عبر التاريخ كانتِ الثوراتُ السياسيةُ والاجتماعيةُ وحتى الثقافيةُ والدينية؛ كان منشؤها خللًا جَليّا في العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، وظلمُ الإنسان لأخيه الإنسان. وكذلك كان ومازال ما يجمع هذه الثورات أنّها تبدأ بمطالبَ بسيطةٍ، ثم تتحول إلى ثورات عنيفة نتيجة تجبُّرِ الطرف الظالم من المعادلة.
هذه الأيام يعيشُ كثيرٌ من الناس حالةَ يأسٍ شديدٍ؛ نتيجة ما وصلت له ثوراتُ الربيع العربي، وكيف انتهى بها المقامُ إلى تشرد وجوع وتدمير وانتصار ظاهري للجانب الظالم على الجانب المظلوم، وبدأ يبحث كثيرٌ من المخلصين في الأسباب، ويشخّصون الظواهر، ويجتهدون في وصف العلاج.
الجميلُ في بناء هذا الكونِ الواسعِ وفي عدالة المولى عز وجل، وجودُ قواعدَ ثابتةٍ راسخةٍ سواء أحببنا ذلك أم كرهنا. وفهمُ هذه القواعدِ كانت طريقَ النورِ لحل معظمِ المعضلات عبر التاريخ، وستظل كذلك في الحاضر والمستقبل. ومن واجب المخلصين وضعُ تلك القواعدِ في سياقها لتشخيص الحالِ ووصف العلاج، فقد اختلط والتبس الأمرُ من كثرة الخبث من حولنا، فانقلبتِ الموازينُ، وتاه بنو البشر!
الثوراتُ الناجحةُ عبر التاريخ التي تركت أثرًا امتدّ إلى قرون، كانت ثوراتُ مبادئ لا ثوراتُ مكاسب، وهذا لا يعني أنّ ثوراتِ المبادئِ لم تعانِ ممن يحاول جرَّها وحرفَها لتكونَ ثوراتِ مكاسب، وهي التي قامت في الأساس لحاجاتٍ حياتيةٍ بسيطةٍ ضد الظلمِ الجائر، وتجسدُه الظاهر بالمكاسب المادية والمعنوية النفسية! إذن فالثوراتُ عمومًا حتى الأرقى منها تعاني من صراع بين المكاسب والمبادئ في بداياتها! وهذا ديدنُ الأمر عبر التاريخ. لذلك رغم كثرة الخبث وتكالب التُحُوت، فلا يأسَ مع ثوراتِ الربيع العربي، فهي مازالت في بداياتها، وانقلابُ الكفة لصالح ثورةِ المكاسب حالةٌ طبيعيةٌ بمعطيات الواقع والقوانين الدقيقة للكون، فغيابُ الوعي والممارسة كان ولا يزال هو السائد في صفوف مجتمعاتنا منذ زمن ليس بقصير بسبب تلاعب النظم السياسية المتعاقبة بالمجتمعات على قاعدة (إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) ، وبالتالي فإنّ الموضوعيةَ والتشخيصَ المنضبط قبل وصف العلاج مفتاح للنصر.
ثبات من ينادون بثورة المبادئ -حتى في أشد لحظات الهزيمة واِسْتِئْساد مناصري ثورة المكاسب- هو العلاجُ السحريُّ لانقلاب المعادلة في المستقبل؛ لأنّ ثورة المبادئ لها تأييدٌ خفيٌّ من أهل السماء والأرض وفوقهم بالتأكيد رحمةُ الله ونصرُه المؤكد للمخلصين “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ”(القصص -5).
[صراع المكاسب والمبادئ كان حاسمًا عند خير الخلق محمدٍ (ص)، عندما جاءه قومُه يُغرونه بالمكاسب فأجابهم: والله لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أتركَ هذا الأمر ما تركته، حتى يظهرَه اللهُ، أو أهلكَ فيه. نعم كذلك كان الأمر في إصرار من كتبوا “ماغنا كارتاMagna Carta “(الميثاق العظيم-1215م) على تنفيذها ولو بعد 474 عام، وإصرار اتباع مالكوم اكس ومارتن لوثر كينع على مساواة الأبيض بالأسود رغم اغتيالهم قبل رؤية حلمهم يتحقق، وكذلك إصرار محمد علي كلاي على مبدأه رغم أنه جُرد من جميع ألقابه ومكاسبه الدنيوية.
أصحاب ثورة المبادئ لا يحزنون على علوا الظالم، وتصدر ثوار المكاسب؛ لأنّ تأييدهم إذا كانوا صادقين يأتي من رب البشر وليس من البشر:” وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (ال عمران-139). في تاريخنا العربي والإسلامي ربما كانت ثورات المبادئ نادرةً جدًا، لكنها عندما تحصل يمتد أثرُها لمئات وربما لآلاف السنوات؛ لأنها كالانفجار الكوني الذي يُسمع صداه منذ بدء الخليقة إلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها.
عندما ينحاز ثوارُ المبادئ إلى جانب ثوار المكاسب، اعلم أنّ الهزيمةَ وقعت، ولكن، إن بقيَ شخصٌ واحدٌ فقط ينادي مخلصًا بثورة المبادئ، فاعلم أنّ الثورة ستثمر انقلابًا في الموازيين في يوم ما؛ لأنه لا سواء أبدًا ” فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار”. وثائر المبادئ يرجوا من الله ما لا يرجوه ثائر المكاسب.