لم تعش مدينة عفرين السورية منذ عام 2011 يوماً دامياً كالذي شهدته أول من أمس الثلاثاء، إذ قُتل وأصيب أكثر من 100 مدني نتيجة تفجير ضرب سوقاً شعبياً في ساعات ذروة تجمّع المدنيين، ما فتح الباب مجدداً أمام تساؤلات الشارع السوري المعارض حول حالة الفوضى والفلتان الأمني التي تسود عفرين وريفها، فيما انفجرت عبوة ناسفة في المدينة، ليل الثلاثاء، بعد أقل من عشر ساعات على انفجار السيارة المفخخة، من دون أن تؤدي إلى وقوع ضحايا.
وتبادلت الأطراف المعنية الاتهامات بالوقوف وراء التفجير أو السماح به. ففيما اتهمت تركيا وأطراف في فصائل المعارضة، الوحدات الكردية التي طردها الجيش التركي مع فصائل المعارضة من المنطقة في بدايات عام 2018، بالمسؤولية عن التفجير، كان “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد)، وهو الذراع السياسية لـ”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، يحمّل ما سمّاه “الاحتلال التركي” لعفرين المسؤولية عن “فتح الباب لقوى الإرهاب لتمارس أعمالها الجبانة”، بينما حضرت اتهامات لفصائل معارضة بارتكاب انتهاكات وصرف الاهتمام عن الخروقات الأمنية في المنطقة. وفي ظل تبادل الاتهامات هذا، يُطرح تساؤل عن إمكان وجود طرف ثالث قد يكون وراء هذه العملية.
وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن التفجير الذي ضرب سوقاً مكتظاً بشارع راجو، وسط عفرين بعد ظهر الثلاثاء، “هو من أكبر التفجيرات التي تضرب المدينة وريفها منذ عام 2018″، مشيرة إلى أن حالة من الصدمة والذهول لا تزال تسيطر على السكان. وأشارت المصادر إلى أن عدد القتلى تجاوز الـ40 قتيلاً جلّهم من المدنيين الذين كانوا يتسوقون قبيل ساعات من الإفطار، لافتة إلى أن من بين القتلى 11 طفلاً وجثثاً متفحمة.
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن الجيش التركي أغلق أمس الأربعاء مداخل مدينة عفرين ، حتى إشعار آخر كإجراء احترازي. وأكد المرصد أنه وثق مقتل 46 شخصاً على الأقل، وإصابة أكثر من 50 آخرين بجراح متفاوتة، جراء انفجار شاحنة تحمل محروقات، على بعد عشرات الأمتار من مقر الوالي في شارع راجو بالمدينة. بينما أكدت مصادر من داخل مستشفى عفرين لـ”العربي الجديد” أن عدد القتلى ارتفع أمس إلى 62 بعد انتشال 12 جثة من تحت الأنقاض، مؤكدة أن هناك حالات حرجة بين المصابين، متوقعة ارتفاع حصيلة القتلى.
وفي السياق، أكدت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن التفجير دمر كلياً أو جزئياً نحو 150 محلاً تجارياً في السوق، واصفة ما جرى بأنه “أكثر من قصف جوي”، مضيفة: “هناك حالة حداد كامل في المدينة. ما جرى كان رهيباً للغاية، وهناك فزع يجتاح المدينة كلها”. وأوضحت المصادر أن أغلب سكان المدينة لم يخرجوا من منازلهم أمس، مضيفة: “المدينة مغلقة بشكل كامل”.
ونشرت صفحات على موقع “فيسبوك” مقطعاً مصوراً من كاميرات المراقبة في الشوارع يظهر لحظة انفجار الصهريج المفخخ في وسط السوق الشعبي، والأثر المدمر الذي خلّفه. هذا وأغلق الجيش التركي و”الجيش الوطني” مداخل المدينة ومخارجها من أجل استكمال عملية التحقيق في الحادثة وكيفية دخول المفخخة.
أبو خالد، صاحب متجر في منطقة التفجير، قال لـ”العربي الجديد” إن التفجير دمر متجره وسيارته، إلا أنه يعتبر نفسه محظوظاً لأنه بقي على قيد الحياة، مبدياً حزنه على الضحايا الذين سقطوا نتيجة التفجير، محمّلاً مسؤولية التفجير للفصائل المتحكمة بالمنطقة، التي سمحت بحالة من الفلتان الأمني يسهل من خلالها حدوث اختراقات، داعياً الحكومة التركية إلى العمل للوصول للفاعلين ومحاسبتهم.
وفي إطار ردود الفعل المنددة بتفجير الثلاثاء، وصف الائتلاف الوطني السوري في بيان التفجير بالإرهابي، مشيراً إلى أن هناك جهات، لم يسمها، “تسعى إلى نشر الفوضى وتهدف إلى إعادة عقارب الساعة للوراء”، مجدداً المطالبة بـ”مواقف دولية حازمة ضد الإرهاب ورعاته والمستثمرين فيه، مع ضرورة دعم المؤسسات الممثلة للشعب السوري ومساعدتها على القيام بدورها وواجباتها”. ومضى بالقول: “قوات الشرطة والأمن والجيش الوطني السوري في مناطق الشمال المحررة ستستمر في ملاحقة التنظيمات والمليشيات الإرهابية وكل مع يدعمها أو يمولها أو يرعاها”.
