يلخص المشهد شمال سوريا كما يلي: «رسائل مباشرة» تركية – روسية – إيرانية للضغط والكسب السياسي والعسكري فيما يجري سراً وعلناً اللاعبون المؤثرون في سوريا مفاوضات «حافة الهاوية» وسط تحركات عسكرية مكثفة، لاسيما أن تركيا جادة تماماً في إيجاد منطقة آمنة و»تحرير» المناطق المحاذية لحدودها الجنوبية من «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، بينما يبقى الوجود الروسي في شمال سوريا، وقوات النظام و»قسد» موضع تساؤل عن دور هذه القوى فيما إذا بدأت الحملة العسكرية التركية المرتقبة التي تهدف إلى القضاء على حزب العمال الكردستاني وامتداداته.
ونظراً لما تشهده الساحة السورية من تطورات قفزت إلى مرحلة متطورة من التسخين، ينشغل مراقبون في الإجابة عما إذا كانت هذه الدول ستفرط بمصالحها الكبرى من أجل قسد، وما هي فحوى الرسائل الروسية من دفع نحو 600 مظلّي روسي من القوات الفاعلة والقوية، المجهزة والمدربة على أعلى مستوى إلى مطار القامشلي، البعيد فعلياً عن مركز الأحداث، وماذا سيكون موقف النظام السوري أمام الضربات التركية، ووضع «قسد».
وما أثار المزيد من التساؤلات، تعزيز قوات النظام السوري مواقع جديدة لها ضمن مناطق سيطرة «قسد»، وإرسالها رتلًا هو الأضخم من نوعه، يضم نحو 500 جندي وأكثر من 50 آلية، إلى نقاط التماس في منبج في ريف حلب الشرقي وعين عيسى في ريف الرقة الشمالي، حيث تزامن ذلك مع اكتمال التحضيرات التركية وتحضيرات الجيش الوطني للحملة لتقليص نفوذ قوات سوريا الديمقراطية. ويجمع مراقبون، أن روسيا تريد إعادة التأكيد على قدرتها على استخدام القوّة العسكرية، والتأكيد على عدم السماح بتجاوزها في أي اتفاق سيتم في الشمال السوري، كما أنها توجه رسالة لقسد بضرورة القبول بمبادراتها بعقد اتفاق مع النظام السوري، بينما لا يسمح وضع ايران الآن لها بإزعاج الجانب التركي وهو صاحب الرسالة الواضحة.
تعزيزات روسية – سورية
وتحدثت شبكات إخبارية روسية عن وصول تعزيزات عسكرية روسية من فرقة المظليين التابعة للجيش الروسي إلى شمال شرقي سوريا، وحسب ما نشرته وكالة «الربيع الروسي Rusvesna» بالروسية، الاثنين الفائت، فإن حوالي 300 جندي مظلّي روسي بذخيرة كاملة وصلوا عبر طائرات روسيّة، إلى مطار القامشلي الدولي.
ونشرت الوكالة صوراً لِما قالت إنّه وصول الجنود المظليين، مضيفةً أنّ طائرتين تحملان مئات الجنود الروس أيضاً وصلتا إلى المنطقة، قبل يومين، وأنّه في غضون أسبوعين فقط، نُشر نحو 600 جندي روسي في شمال شرقي سوريا. وفي أيار الماضي، وصلت تعزيزات عسكرية روسية إلى مطار القامشلي الدولي، تضمنت مقاتلات روسية من طراز SU-34 وطائرات هليكوبتر هجومية من طراز Ka-52، ووفق وكالة «سوبتنيك»، وصلت حينها بالتزامن مع التصريحات التركية التي هددت بشن عملية عسكرية جديدة في تلك المناطق.
في موازاة ذلك، أكدت مصادر محلية، أن رتلاً عسكرياً لقوات النظام يضم دبابات ومدافع وناقلات جند انسحبت من منطقة تل رفعت في ريف حلب الشمالي وتوجه إل مدينة عين العرب، مروراً في مدينة منبج شرقي حلب. وقالت المصادر إن رتلا لقوات النظام يحوي أكثر من 50 آلية دخل مناطق «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) من معبر التايهة في ريف منبج.
الخبير في الشؤون الروسية – السورية، د.محمود حمزة قرأ التحركات العسكرية شمال سوريا، بأنها في غاية الجدية وهي مقدمة لأعمال عسكرية سنشهدها قريبًا، وقال حمزة لـ «القدس العربي» تركيا جادة تماماً في إيجاد منطقة آمنة وتحرير المناطق المحاذية لحدودها من قسد وغيرها». وحول مواقف الدولة الفاعلة، وهل روسيا بصدد التدخل، قال حمزة «روسيا غير موافقة ضمنياً على العملية التركية، لكنها مجبرة على قبولها على مضض وقد يضمر الروس من ذلك، الرغبة بالاصطدام التركي – الأمريكي».
