حسناً فعلت الحكومة الأردنية حين أقدم وزير خارجيتها، وإن متأخراً، بعض الشيء، على توضيح الموقف الأردني من حكاية “الناتو الشرق أوسطي”، فقد أثارت تصريحات أدلى بها الملك عبد الله الثاني لشبكة “CNBC”، ضجيجاً هائلاً في عموم عواصم المنطقة، وانشغل بتفسيرها، سياسيون ودبلوماسيون وإعلاميون من مختلف العواصم والمحاور، بعد أن عبّر بشكل مقتضب وغامض ومشروط، عن استعداده لدعم “ناتو شرق أوسطي”، في رده على سؤال للإعلامية في الشبكة، هادلي غامبل.
نثني على توضيحات الحكومة واستدراكاتها، مع أنها جاءت لاحقة لنفي “مصدر أميركي رفيع” أن تكون لدى واشنطن النيّة لطرح فكرة كهذه في أثناء جولة بايدن الشرق أوسطية، ومسارعة عدد من حكومات المنطقة، بدءاً برائدة المسار الإبراهيمي (أبو ظبي) إلى نفي علمها بها، أو أنها جزءٌ من ترتيب أو إطار كهذا، وكذا التسريبات الإيرانية، عن تطمينات نُقلت إليها من الرياض بوساطة مصطفى الكاظمي، ومصر بوساطة عُمانية…الأمر الذي جعل الفكرة برمتها ليست ذات صلة، سواء قصدها الملك في حديثه أم لم يقصدها.
وليومين أو ثلاثة، بدا أن الأردن وحده من بين الدول العربية ذات الصلة، الأكثر حماسة لمشروعٍ لا تناصره في المنطقة، وتتحمس إليه، سوى إسرائيل…والمفارقة أن الأردن أكثر من غيره من هذه الدول، تبنى سردية حيال فلسطين وقضيتها، تنهض على أقانيم ثلاثة: مركزية القضية وأولويتها، حلها يمثل شرطاً مسبقاً للأمن والاستقرار والتعاون الإقليمي، وحلها يجب أن ينهض على قاعدة “دولتين”، وفقاً للمرجعيات المعروفة.
“ناتو”، و”شرق أوسطي” كذلك!
في المخيال الشعبي لأبناء هذه الرقعة من العالم، لا يُذكَر “الناتو” وإلا وتُذكر معه، حروب وغزوات واجتياحات، سيما بعد العراق وأفغانستان، وحين يقال “شرق أوسطي” تنصرف الأذهان إلى إسرائيل مباشرة، فلو أن الأمر مرتبط بتحالف أو ترتيبات دفاعية عربية بيْنية، لقيل “تحالف عربي”، ولو ضُمّت إليه تركيا أو أي بلد إسلامي آخر، لقيل “تحالف إسلامي”، أما أن يقال “ناتو” و”شرق أوسطياً” كذلك، فإن الأذهان ستنصرف إلى إسرائيل بالضرورة، بوصفها حجر رحى هذا الحلف، وإلى إيران أساساً، بوصفها هدفه وموضوعه.
وزاد القصة إثارة وتعقيداً، أن تصريحات الملك جاءت في ذروة حراك سياسي ودبلوماسي عربي كثيف، شاركت إسرائيل في جزءٍ رئيسٍ منه (قمتا النقب السداسية وشرم الشيخ الثلاثية في آذار 2022 إلى جانب قمم ولقاءات ثنائية في عمان والقاهرة وأبو ظبي والمنامة)، وعشية جولة أولى للرئيس الأمريكي جو بايدن في المنطقة، وقمة (9+1) المنتظرة في جدة، وفي مناخات التطبيع المتسارع بين إسرائيل وعواصم عربية، ووسط “ضخ إعلامي” إسرائيلي كثيف، عن هيكل أمني إقليمي جديد، سيبصر النور قريباً، وسيضطلع بتيسير ومأسسة تبادل المعلومات الاستخبارية، وربط الأنظمة الدفاعية وشبكات الرادار والانذار المبكر بين إسرائيل وعدد من الدول العربية (السنيّة المعتدلة).
