كازاخستان مرة أخرى… لماذا؟ | توكاييف يبحث عن بدائل نقل النفط والغاز إلى أوروبا بعيداً من المسارات الروسية

سامي عمارة

في صيغة مقتضبة، أعلنت مصادر الكرملين أن “الرئيس فلاديمير بوتين أجرى محادثة هاتفية مع رئيس جمهورية كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، ناقشا خلالها المواضيع المطروحة على جدول الأعمال الثنائي وآفاق توسيع التعاون التجاري والاقتصادي بشكل أكبر. كما تم التطرق إلى قضايا التفاعل في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي، إلى جانب تأكيد الرغبة المشتركة بتعزيز شامل لعلاقات التحالف والشراكة الاستراتيجية الروسية الكازاخستانية”.

هكذا لخّص الجانب الروسي ما ورد في إيجاز صحافي نشره الموقع الرسمي لرئيس كازاخستان وجاء فيه أن الرئيسين بوتين وتوكاييف “أعربا عن ارتياحهما للوضع الحالي للتعاون بين البلدين. كما قام زعيم كازاخستان بتقييم إيجابي للتفاعل العملي لحكومتي البلدين في مختلف المجالات”.

غير أن ما حاول توكاييف أن يقوله في صياغة دبلوماسية غير مباشرة، عامرة بكثير من التحفظات في أعقاب ما شاب علاقات البلدين من “توتر مكتوم” منذ أعلن عن وجهة نظر بلاده في ما يجرى على الصعيدين الثنائي ومتعدد الأطراف، بما في ذلك أسباب عدم اعتراف كازاخستان باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، نجده بكثير من الصراحة والمباشرة، في ما نشرته بعض المواقع الإعلامية الصحافية والإلكترونية الكازاخستانية، ومنها “ألتين أوردا” (القبيلة الذهبية) وهو الاسم التاريخي القديم لكازاخستان وشركائها من أخلاف إمبراطورية المغول والأسرة الطورانية.

“لن تضطر إلى أن تكون لطيفاً”

وتحت عنوان “ردنا على روسيا: لن تضطر إلى أن تكون لطيفاً”، تبارى هذا الموقع الإلكتروني (ألتين أوردا) مع مواقع أخرى مماثلة، في النيل مما بقي من ود وصداقة ومصالح متبادلة وشراكة استراتيجية تربط البلدين ودفعها إلى الاتجاه المعاكس.

وعلى الرغم من أن روسيا الرسمية حاولت في أكثر من مناسبة وموقف توضيح أبعاد سياستها التي تستهدف لمّ شمل ما بقي من جمهوريات سوفياتية سابقة في إطار التعاون المتكافئ القائم على المنفعة المتبادلة، فإن هناك في كازاخستان وغيرها من جمهوريات الفضاء السوفياتي السابق من يحاول “الفكاك” من ذلك الرباط المقدس، الذي لطالما أعلنته موسكو سبيلاً إلى “إنقاذ ما يمكن إنقاذه” مما بقي من مصالح مشتركة بين شركاء الأمس.

ونذكّر أننا سبق وأشرنا من موسكو في أكثر من تقرير إلى “المشكلات” التي تظهر من آن لآخر في علاقات روسيا مع بعض بلدان الفضاء السوفياتي السابق، بزعم أنها “تمارس الضغوط ضد حلفائها وتواصل اتباع خط الاتحاد السوفياتي” على الرغم من أنه انهار وتفكك، على حد تعبير هذا الموقع الإلكتروني الكازاخستاني، الذي تناول كثيراً من جوانب علاقات البلدين، ومنها ما يقول وعلى النقيض من ثوابت الحاضر، إن موسكو ليست على استعداد للجلوس إلى المفاوضات مع أوكرانيا في توقيت مواكب لاستجابة روسيا لدعوة تركيا بشأن الجلوس إلى مفاوضات إسطنبول، التي شارك فيها ممثلو روسيا وأوكرانيا وتركيا ومنظمة الأمم المتحدة لبحث القضايا المتعلقة بحل أزمة تصدير الحبوب والغلال الأوكرانية، وهي المفاوضات التي وصفها أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة بأنها “شعاع أمل”.

وكانت الأطراف الأربعة بحثت الخطوات الرامية إلى توقيع اتفاق يقضي بتشكيل مركز تنسيق للرقابة المشتركة على خطوط سير السفن المعنية يكون مقره في إسطنبول، ويُعنى بمتابعة نقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية إلى الخارج عبر مياه البحر الأسود.