ورغم الرفض الروسي للعملية، إلا أن موسكو «لن تدخل في مواجهة عسكرية مع تركيا بأي شكل من الأشكال، فهي نبهت وطلبت من الأتراك وحاولت إقناعهم حسب تصريحات المسؤولين الروس بالابتعاد عن العملية غير العقلانية، حسب وصفهم، لكن لم يعبروا بلهجة شديدة معارضتهم للحملة التركية، إنما كانت انتقادات دبلوماسية».
واعتبر الخبير أن الموقف الروسي، ناجم عن حاجة موسكو الماسة لتركيا، بسبب «الغرق الروسي في المستنقع الأوكراني، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية الهائلة، هو ما يجبر روسيا على التوجه لتركيا، التي باتت المتنفس الاقتصادي والتجاري لها في هذه الظروف الصعبة، بالتالي لا يمكن أن تضحي بعلاقات التعاون الواسعة من أجل قسد وغيرها». أما الرسالة من الدفع بالمظليين إلى القامشلي، فقال حمزة «هذه القوات هي قوات فاعلة وقوية للغاية وطالما أن القامشلي بعيدة نسبياً، فقد تكون رسالة للأمريكان ولغيرهم مفادها أننا موجودون هنا».
وحيال الموقف الإيراني، أبدى المتحدث اعتقاده بأن طهران «لن تتدخل في المعارك لأنها أيضاً في وضع صعب وتصريحات عبد اللهيان تدل على مرونة بالموقف الإيراني وفي تفهم للمخاوف الأمنية التركية لمصالح كبرى، فتركيا هي الدولة الوحيدة التي لم تعترف بالعقوبات على إيران وعلى الروس، فكلاهما في حاجة ماسة للتعاون التجاري والاقتصادي والمالي مع تركيا».
أما النظام السوري فلا يمكن أن يجابه مع «قسد» وفق قول المتحدث الذي أضاف «ستجري السيطرة على تل رفعت ومنبج وقد تكون هناك خسائر كبيرة بين الطرفين، لكن النظام لن يتجرأ على الدخول في المعركة خوفاً من الجيش التركي الذي قد يلقنه درساً صعباً» وهو ما اتفق معه الخبير والمستشار السياسي محمد سرميني الذي قال لـ «القدس العربي» إن النظام السوري «لم ولن يجابه أي حملة تركية، وذلك لإدراكه عدم قدرته السياسية أو العسكرية على مواجهتها». وتبقى «قسد» الورقة الضحية التي يستخدمها الأمريكان والروس والأتراك والإيرانيون والنظام، وهي الطرف الذي سيدفع الثمن الأكبر، وفي هذا الإطار قال حمزة «قوات سوريا الديمقراطية الانفصالية هي الخاسر الأكبر بالنتيجة، وهي من يمارس الإرهاب في الجزيرة وشرق الفرات وهي من نهب خيرات المنطقة كلها وحولتها إلى جبال قنديل لصالح حزب العمال الكردستاني».
القوى الفاعلة في المنطقة
ولفهم طبيعة القوات المتواجدة في المنطقة، قال الخبير والمحلل العسكري عمار فرهود: القوات الموالية للنظام السوري هي قوات في غالبها دفاعية وليست هجومية ولذلك فهي تفكر في جعل العملية التركية أكثر تكلفة بالعتاد والعُدد، وتتألف من تشكيلات رئيسية هي حسب القوة والسيطرة: اللواء 16 مدفعي «تبعية روسية» الحرس الجمهوري، الفرقة الثالثة دبابات، الفرقة الرابعة، الفرقة الأولى دبابات، اللواء 16 والحرس الجمهوري، هو من يدير سلاح المدفعية المنتشر بشكل رئيسي حول مدينة حلب.
أما القوات التركية فتتميز بقوتها الهجومية ومواقعها الحاكمة في هذه المعركة وامتلاكها لزمام المبادأة العسكرية في الميدان، كما أنها دعمت قواتها هناك بعدد من قوات المشاة والمدفعية. الحشد المتابع في هذه المنطقة يشير بوضوح إلى استعراض للقوة بالتزامن مع الاستعداد لعمل عسكري في المحور. أما القوات الإيرانية فهي بغالبها قوات وكيلة وليست أصيلة «أي من ميليشيات إيران وليست من جيش إيران». ويتركز الوجود الإيراني بشكل كبير من محور مارع إلى نبل والزهراء وتتواجد في هذا المحور قوات من «حزب الله اللبناني – فاطميون – قوات نبل والزهراء – مجموعات من الفوعة وكفريا». وطبيعة هذه القوات هي أنها قوات ليست ذات كفاءة قتالية عالية في العمليات الهجومية وإنما تتقن العمليات الدفاعية وحرب العصابات بشكل متقدم عن نظيراتها السورية «نظاماً ومعارضةً» وأبرز ما يميز تسليحها هي الصواريخ المضادة للدروع وسلاح الهاون.