من جهته، قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، إن داعمي منظمة الوحدات الكردية والساعين إلى شطب اسمها من قائمة الإرهاب “مسؤولون أيضاً” عن التفجير “الدنيء” الذي شهدته عفرين من قبل “إرهابيي” هذه الوحدات. وفي تغريدة نشرها على حسابه عبر “تويتر” الثلاثاء، أوضح جاووش أوغلو أن الوحدات الإرهابية قتلت المدنيين الأبرياء “غير آبهة لوجود الأطفال، ودون اعتبار لشهر رمضان”. فيما قال وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، في تغريدة، إن التفجير الذي نفذته “المنظمة الإرهابية لن يبقى بلا رد”.
كذلك اتهم القيادي في فصائل المعارضة، مصطفى سيجري، “قسد” بالوقوف وراء التفجير. وقال في حديث مع “العربي الجديد”: “لطالما مثلت عفرين عند القوى الإرهابية الانفصالية أهم معقل والجزء الرئيس وطريق العبور الواصل بين الشرق والبحر المتوسط لإقامة ما يسمى إقليم كردستان سورية”. وأضاف: “يسعى تنظيم قسد لإحياء روح العنف والتأكيد أنه لم يسلّم بخسارة عفرين وأن أهلها لن يشعروا بالأمان ما دامت خارج سلطته”. ورأى سيجري أن تفجير عفرين “جاء ليؤكد أن لا بديل من استكمال العمليات العسكرية السورية التركية المشتركة ضد تنظيم قسد”، مضيفاً: “لا يمكن التعامل مع الإرهاب إلا بحزم”. وأقرّ بوجود خرق أمني كبير سمح بدخول الصهريج المفخخ إلى المدينة، مضيفاً: “هناك ضعف في الإمكانات والمعدات، وهناك تقصير من قبل القوى المعنية في حماية المنطقة بسبب غياب القيادة الواحدة وغياب الإدارة المركزية”.
ونددت الولايات المتحدة في وقت متأخر الثلاثاء بالهجوم، وجددت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس في بيان، الدعوة الأميركية إلى وقف إطلاق النار على مستوى سورية. وأضافت “مثل هذه الأعمال الشريرة الجبانة غير مقبولة من أي طرف في الصراع”.
في المقابل، أدان “مجلس سورية الديمقراطية” التفجير “الإرهابي الذي استهدف المدنيين الأبرياء”، قائلاً إن هذا التفجير “يهدد من بقي من أبناء عفرين بالنزوح وترك قراهم ومدنهم”. واعتبر المجلس الوجود التركي في منطقة عفرين “احتلالاً”، قائلاً إنه “فتح الباب على مصراعيه لقوى الإرهاب كي تنظم صفوفها وتمارس أعمالها الجبانة في ظل الحماية التركية لها”. ودعا المجتمع الدولي إلى “القيام بمسؤولياته تجاه القضية السورية والعمل على إنهاء الاحتلال التركي لمدينة عفرين وجميع المناطق الأخرى التي قامت باحتلالها؛ وتهيئة الأجواء لتحقيق الحل السياسي استرشاداً بالقرارات الدولية ذات الشأن، في مقدمتها القرار 2254 ووضع حد للصراع المستمر منذ قرابة عشر سنوات”.
وتلاحق فصائل المعارضة المسيطرة على عفرين اتهامات بالقيام بتجاوزات بحق سكان المنطقة، وتركيز جهدها على السرقة والسطو على المنازل وممتلكات المدنيين، “وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام جهات تريد زعزعة الاستقرار في المدينة وريفها”، وفق مصادر محلية.
وارتفعت عقب التفجير أصوات ناشطين محليين، مطالبة الجانب التركي بتحمل مسؤولياته ووضع حد للفوضى والفلتان الأمني في المنطقة وتسلّم إدارة المنطقة من النواحي كافة، وكفّ يد مجموعات تنتمي إلى فصائل المعارضة تعيث فساداً. ووفق مركز “جسور” للدراسات، فإن عدة فصائل تابعة للأخيرة تسيطر على مدينة عفرين وريفها، وهي: “حركة أحرار الشام”، “فيلق الشام”، “لواء الشمال”، “أحرار الشرقية”، “الجبهة الشامية”، “فيلق المجد”، “فرقة السلطان مراد”، “جيش النصر”، “جيش الإسلام”، “لواء الوقاص”، “لواء سمرقند”، “فرقة الحمزة”، “لواء السلطان سليمان شاه”، “فرقة المنتصر بالله”، “جيش النخبة”، “فيلق الرحمن”.
ويشكل الأكراد أغلب سكان مدينة عفرين وريفها، وهي من أهم معاقلهم في سورية، ولكن عدداً كبيراً منهم ترك المنطقة مع بدء وأثناء عملية “غصن الزيتون” إلى منطقة تل رفعت في ريف حلب الشمالي أو إلى داخل مدينة حلب حيث ينتشر الأكراد في عدة أحياء فيها، أو عبروا نهر الفرات إلى منطقة عين العرب في شمال شرقي حلب، ومحافظة الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من سورية، حيث تقطن النسبة الأكبر من أكراد سورية، ولا سيما في القامشلي وريفها. وهُجر عدد كبير من السوريين من ريف دمشق وريف حمص الشمالي إلى منطقة عفرين في عامي 2018 و2019، وانتشروا في عدة قرى وبلدات.
المصدر: العربي الجديد