جوع

فيجاي براشاد*   ترجمة: علاء الدين أبو زينة

كان سوق الأغذية العالمية يعاني من الإجهاد مُسبقاً قبل اندلاع الصراع في أوكرانيا؛ حيث كانت الأسعار قد ارتفعت أثناء تفشي وباء “كوفيد -19” إلى مستويات لم تكن الكثير من البلدان قد شهدت مثيلاً لها من قبل. لكن الحرب كادت أن تكسر هذا النظام الغذائي الضعيف. وتكمن المشكلة الأكثر أهمية في سوق الأسمدة العالمي الذي كان صامدًا أثناء الوباء، لكنه أصبح يمر الآن بأزمة كبيرة: فروسيا وأوكرانيا تصدران نحو 28 في المائة من سماد النيتروجين والفوسفور، إضافة إلى 40 في المائة من الصادرات العالمية من البوتاس، بينما تصدر روسيا وحدها ما نسبته 48 في المائة من نترات الأمونيوم في العالم، و11 في المائة من اليوريا في العالم أيضاً.

* *

يقول صندوق الطوارئ للطفولة التابع للأمم المتحدة، (اليونيسف)، إنه يتم في كل دقيقة دفع طفل جديد إلى الجوع في الدول الخمس عشرة الأكثر تضرراً من أزمة الغذاء العالمية.

ويقع اثنا عشر من هذه البلدان في أفريقيا (من بوركينا فاسو إلى السودان)، ويقع واحد في منطقة البحر الكاريبي (هاييتي)، واثنان في آسيا (أفغانستان واليمن). وقد أدت الحروب التي لا نهاية لها في هذه المناطق إلى تدهور قدرة مؤسسات الدولة في هذه البلدان على إدارة الأزمات المتراكبة من الديون والبطالة والتضخم والفقر. وتنضم إلى البلدَين الآسيويين الدول التي تشكل منطقة الساحل في إفريقيا (خاصة مالي والنيجر)؛ حيث أصبحت مستويات الجوع الآن خارجة عن السيطرة تقريبًا. وكما لو أن الوضع لم يكن رهيبًا بما فيه الكفاية مسبقاً، ضرب زلزال كبير أفغانستان في نهاية شهر حزيران (يونيو)، وأسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص -وهي ضربة مدمرة أخرى تتوجه لمجتمع انزلق فيه 93 في المائة من السكان إلى ربقة الجوع.

في هذه البلدان التي ضربتها الأزمات، جاءت المساعدات الغذائية من الحكومات وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة. ويعتمد ملايين اللاجئين في هذه البلدان بشكل كامل تقريبًا على المساعدات التي تقدمها وكالات الأمم المتحدة. ويوفر برنامج الأغذية العالمي الغذاء العلاجي الجاهز للاستخدام، وهو عبارة عن معجون غذائي مصنوع من الزبدة، والفول السوداني، والحليب المجفف، والسكر، والزيت النباتي والفيتامينات. وعلى مدى الأشهر الستة المقبلة، من المتوقع أن ترتفع تكلفة هذه المكونات بنسبة تصل إلى 16 في المائة، ولهذا السبب أعلن برنامج الأغذية العالمي في 20 حزيران (يونيو) أنه سيخفض الحصص التي يقدمها من هذا الغذاء بنسبة 50 في المائة.

سوف يؤثر هذا الخفض على 3 من كل 4 لاجئين في شرق إفريقيا، حيث يعيش حوالي 5 ملايين لاجئ. وقالت المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل: “إننا نشهد الآن هذا الخليط القابل للاشتعال من المستويات المتطرفة من فقدان الأطفال، وهو على وشك التقاط النيران”.

من الواضح أن الارتفاع الكبير في منسوب الجوع مرتبط بتضخم أسعار المواد الغذائية، والذي تفاقم في حد ذاته بسبب الصراع الجاري الآن في أوكرانيا. وتعد روسيا وأوكرانيا أكبر مصدرين في العالم للشعير، والذرة، وبذور اللفت، وبذور عباد الشمس، وزيت عباد الشمس والقمح، فضلاً عن الأسمدة.