وترجم فرهود التواجد العسكري الروسي في القامشلي لـ «القدس العربي»: بأنه يهدف «لتحقيق مكاسب أكبر من الجانب الكردي وتحقيق مكاسب من الجانب التركي قدر المستطاع» كما قرأ الخبير الرسائل العسكرية الروسية، على أنها إرادة روسية بعدم تجاوزها في أي اتفاق سيتم في الشمال السوري دون تعريض العلاقة مع تركيا للخطر، عازياً ذلك إلى الموقف التركي الجيد من الحرب الروسية على أوكرانيا.
تحاول روسيا وفق المتحدث، إيصال رسالة للقوات الكردية بضرورة القبول بالمبادرة والضمانة الروسية لعقد اتفاق مع النظام السوري وهو ما لم تبدي القوات الكردية اي انفراجة فيه بسبب اطمئنانها للحليف الأمريكي. واعتبر المتحدث أن المناكفة الروسية الآن في القامشلي، هي بالدرجة الأولى مع الولايات المتحدة كونها منطقة نفوذ أمريكية، ومع الإيرانيين بالدرجة الثانية خاصة أن روسيا كانت قد طلبت من عناصر لحزب الله مغادرة مطار القامشلي قبل فترة وجيزة، وهو ما اتفق معه الخبير السياسي د. باسل معراوي الذي رأى أن المنازعة في القامشلي هي مع واشنطن كونها منطقة نفوذ تابعة لها وعاصمة ما تسمى الإدارة الذاتية، كما أنها تدخل ضمن انهيار كل التفاهمات بين الروس والأمريكان التي كانت سارية وقطع الأمريكان لكل وسائل التواصل، لاسيما بعد قصف الطائرات الروسية لقاعدة التنف تحت حجج واهية.
وقال المعراوي لـ«القدس العربي» تسعى موسكو لحافة هاوية من أجل إجبار الأمريكان على إعادة التنسيق معها في سوريا، ولم يعلن أي مسؤول تركي نية بلاده باقتحام القامشلي الآن، لأن الوضع معقد فيها، كما أن التركيز التركي على منبج وعين العرب، وفقاً لما أعلن عنه الرئيس التركي بعد قمة مدريد حيث قال إن العملية سيفهمها العالم (بمعنى كما نفذت العمليات الاربع السابقة) اجتياح بري واستحواذ على الأرض وطرد «الإرهابيين» وليست ترتيبــــات أمنية فقط.
أما روسيا فمصالحها أعمق مع تركيا خاصة تتجاوز الملف السوري كله، وفق المتحدث، بينما وضع إيران الآن لا يسمح لها بإغضاب الأتراك، وكلام وزير الخارجية واضح يوم الاثنين الماضي في أنقرة، لم يأت ما ينسخه بزيارته لدمشق بل تكلم عن أمنيات بتحقيق تفاهم تركي مع النظام يتيح حل المشاكل العالقة.
أما الرسالة التركية المباشرة، فكانت وفق الخبير السياسي معراوي، فهي «واضحة عبر قصف مفرزة أمن عسكري لقوات النظام في مستودع الجمعية الفلاحية بتل رفعت، وهي موجهة ويفهمها النظام وإيران، وتفيد بأنه من غير مسموح التواجد في تلك المنطقة وسيتم التعامل معهم عسكرياً».
المشهد باختصار
المشهد السوري بالجملة، وصفه الخبير والمستشار السياسي محمد سرميني بالقول: هناك أشبه ما يُمكن وصفه بمفاوضات حافة الهاوية بين ضامني أستانة؛ فروسيا تريد إعادة التأكيد على قدرتها على استخدام القوّة العسكرية، وفي ذات الوقت تأكيد قدرتها على ضمان تنفيذ الالتزامات المتعلّقة بإنشاء المنطقة وفق آلية العمل المشترك، لا سيما بعد زيادة معدّل ونطاق تسيير الدوريّات المشتركة مع تركيا خلال حزيران/ يونيو الفائت.
أمّا إيران فتعتبر العملية العسكرية تهديداً لنفوذها ومصالحها شمال سوريا، بما في ذلك تغيُّر خارطة السيطرة لصالح المعارضة على حساب النظام، وطهران تُفضّل أن يكون أي نشاط عسكري لتركيا في سوريا بناءً على عودة التنسيق مع النظام السوري. ويبدو أنّ إيران تريد أن تدفع تركيا للقبول بمبادرتها للوساطة مع النظام السوري، عبر التهديد باستخدام القوّة وإظهار القدرة على ضمان مصالحها وحماية أمنها.
المصدر: «القدس العربي»