وبهذه المناسبة، أعلن دميتري كوليبا، وزير الخارجية الأوكرانية أن موسكو وكييف على مرمى حجر من التوصل إلى توقيع مثل هذا الاتفاق الخاص بتأمين نقل الحبوب ولم يبقَ سوى “حل قضايا الأمن التي يطرحها الجانب الروسي”.

تأجيج أجواء التوتر

وبينما كانت روسيا وكازاخستان تقتربان من التوصل إلى حل لمشكلة ضخ كازاخستان لصادراتها من النفط والغاز إلى بلدان الاتحاد الأوروبي عبر بحر قزوين عن غير المسارات التابعة لروسيا، عادت بعض المصادر الكازاخستانية إلى تأجيج أجواء التوتر بين البلدين في إطار تفسيراتها لقرار إحدى المحاكم الروسية حول “إغلاق خط الأنابيب الرئيس الذي يتم من خلاله نقل النفط الكازاخستاني إلى الأسواق الأوروبية”.

وفي هذا الصدد، نقلت وكالة “تاس” الروسية عن توكاييف تصريحاته حول حاجة بلاده إلى تنويع مسارات نقل النفط والغاز إلى الخارج، إذ وصف في اجتماع عقده لبحث تطوير إمكانات النقل والعبور في البلاد، تنويع إمدادات النفط بأنه مهمة شديدة الأهمية، مؤكداً أن الأولوية في هذا الصدد يجب أن تكون “المسار العابر لبحر قزوين”. وكشف عن تعليماته إلى المؤسسات الوطنية المعنية بالعمل من أجل تنفيذ ذلك.

كما اقترح توكاييف تحويل شركة السكك الحديدية الكازاخستانية إلى شركة وطنية للنقل والخدمات اللوجستية، إلى جانب تأكيده ضرورة التركيز على تطوير النقل البحري. وفي إشارة لا تخلو من مغزى، قال إن “كازاخستان لم تكُن يوماً دولة بحرية، بالتالي لم تستغل إمكانات النقل البحري بشكل كامل. أما الآن، فقد اختلفت الظروف”، التي قال إنها تدفعه إلى أن يطرح على حكومته مهمة استراتيجية جديدة تقضي بتحويل موانئ كازاخستان إلى أحد المحاور الرئيسة للبنية التحتية لأسطول بحر قزوين وإنشاء مركز حاويات في ميناء أكتا على ضفافه.

“تمر خارج أراضي روسيا”

وأكد توكاييف ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لزيادة قدرة خطوط أنابيب النفط أتيراو-كينكياك وكينكياك-كومكول، بما يعني أن كازاخستان تبحث عن طرق لنقل النفط عبر إيران وأذربيجان. فعبر إيران، يصبح من الممكن الوصول إلى موانئ الخليج، بينما يمكن أن تتصل كازاخستان عبر بحر قزوين بأذربيجان ومنها إلى جورجيا وحوض البحر الأسود، ومنه إلى أوروبا، بما يعني أيضاً الالتفاف على كل الطرق السابقة التي كانت تمر بالأراضي الروسية.

ودفع ذلك بعض المعلقين في روسيا إلى التركيز في تعليقاتهم بصدد هذا الموضوع، على أن كل هذه الطرق “تمر خارج أراضي روسيا” وأن كازاخستان الحليف الرئيس لروسيا تبحث عن البدائل. واستشهدت المصادر الروسية بعدد من التصريحات ومنها ما يتعلق بأن كازاخستان في سبيلها إلى محاولات الابتعاد عن موسكو.

وعلى الجانب الآخر، قالت المصادر إن من وصفتهم بـ”المحرضين” بدأوا بالفعل في فتح أفواههم. وأشارت إلى تيغران كيوسايان، الذي نقل موقع “ألتين أوردا” الإلكتروني ما قاله حول “أن حليف روسيا الرئيس، كازاخستان، سيتجاوز الأراضي الروسية”.

وأضاف الموقع في لغة تبتعد عن الودية أن نور سلطان تدرس أيضاً ضرورة الاعتماد على الموانئ والقنوات المائية، إلى جانب أهمية تطوير الطرق البرية التي تم التخطيط لبنائها، ومنها شبكات الطرق السريعة والسكك الحديدية، التي أشار منها إلى مشاريع Dostyk-Moiynty وBakhty-Ayagoz وMaktaaral-Darbaza، وبناء خط سكة حديدية يتجاوز ألماأتا العاصمة القديمة لكازاخستان، إلى جانب إصلاح الطرق القديمة: Aktobe – Kandyagash Makat، Atyrau – Astrakhan، ألماأتا – Karaganda وTaldykorgan – Ust-Kamenogorsk.