في حين أن هذه الحرب كانت كارثية بالنسبة لأسعار الغذاء العالمية، فإن من الخطأ النظر إليها على أنها السبب في الارتفاع المفاجئ. فقد بدأت أسعار الغذاء العالمية في الارتفاع منذ حوالي 20 عامًا، ثم خرجت عن السيطرة في العام 2021 لمجموعة من الأسباب، منها:

أثناء انتشار الوباء، أدت عمليات الإغلاق المشدد داخل البلدان وعلى حدودها إلى حدوث اضطرابات كبرى في حركة العمالة المهاجرة. وأصبح من الثابت الآن أن العمالة المهاجرة -بما في ذلك اللاجئون وطالبو اللجوء- تلعب دورًا رئيسيًا في الإنتاج الزراعي. وقد خلقت المشاعر المعادية للمهاجرين وعمليات الإغلاق مشكلة طويلة الأمد في المزارع كبيرة الحجم.

كان أحد تداعيات تفشي وباء “كوفيد -19” انهيار سلسلة التوريد. وعندما انتهجت الصين -التي تشكل مركزاً لقدر كبير من التصنيع العالمي- سياسة “صفر كوفيد”، فقد أدى ذلك إلى إطلاق مشكلة متسلسلة للشحن الدولي؛ مع عمليات الإغلاق، أُغلقت الموانئ وبقيت السفن في البحر لأشهر متوالية. وكانت عودة حركة الشحن الدولي إلى شيء قريب من طبيعتها وعودة الإنتاج الصناعي -بما في ذلك الأسمدة والمواد الغذائية- بطيئة. وقد تلاشت سلاسل الإمداد الغذائي بسبب المشاكل اللوجستية، ولكن أيضًا بسبب نقص الموظفين في مصانع المعالجة.

لعبت الأحداث المناخية المتطرفة دورًا رئيسيًا في الفوضى التي تلم بالنظام الغذائي. في العقد الماضي، كانت ما بين 80 و90 في المائة من الكوارث الطبيعية ناتجة عن الجفاف أو الفيضانات أو العواصف الشديدة. وفي غضون ذلك، فقد كوكب الأرض خلال الأعوام الأربعين الماضية 12 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة كل عام بسبب الجفاف والتصحر. وخلال هذه الفترة، فقدنا أيضًا ثلث أراضينا الصالحة للزراعة بسبب عوامل التعرية أو التلوث.

على مدى الأعوام الأربعين الماضية، زاد الاستهلاك العالمي للحوم (معظمها من الدواجن) بشكل كبير، وما تزال هذه الزيادات تواصل الارتفاع، على الرغم من وجود بعض المؤشرات التي تشير إلى أننا وصلنا إلى “ذروة استهلاك اللحوم”. ولإنتاج اللحوم بصمة بيئية هائلة، حيث تأتي 57 في المائة من إجمالي الانبعاثات الناتجة عن الزراعة من اللحوم، بينما يشغَل الإنتاج الحيواني 77 في المائة من الأراضي الزراعية على كوكب الأرض (على الرغم من أن اللحوم لا تسهم إلا بنسبة 18 في المائة من إمدادات السعرات الحرارية العالمية).

كان سوق الأغذية العالمية يعاني مسبقاً من الإجهاد قبل اندلاع الصراع الأخير في أوكرانيا؛ حيث ارتفعت الأسعار أثناء تفشي وباء “كوفيد -19” إلى مستويات لم تكن الكثير من البلدان قد شهدت مثيلاً لها من قبل. لكن الحرب كادت أن تكسر هذا النظام الغذائي الضعيف. وتكمن المشكلة الأكثر أهمية في سوق الأسمدة العالمي الذي كان صامدًا أثناء الوباء، ولكنه يمر الآن بأزمة كبيرة. ويعود ذلك إلى أن روسيا وأوكرانيا تصدران نحو 28 في المائة من سماد النيتروجين والفوسفور، إضافة إلى 40 في المائة من الصادرات العالمية من البوتاس، بينما تصدر روسيا وحدها ما نسبته 48 في المائة من نترات الأمونيوم في العالم، و11 في المائة من اليوريا في العالم.

سوف تؤدي هذا التخفيضات في استخدام المزارعين للأسمدة إلى انخفاض غلة المحاصيل في المستقبل ما لم يكن المزارعون والشركات الزراعية على استعداد للتحول إلى استخدام الأسمدة الحيوية.

