للوهلة الأولى، فإن قارئ العنوان إنْ كان متحيزاً سيتهم الكاتب بالخروج عن السائد ومحاولة إقناع القارئ بما هو غير معقول، وفي الحقيقة فإن ال
مقال مبني على وقائع مشاهدة وعلنية وليس بحثاً في النوايا أو في ملفات سرية.
المعروف في العلوم الاجتماعية وجود نظرية اسمها “قانون النتائج غير المقصودة”، وتعمل تلك النظرية التي شاعت في القرن العشرين على يد المفكر الاجتماعي الأميركي روبرت مرتون على أن هناك نتيجة منحرفة للمقاصد، وهي حدوث عكس ما كان يرجى أن يحدث في تنفيذ سياسة ما، فيزيد الحل المرجو المشكلة سوءاً.
وتذهب تلك النظرية الى أن السلوك والتصرفات والقرارات لها سلطة على عقل من يتخذها بأنها صائبة وعقلانية، والى أن كثيرين يتبنون حلولاً سياسية غير مدروسة، بسبب عدم وجود آليات لكشف الخلل، أو قمع يمنع كشف الخلل، وعادة ما يكون ذلك في المجتمعات الشمولية ذات الأيديولوجيا العمياء.
في كتب علم الاجتماع هناك مثال، من بين أمثلة، لقانون “النتائج المعكوسة” يُدرس للطلاب وهو قادم من ألمانيا. فقد قررت الحكومة الألمانية في وقت ما ان تشجع الجمهور على تقليل النفايات المنتجة في المنازل، فقررت جمعها كل شهر، وتصغير حجم صندوق النفايات، وفرض رسوم تصاعدية على حجم النفايات لكل منزل. بدت تلك الحلول جاذبة ومشجعة لتقليل النفايات، فقد لجأ السكان، لتفادي العقوبات، الى تصريف بقايا الأطعمة من خلال الحمامات، للذهاب الى شبكة الصرف الصحي، بعد أشهر، ونتيجة لذلك أصبح الصرف الصحي مكاناً لتكاثر الفئران، وتضخمت أجسامها وخرجت من الصرف الصحي لتهاجم الناس!! كانت كارثة أدت اليها كما يبدو سياسة تنوي الخير!
نعود الى موضوعنا الآن وكيف أدت السياسة الإيرانية وتؤدي، في معاداة إسرائيل، (اللفظية) الى عكسها في عدد من المظاهر منها:
أولاً: توجه بعض الدول الخليجية للتعامل الطبيعي مع إسرائيل، جزء منه بفعل الضغط الذي تواجهه من فكرة غير عقلانية تتبناها طهران وهي “تصدير الثورة” وإغراء بعض الشرائح الاجتماعية في تلك البلدان بأن هناك (جنة) اسمها “المجتمع الثوري” تنتظرهم، وفي الحقيقة لا ينتظرهم إلا ما هو قائم لدى الشعوب الإيرانية، من فقر وعوز ونقص في الحريات وسجون وأيضاً مشانق، وهو ما يجري أمام أنظار العالم، فأصبحت إسرائيل مقبولة واقعاً في الإقليم!.
ثانياً: خدمت إيران إسرائيل في لبنان، فكثيرون لا يعرفون أنه رغم (الأخذ والرد) في موضوع النووي الإيراني، إلا أن اتفاق عام 2015 فيه نص يقول: “أن لا يعبث بالحدود اللبنانية – الإسرائيلية” وهو النص المحترم جداً حتى بعد كل مشكلات انسحاب أو احتمال عودة الولايات المتحدة الى الاتفاق!
وبصرف النظر عن الشجار، فإن نص احترام الحدود المسكوت عنه على نطاق واسع هو القائم، وكل العنتريات الكلامية (بما فيها الطائرات المسيّرة غير المسلحة) هي مجرد (كلام للسذج). على الجانب الآخر لسياسة إيران في لبنان، أن تقوية ميليشيات تصادر القرار اللبناني وتمويلها، همش الدولة اللبنانية التي أصبحت هشة فقيرة غير قادرة على المقاومة الذاتية لأي أمراض تصيب الدولة، وها هي اليوم غير قادرة على أن تقف على رجليها، وبالتالي أكثر قابلية لأي اجتياح لولا النص المذكور في الاتفاق عام 2015!
ثالثاً: ساعدت سياسة إيران في عزل غزة عن محيطها وتشتيت الصف الفلسطيني، ورفع شعار “الحكومة الإسلامية” في غزة، مفضلاً على شعار “تحرير فلسطين”، وفوتت الفرصة على اتخاذ أي سياسة عقلانية لوحدة الصف الفلسطيني، وقدمت لإسرائيل ذريعة تستخدمها في المحافل الدولية مفادها أن الفلسطينيين ليس لهم عنوان سياسي واحد ومنظم.
رابعاً:ساعدت سياسية تصدير الثورة في خراب العراق وبقائه تحت سيطرة ميليشيات مسلحة تأتمر بأمرها، مع إفقار العراقيين وقمعهم، وهم شعب يستعصي على التطويع، فخلقت تلك السياسة انسداداً في أفق بناء دولة عراقية حديثة.
خامساً: ساعدت السياسة الإيرانية الخارجية في تثبيت نظام قمعي لفظه شعب سوريا، (النظام الكيماوي) وأصبحت سوريا تحت احتلال لم تشهده منذ خروج الفرنسيين، فجاء الأتراك والروس الى جانب الإيرانيين وميليشياتهم ولم يبقَ من الدولة السورية إلا الاسم، وأصبح القرار في دمشق مشتركاً بين موسكو وطهران، ما زاد من الاحتقان الشعبي الذي قوبل بالقمع والسجون والمقابر، ولكنه تاريخ لن ينساه الشعب السوري، إلا أن الأهم هو إضعاف قدرة الدولة السورية على أي مقاومة وتلاشيها والدليل الضربات المتكررة من إسرائيل على المنشآت السورية وحتى مطار دمشق الدولي!.
سادساً : ساعدت السياسة الإيرانية في إفقار الإيرانيين أنفسهم في الداخل وزيادة البطالة وانفلات التضخم ودفع ملايين المواطنين الى تحت خط الفقر، والدليل ظاهر في تصاعد المقاومة للنظام والشعارات التي ترفع بين وقت وآخر في تلك التظاهرات الشعبية والتي تشي بالكثير من المعارضة لصرف الأموال الإيرانية الشحيحة على (أزلام الخارج) ما أضعف الجبهة الداخلية الإيرانية وعرضها للتدخل من الخارج من عدد من أجهزة الاستخبارات.
أمام هذه المؤشرات، وهي جزء من مؤشرات أخرى، يكون قانون “النتائج غير المقصودة” قد فعل فعله، وقامت السياسة الإيرانية بسبب “الأيدلوجية العمياء” بتضخيم “حجم الفئران” في الإقليم، كما لم يحدث في الصرف الصحي الألماني!!.
المصدر: النهار العربي