الحقيقة أن الرأي العام العربي على علم وبَيّنَةٍ بالخطوات التطبيعية المتسارعة بين إسرائيل وعدد متزايد من الدول العربية، فوق الطاولة ومن تحتها، سيما بعد أن كَسرت عواصم عربية عدة “التابوهات” التي نشأت عليها ثلاثة أو أربعة أجيال من أبناء المنطقة، وفي ضوء تتالي التقارير عن مشاركة إسرائيلية فاعلة في مناورات البحرين، الأحمر والأبيض، واجتماعات “شرم الشيخ” لرؤساء أركان جيوش عربية مع قادة عسكريين إسرائيليين برعاية من البنتاغون، كل هذا، وأكثر منه، بات معروفاً ومتوقعاً من قبل الرأي العام العربي… لكن أن تصل الأمور حد بناء حلف (وليس تحالف) استراتيجي، شبيه بالناتو، أو امتداد له، يربط إسرائيل بالدول العربية، كما فهم من التصريحات أو كما جرى تفسيرها، فهذا تطورٌ بدا عصياً على البلع والازدراد.
في الحالة الأردنية، ليس خافياً على أحد، أن عمّان ترتبط بمعاهدة سلام “مستقرة” مع إسرائيل، وأن مسار التطبيع الأردني – الإسرائيلي يتقدم بخطوات واسعة وبهدوء لم تقطعه سوى “اتفاقية الغاز” من قبل وصفقة “الماء مقابل الكهرباء” من بعد، وعمليات الشراء المتكررة للمياه الإسرائيلية بين هذه وتلك … لكن في المقابل، كان واضحاً خلال السنوات القليلة الفائتة، أن إسرائيل وضعت علاقاتها مع الأردن على سكة مواجهة وصدام، ورسمت على طريقها، خطوط تماس عدة، من بينها القدس والرعاية الهاشمية للمقدسات، وتدمير منهجي لـ”حل الدولتين”، وتطاولٍ متمادٍ على ما يعتبره الأردنيون خطوطاً حمراء وثوابت وطنية، تتصل بهويتهم وكيانهم ومستقبل وجودهم، بالتلويح المتكرر بمشاريع حلول للقضية الفلسطينية خارج في فلسطين، في الأردن، وعلى حسابه وحساب الفلسطينيين سواء بسواء.
ومنذ انطلاقة المسار الإبراهيمي، وبالذات في عهد إدارة دونالد ترامب و”صفقة القرن”، استبطنت السردية الأردنية فرضية أن هذا المسار يتقدم على حساب الأردن ودوره ومصالحه، وأن “الصفقة” التي جاء بها ترامب، استرضاءً لليمين الإسرائيلي المتطرف واستلهاماً لروايته ورؤيته، أظهرت استعداداً أمريكياً للتسامح مع أية أضرار، جانبية أو جوهرية، يمكن أن تلحق بالأردن… كان الاعتقاد السائد في الأردن، أن تسريع مسارات التطبيع من دون حل القضية الفلسطينية، لا يترك الفلسطينيين وحدهم فحسب، بل ويترك الأردنيين أنفسهم، نهباً للعزلة والخذلان، بلا سند أو ظهير عربيين، حتى أن البعض من مسؤولين ومحللين، بات يربط “الخانقة الاقتصادية” التي تعتصر بلدهم، بمحاولات ثنيه عن مواقفه (ثوابته)، وأن قضية الأمير حمزة، المعروفة أردنياً باسم “الفتنة”، إنما جاءت في هذا السياق، وبتواطؤ متآمر من أطراف “صفقة القرن” ورعاتها، عرباً وإسرائيليين وأمريكيين.
والحقيقة أن مشكلات الأردن مع إسرائيل لم تنته برحيل نتنياهو عن الحكم، أو سقوط ترامب في رئاسيات 2020، فمع حكومة بينت، ارتفعت وتائر الاستيطان بأزيد من 62 بالمئة عمّا كانت عليه زمن نتنياهو، وزاد عدد المنازل الفلسطينية المهدّمة، بأكثر من 35 بالمئة، وتضاعفت “عمليات الإعدام في الشارع” لمواطنين فلسطينيين، وارتفع عدد وعديد الاقتحامات للحرم الشريف، ونجحت إسرائيل في فرض “تقسيم زماني” للمسجد الأقصى…في الجوهر، كان أداء حكومة بينت من منظور المصالح الأردنية، أكثر سوء من أداء حكومات نتنياهو المتعاقبة، أما في الشكل، فقد كان بالإمكان الاحتفاظ بقنوات اتصال مفتوحة مع مؤسسات الحكم في إسرائيل، وعلى أرفع المستويات، بخلاف ما كان عليه الحال زمن نتنياهو، حين تركّزت العلاقات الثنائية في المستويين الأمني والعسكري…وفي كل الأحوال، فإن عمّان، تتحضر هذه الأيام، لسيناريو عودة نتنياهو للحكم، على رأس ائتلاف أكثر تطرفاً، بعد خامس انتخابات مبكرة في إسرائيل في غضون ثلاث سنوات.
في المقابل، أثار مقدم إدارة بايدن، حالة من الفرج والانفراج للدبلوماسية الأردنية، لكن ما لا تقوله عمان بصراحة وعلانية، إن هذه الإدارة لم تحرك ساكناً في الموضوعات الجوهرية حتى الآن، وتكتفي بالحث على التهدئة وضبط النفس وإجراءات بناء الثقة، دون أفق سياسي واضح، ودون مسار تفاوضي ذي مغزى، ودون التزام بترجمة التعهدات السابقة، ومن بينها فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وهي التي باشرت أعمالها هناك، قبل قيام إسرائيل بأكثر من مئة عام…والخشية التي تتفاقم في عمان ولدى أهلها، أن بايدن سيغادر البيت الأبيض، قبل أن يحزم أمره ويجسّر بين أقواله وأفعاله، وسط تقديرات متشائمة بعودة “الترامبية” إلى البيت الأبيض بعد عامين أو أزيد قليلاً، بترامب أو من دونه، لكأن الزمن يتحضّر لاستكمال استدارته بعد سنوات أربع فقط، فيعيد للأردن “صديقين لدودين” لا حاجة له بوجودهما، لأي أعداء.
تُبقي هذه التطورات الأردنيين في حالةٍ من القلق، لا على مستقبل أشقائهم الفلسطينيين فحسب، بل وعلى مستقبل بلادهم وكيانهم وهويتهم الوطنية، سيما وهم يستقبلون بين الحين والآخر، “بالونات اختبار” من نوع “ضم الضفة الغربية”، أو بالأحرى ما تبقى منها، للأردن، أو إقامة “مملكة فلسطين الهاشمية”، وهي “بالونات” تنطلق من عواصم يُفترض أنها شقيقة وحليفة، ويحظى مطلقوها النافذون بـ”صلات قوية” في أماكن إقاماتهم وفي عمّان كذلك.
لكل هذه الأسباب، استُقبِلت تصريحات الملك للشبكة التلفزيونية الأمريكية، بفيضٍ من التساؤلات، عمّا إذا كان طرأ تغيير جوهري، على مواقف الأردن وسياساته حيال المسألة الفلسطينية، وما إذا كان الأردن سيمضي في مسار تعميق علاقاته مع إسرائيل ورفعها إلى مستوى “الحلف”، قبل أو من دون حل القضية الفلسطينية، وكيف ستنعكس توجهات كهذه، على مصالح الأردن الوطنية العليا، بل وعلى أمنه واستقراره وسلامة نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية؟
هنا، نعود إلى ما كنّا بدأنا به هذه المقالة، فقد أحسنت الحكومة صنعاً بإعادة التأكيد على مواقفها التقليدية واستحضار سرديتها، وتقديم شروحات وتوضيحات لموقفها من “حكاية الناتو الجديد”، حتى وأن بتأخير بضعة أيام، لا ندري إن كان مقصوداً بذاته، أم أنه ينهض كشاهد على ضعف الكفاءة وبطء الاستجابة، أم أن وراء الأكمة ضعفاً في “المواكبة”، قد يكون ناجماً عن إحجام الحلفاء والشركاء والأشقاء، عن إشراك الأردن بما في جعبتهم من معلومات وتقديرات دقيقة حول ما يجري في قنوات الاتصال الخلفية من تفاعلات، إن لجهة ملف إيران النووي، وطبيعة العلاقة بين واشنطن وطهران، أو لجهة المستوى الذي بلغته علاقات أبو ظبي بإيران، أو الشوط المقطوع من المسافة الفاصلة بين السعودية وإيران وجولة الكاظمي المتزامنة والمتوازية مع انطلاق مسار الدوحة، فبدا لبعض الوقت، كأننا آخر من يعلم، وأصبح التوضيح، استحقاقاً واستدراكاً.
المصدر: الحرة. نت