وبسبب عدم اليقين الذي يكتنف سوق الغذاء، وضعت العديد من البلدان قيودًا على الصادرات، مما أدى إلى تفاقم أزمة الجوع في البلدان التي لا تتمتع بالاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء.

وعلى الرغم من كل النقاشات التي تدور حول الاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء، تظهر الدراسات أن هناك افتقاراً إلى الإجراءات لتحقيق هذه الغاية. ويُقال لنا إنه بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، لن تكون 141 دولة في العالم مكتفية ذاتيًا، ولن يلبي إنتاج الغذاء المتطلبات الغذائية لـ9.8 من أصل 15.6 مليار شخص يُتوقع وجودهم على هذا الكوكب بحلول ذلك التاريخ.

في ذلك الوقت، سوف تكون 14 في المائة من دول العالم فقط مكتفية ذاتيًا، وستكون روسيا وتايلاند وأوروبا الشرقية أكبر منتجي الحبوب في العالم. وتتطلب مثل هذه التوقعات القاتمة أن نقوم بإحداث تغيير جذري في نظام الغذاء العالمي. وقد تم إدراج مجموعة مؤقتة من الطلبات في “خطة لإنقاذ الكوكب”، التي طورها “ثلاثي القارات: معهد البحوث الاجتماعية” Tricontinental: Institute for Social Research و”شبكة معاهد البحوث” Network of Research Institutes.

على المدى القصير، كما أوضح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يجب وضع نهاية للصراع الجاري في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا حتى يتمكن المنتجون الرئيسيون للأغذية والأسمدة من استئناف الإنتاج للسوق العالمية.

وتشير دراسة حديثة أجرتها “شبكة الأبحاث البرازيلية حول السيادة والأمن الغذائي والتغذوي” إلى أن ما يقرب من 60 في المائة من الأسر البرازيلية لا تحصل على الغذاء الكافي. ومن بين سكان ذلك البلد البالغ عددهم 212 مليون نسمة، قفز عدد الذين ليس لديهم ما يأكلونه من 19 مليونًا إلى 33.1 مليونًا منذ العام 2020.

تقول آنا ماريا سيغال، عالمة الأوبئة الطبية في شبكة الأبحاث البرازيلية إن “السياسات الاقتصادية التي اختارتها الحكومة وطريقة الإدارة المتهورة للوباء تؤدي إلى زيادة فاضحة في عدم المساواة الاجتماعية والجوع في بلدنا”. ولكن، قبل بضع سنوات فقط، كانت الأمم المتحدة قد أشادت بقوة ببرنامجي “صفر جوع” و”منحة الأسرة” البرازيليين، اللذين أديا إلى خفض معدلات الجوع والفقر في البلد بشكل كبير.

تحت قيادة الرئيسين السابقين لولا دا سيلفا (2003-2010) وديلما روسيف (2011-2016)، حققت البرازيل أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. لكن الحكومات التي تلت ذلك -ميشيل تامر (2016-2018) وجاير بولسونارو (2019 وحتى الوقت الحاضر) -قوضت هذه المكاسب وأعادت البرازيل إلى أسوأ أيام الجوع، عندما غنى الشاعر والمغني سولانو ترينداد أغنيته، “ثمة أناس جوعى”:

ثمة أناس جوعى

ثمة أناس جوعى

ثمة أناس جوعى

إذا كان ثمة أناس جوعى

أعطوهم شيئًا ليأكلوه

إذا كان ثمة أناس جوعى

أعطوهم شيئًا ليأكلوه

إذا كان ثمة أناس جوعى

أعطوهم شيئًا ليأكلوه

*فيجاي براشاد Vijay Prashad: مؤرخ، ومحرر وصحفي هندي. وهو زميل كتابة ومراسل رئيسي لموقع “غلوبتروتر” Globetrotter، ومحرر في LeftWord Books ومدير “ثلاثي القارات: معهد البحوث الاجتماعية” Tricontinental: Institute for Social Research. وهو زميل أول غير مقيم في معهد تشونغ يانغ للدراسات المالية، جامعة رينمين في الصين. كتب أكثر من 20 كتابًا، بما في ذلك “الأمم الأكثر سمرة”، و”الأمم الأكثر فقراً”. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “رصاص واشنطن”، مع مقدمة بقلم إيفو موراليس أيما.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Hunger

المصدر: الغد الأردنية/ (معهد البحوث الاجتماعية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى