحت، من المحتمل أن يكون القرار الجديد قد جعل المفاوضين الغربيين يتنفسون الصعداء. فكان إنهاء الآلية العابرة للحدود يمكن أن يشكل كارثة لشمال غرب سوريا، حيث تم تصنيف 4.1 مليون من سكان المنطقة البالغ عددهم 4.4 مليون نسمة على أنهم محتاجون – بزيادة قدرها 20 في المائة منذ عام 2021. وساعدت الآلية 2.4 مليون شخص شهرياً على مدار العام الماضي، وهو ما يمثل 80 في المائة من إجمالي المساعدات لشمال غرب البلاد ويسلّط الضوء على حدود المساعدات “العابرة للخطوط” من المناطق التي يسيطر عليها النظام. علاوة على ذلك، تعتمد الآلية على ضوابط صارمة من “الأمم المتحدة”، على عكس اختلاسات المساعدات التي تم الإبلاغ عنها في أراضي الأسد.
ومع ذلك، ففيما يتخطى هذا الارتياح قصير الأجل، فإن التوقعات قاتمة. فقد ضمنت موسكو فوزاً دبلوماسياً من خلال قصر التمديد على ستة أشهر والمطالبة بقرار جديد لبدء الأشهر الستة الإضافية. ولا شك أن الكرملين سيستخدم التكتيك نفسه في المفاوضات المستقبلية، بتجاهله عن عمد واقع كَوْن المنظمات الإنسانية والأمين العام لـ “الأمم المتحدة” قد أشاروا مراراً وتكراراً إلى أن التمديد لفترة أطول مطلوب للعمل بفعالية.
مشاريع الكهرباء يمكن أن تسهم في تمكين الأسد
كما ذكرنا سابقاً، فإن الإشارة إلى الكهرباء تحت عنوان الأنشطة الإنسانية تعود بالفائدة على الأسد، على الرغم من أن الصياغة النهائية للقرار تحد من نطاق مثل هذه المشاريع. فوفقاً للمقطع ذي الصلة فإن “الأنشطة الإنسانية هي أوسع نطاقاً من مجرد معالجة الاحتياجات الفورية للسكان المتضررين، ويجب أن تتضمن دعماً للخدمات الأساسية من خلال المياه والصرف الصحي والصحة والتعليم [و] الكهرباء حيثما كان ذلك ضرورياً لاستعادة إمكانية الحصول على الخدمات الأساسية وإيواء مشاريع الإنعاش المبكر”. وتشير هذه اللغة إلى أن موسكو حريصة على مساعدة عملائها في دمشق على الاستفادة من الخطط الإقليمية الأخيرة لنقل الكهرباء عبر سوريا.
وعلى مدار العام الماضي، عملت واشنطن مع مصر والأردن لتصميم خطة لنقل الكهرباء والغاز عبر الأراضي السورية إلى لبنان، بهدف تجنب انهيار قطاع الكهرباء المعرض للخطر. ومن خلال ضمان إدراج لغة حول “الخدمات الأساسية” في القرار 2642، قد يكون لدى موسكو ودمشق الآن ذريعة إنسانية لاستغلال تحويلات الكهرباء الأردنية المخصصة أصلاً للبنان – وبالتالي السعي للإعفاء من العقوبات الأمريكية المطبقة على الكهرباء المستهلكة عبر شبكة نظام الأسد.
ولا يتم إرسال التحويلات الأردنية المعنية عبر خطوط نقل منفصلة بين الدول الفردية، بل من خلال مشروع الربط الكهربائي لثماني دول، الذي يربط عدداً من الشبكات الوطنية في شرق البحر المتوسط. وعندما اقترحت عمّان للمرة الأولى خطة لإجراء عمليات النقل هذه عبر سوريا في عام 2021، كان السؤال السياسي المباشر للولايات المتحدة هو ما إذا كان يمكن نقل الكهرباء (أو الغاز المستخدم لتوليدها) عبر أراضي الأسد دون انتهاك العقوبات الناجمة عن جرائم الحرب الجسيمة التي ارتكبها نظامه. وتغذّي الشبكة الكهربائية السورية الطاقة بشكل مباشر للمنشآت المدنية والأمنية على حد سواء، من بينها أنواع مراكز الاحتجاز التي أدت انتهاكاتها المتفشية إلى إصدار تشريعات مثل “قانون قيصر” في المقام الأول. لذلك، بينما يمكن نظرياً تخصيص الكهرباء الواردة من الأردن للمستشفيات والمواقع الإنسانية الأخرى التي تقدم الخدمات الأساسية، يمكن أيضاً تحويلها إلى مواقع عسكرية للنظام على الشبكة نفسها، والتي يقال إنها تشمل القواعد الجوية ونقاط إطلاق طائرات الهليكوبتر ومنشآت الأسلحة الكيميائية. وحتى إذا تم وضع آليات لتحسين البنية التحتية والمراقبة، إلّا أن قدرة المجتمع الدولي على منع النظام من جني فوائد مشاريع الكهرباء الإنسانية المعلنة ستكون محدودة للغاية.