ومن اللافت في هذا الصدد، ما يبدو من تركيز إعلامي على أن “كازاخستان تبحث عن طرق إضافية مغايرة، سعياً لتجاوز ما يمارسه الحليف الاستراتيجي عليها من ضغوط”، قالوا إنها كانت وراء الجهود التي بذلتها وتبذلها كازاخستان من منظور ما استحدثته من جوانب استراتيجية “البحث عن البدائل”.

“الترهيب لا يقوي الصداقة”

وكان موقع “القبيلة الذهبية” الإلكتروني خلص في تعليقه حول هذا الموضوع إلى أن “الترهيب لا يقوي الصداقة وأن المضايقات لا تقوي الشراكة وأن لغة القوة تؤدي فقط إلى المقاومة”، فيما اختتمه بقوله إن “الكرملين لن يتفهم هذه المواقف، إلا عندما يفقد كل حلفائه”.

ويتوقف عند ذلك مراقبون كثيرون في موسكو، يجدون في ما يجري من تحولات بكازاخستان وغيرها من بعض بلدان آسيا الوسطى، ما ينذر بضرورة تغيير السياسات وفي مقدمتها “السياسات الإعلامية”، التي يبلغ الشطط ببعضها حد السقوط في شرك بعض “الممارسات السوفياتية القديمة”.

وكان الرئيس توكاييف صارح نظيره الروسي فلاديمير بوتين ببعضها خلال مداخلته التي ألقاها في المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ في يونيو (حزيران) الماضي وأشرنا إليها في تقرير سابق من موسكو.

لكن ماذا عن موقف الكرملين؟

تحت عنوان “قبلت كازاخستان التحدي”، أوجزت صحيفة “كوميرسانت” الروسية ما اتخذه الرئيس قاسم توكاييف من قرارات حول بناء طرق بديلة لنقل صادرات بلاده من النفط والغاز عبر مسارات بعيدة من الأراضي الروسية، فيما استشهدت بما صدر عن الكرملين من تصريحات تقول إن هذه القرارات ليست وراءها “دوافع سياسية”. وعلى الرغم من ذلك، وصفت الصحيفة هذه القرارات بأنها قرارات “تاريخية سياسية”.

وتفسيراً لما تتسم به هذه القرارات من “سمات سياسية”، قالت “كوميرسانت” إن ذلك يعود إلى أسباب تربط ما يجري على هذا الصعيد بما ستكون عليه الحال في المستقبل، بما يعني أننا نتحدث عن مشروع يمكن في حال الانتهاء منه، أن يغيّر بشكل جدي ميزان القوى في المنطقة.

ومضت الصحيفة لتقول إن كازاخستان وجدت نفسها بين ما قد يصدق عليه القول “المطرقة والسندان”، أو بين نارين، نار ضغوط المستثمرين الأجانب الذين يطالبونها بضرورة الامتثال والمشاركة في العقوبات، ونار الشريك الاستراتيجي الروسي الذي تتطلب مصالحه التزام شركائه بما يربطهم بموسكو من التزامات ومصالح متبادلة.

وعلى الرغم من وجود بعض القوى التي كان من الممكن أن تسهم في “حلحلة” الموقف والتخفيف من حدة التوتر الناجم عن رفض الامتثال للعقوبات، مثل تركيا والصين وهما البلدان اللذان ترتبط بهما كازاخستان بعلاقات “تاريخية وثيقة” بحكم ثوابت التاريخ والجغرافيا، فإن هذه الأخيرة اختارت الطريق الذي يناسبها، بحسب تعبير توكاييف، في كلمته التي ألقاها في منتدى سان بطرسبورغ، انطلاقاً مما تملكه من قدرات ومن حاجتها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. على أن ذلك لم يمنع من اعتراف رئيس كازاخستان بأن روسيا تظل الشريك الأهم لبلاده، إلى جانب ما وصف به ما جرى اتخاذه من قرارات بأنها “ليست سوى خطة تنموية”، لا يرى فيها الكرملين “أي سياسة”، بحسب تعبير دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، الذي أضاف أن كازاخستان “لا تزال دولة صديقة لروسيا”.

وتلك كلها أسانيد وتفسيرات لكثير من جوانب العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف التي تربط ما بين روسيا وكازاخستان، بما في ذلك على مستوى التنظيمات الإقليمية والتكامل الاقتصادي والاتحاد الجمركي التي تشكلت في غضون الأعوام الثلاثين الأخيرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى