ليست المرة الأولى التي تسقط فيها بغداد تحت براثن احتلال أجنبي. غزاة كثيرون احتلوها ثم هزمتهم وتحررت وعادت الى أصالتها العربية. وإذا كانت الولايات المتحدة الاميركية قد ربحت جولتها العسكرية فاحتلت بغداد والعراق في نيسان ٢٠٠٣ بعد حصار دام ١٣ سنة متواصلة؛ فإن حرب الحصار وغزو العراق كشفت عن كثير من الحقائق المتعلقة بالولايات المتحدة ذاتها وبالنظام العالمي الراهن الذي تتحكم فيه.
١ – إن أزمة الكويت لم تكن هي السبب في حرب الحصار والغزو. قبلها ومنذ ان بدأ بناء دولة قوية وصناعة حديثة وانطلقت الجامعات والمدارس في بناء نهضة تعليمة بارزة أعطت مئات العلماء والخبراء والعقول المتفوقة، كان القرار الامريكي – الصهيوني بإجهاض هذه التجربة ومنعها من الاستمرار فكان ضرب مفاعل تموز النووي في سنة ١٩٨٠ واغتيال العالم المصري يحي المشد الذي كان مسؤولا عنه؛ دليلا كافيا على هذا التوجه.
(في وثيقة رسمية امريكية كشفت سنة ٢٠٠١ ونشرتها صحيفة الشرق الاوسط قبل سنوات؛ أن اجتماعا عقد في السفارة العراقية في باريس سنة ١٩٧٥ ضم وزيري خارجية امريكا هنري كيسنجر والعراق سعدون حمادي؛ رفض العراق طلب كيسنجر بالاعتراف ب ” إسرائيل ” وتوطين الفلسطينيين في العراق.)
ثم مد الجسور مع الأحزاب الكردية الانفصالية وتحريضها والتخريب من خلالها أيضا..
ثم جاء الدعم الإسرائيلي لنظام إيران في حربه ضد العراق كتأكيد إضافي واضح. حتى أن بعض المحللين يعتقدون أن امريكا سهلت انتصار الخميني تمهيدا لدور مذهبي إيراني في احتلال العراق وتخريبه..
٢ – استنفرت الولايات المتحدة كل قوتها في كل المجالات لتجييش العالم للمشاركة في غزو العراق. ولما كانت تدرك أنها ستخوض حربا استعمارية من الطراز الأول؛ فإنها لجأت إلى الخداع والتزوير وفبركة” وقائع ” مزيفة لاستخدامها كذرائع لذاك الغزو.. كما إلى التهديد والإغراء والوعيد لمن لم يكن يرغب في المشاركة فيه..
٣ – اخترعت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل ثم ادعاء علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة والإرهاب العالمي مما يهدد الغرب كله لا بل العالم بأسره – وهو ما ثبت بطلانه بشكل قاطع – وذلك لتبرير الحرب وتكاليفها الباهظة أمام الشعب الأمريكي، ولإرغام العالم كله على المساهمة فيها لا سيما بعدما وقعت احداث ١١ سبتمبر وما تلاها من اصطفاف عالمي خلف امريكا بحجة محاربة الإرهاب…
٤ – اشتركت ” إسرائيل ” في الحرب والتحضير لها في كل المراحل، وقد تحدثت وثائق امريكية كثيرة عن تحريض صهيوني متلاحق على الإدارة الأمريكية لإتمام الغزو. وكان للعدو الصهيوني غاياته الخاصة المتعلقة بتصوراته التخريفية عن دولة عظمى بين الفرات والنيل وإمساك زمام القيادة وإدارة السياسة والموارد في كل المنطقة العربية.. وتشكل السيطرة على العراق مفتاحا رئيسيا لذلك المشروع.
٥ – لعب اللوبي الصهيوني دورا بارزا في تبرير الحرب وتسويغها بل وتسويقها كسلعة ضرورية رابحة؛ أمام الرأي العام الأمريكي والغربي ثم العالمي.. من خلال سيطرته على كم هائل من وسائل الإعلام والدعاية والتي راحت تفبرك وتزور وتنشر افلاما مصورة كاذبة ومعلومات وصورا متنوعة مما وضع العالم أمام خيار إلزامي وهو المشاركة في تلك الحرب العدوانية القذرة..
٦ – ساهمت كبريات الشركات الرأسمالية الأمريكية بفعالية كبيرة في التحريض على الحرب وفي الاشتراك الفعلي فيها بأشكال متنوعة، ليس استخدام المرتزقة ومنظمات الأمن الخاصة والمأجورة بالفضيحة الوحيدة فيها. وكان اشتراكها سبيلا لنهب خيرات العراق وموارده الطبيعية الهائلة بصرف النظر عن كل التدمير والخسائر البشرية الضخمة التي سببتها في العراق..
٧ – استخدمت كل المنظمات الدولية من أول الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة الطاقة الذرية وغيرها لتغطية حربها على العراق وعدوانها عليه. الامر الذي ترك أثرا بالغا لجهة تسخيف تلك المؤسسات الدولية تمهيدا لسقوطها المروع في معاناة الشعب السوري..
٨ – استهلك النظام العالمي الأمريكي الصهيوني في عدوانه، كل الشعارات البراقة التي كان يعيش عليها ويتعيش منها ويغطي بها كل سياساته العدوانية في أنحاء العالم؛ من أول الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى شعارات السلام العالمي ومحاربة الإرهاب. وهو ما ستكون له آثار ارتدادية بالغة هزت أركان ذلك النظام الرأسمالي الربوي المجرم..
٩ – لجأ ذلك النظام إلى استغلال الدين والمشاعر الإيمانية بشكل مقزز متخلف قبيح لتبرير العدوان..
من أول (هرمجدون) إلى يأجوج ومأجوج إلى الأوامر الإلهية وغير ذلك من تخرصات القرون الوسطى العنصرية المتخلفة..
١٠ – يثبت هذا أن العدوان الأمريكي – الصهيوني على العراق كان بمثابة السقوط الفاضح المدوي للولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى وسقوط كل الزيف الذي تختبئ خلفه وانكشاف هيمنة عمالقة المجمع الصناعي العسكري مع اللوبي الصهيوني على السلطة فيها وعلى الإعلام الأمريكي والمؤسسات الدولية جميعا. إضافة إلى تعرية سخافة كل المبررات الدينية التخريفية والباطلة التي استخدمتها لإعطاء العدوان مسحة دينية اعتقادية وهي على عكس ذلك تماما..
(وهو لم يكن ليصمد امام المقاومة العراقية لولا التخريب الإيراني الذي نجح لفترة محدودة في التغلغل في مجتمع العراق بالتحريض المذهبي الانقسامي..)
لسنا بحاجة لأية دلائل للتيقن من الدوافع العدوانية الإمبريالية لغزو العراق، وكذب كل ادعاءاتها. اما ما ينبغي التأكيد عليه فهو أن ذلك العدوان الهمجي كان السبب الأول والأساس في تصدع النظام العالمي الأمريكي وهيمنته على العالم، إضافة إلى تعرية كل شعاراته المخادعة واستغلاله البشع لها في كل مكان. الأمر الذي فتح الباب واسعا لإقامة نظام عالمي جديد على أسس جديدة أولها إلغاء حق الفيتو وإعادة هيكلة المؤسسات الدولية وفصلها عن هيمنة ذلك النظام اللا إنساني. نحو نظام عالمي متوازن. يحترم مصائر الشعوب ولا يسرق مقدراتها ومواردها او ينتهك حرماتها.
المصدر: كل العرب