الخطة البديلة؟
لقد طال انتظار خطة بديلة لتلك المتمثلة بترك المساعدات الإنسانية رهينة لروسيا. وبالنظر إلى التدهور المستمر لقرارات “الأمم المتحدة”، وسلسلة التنازلات لموسكو، والصعوبات التي سيواجهها المدنيون المعرضون للخطر في شمال غرب سوريا إذا أُجبر الدبلوماسيون مجدداً على المساومة بشأن التجديد القادم للمساعدات في الشتاء المقبل، فمن الضروري أن يعمل الغرب على تسريع جهوده من أجل صياغة “خطة بديلة”.
وأحد الاقتراحات المطروحة منذ فترة طويلة هو إنشاء صندوق استئماني تديره البلدان المانحة الرئيسية. ومع ذلك، ففي حين أن اتّباع هذا المسار يمكن أن يساعد الحلفاء على تجاوز العوائق الروسية، إلا أنه مليء بالشكوك. الأول هو مسألة نطاقه الجغرافي، لا سيما ما إذا كانت ستشمل شمال شرق سوريا في مرحلة ما. إن اهتمام تركيا العميق بهذا الجزء من سوريا والمسألة الأوسع نطاقاً للحكم الذاتي الكردي، يثير تساؤلات جدية حول الكيفية التي قد تنظر بها أنقرة إلى مثل هذه المبادرة – ومحاولة الاستفادة منها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتجاهات الاقتصادية الحالية وعوامل أخرى تجعل من غير المؤكد ما إذا كان هذا الصندوق يمكن أن يتناسب مع المستوى الحالي لمساعدة “الأمم المتحدة” ويلبّي باستمرار احتياجات السكان.
ووفقاً لذلك، فإلى أن تتمكن واشنطن وشركاؤها من صياغة خطة بديلة قابلة للاستمرار، يجب عليهم تكريس قدراً كبيراً من العمل لمنع روسيا من توسيع الثغرة الإنسانية إلى سيل من تدفقات الكهرباء والغاز لنظام الأسد. وعلى الرغم من عدم ذكر الغاز الطبيعي بشكل مباشر في القرار 2642، إلّا أن اللغة المتعلقة بالكهرباء تفتح الباب لمثل هذه المناقشات. وإذا تم إطلاق خطط لنقل الغاز عبر سوريا لاستخدامه في لبنان، فستواجه هذه الإمدادات خطراً جسيماً في أن تصبح الوقود المستخدم من قبل نظام الأسد في محطات طاقة خامدة أو تعمل جزئياً. ووفقاً للاتفاقيات الأولية، يُحتمل أن يأخذ النظام ما يصل إلى 8 في المائة من الغاز العابر لأراضيه كرسم عبور- وهو سيناريو جذب اهتماماً كبيراً في جلسات استماع اللجان في “الكابيتول هيل” (مقر المجلس التشريعي للحكومة الأمريكية)، حيث انتقد المشرّعون الأمريكيون بشدة جهود إدارة بايدن لمتابعة مشاريع قد تنتهك “قانون قيصر” بقدر ما تساعد لبنان.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط” ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا”. لويس دوجيت-جروس هو زميل زائر في المعهد ودبلوماسي في “الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية”. أندرو جيه تابلر هو “زميل مارتن ج. غروس” في المعهد، وقد عمل سابقاً مستشاراً أقدم في وزارة الخارجية الأمريكية ومديراً لشؤون سوريا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى