قد يبدو عنوانًا طويلًا لمقالة كان من المفروض أنْ يكونَ عنوانُها عودة الابن الضَّالُّ، لكن ترافقت كتابة هذه الكلمات مع تصفحي لكتاب دمِ الأخوين (العنف في الحروب الأهلية-2017)، للكاتب فواز طرابلسي، واتفاق قسد وعودتهم لحضن النظام، والتهديد بوقف الدعم الإنساني عن المنظمات الإنسانية، وما يدور حوله من نقاش بين باكٍ ومتباكٍ، كلُّ هذا جعلني أبحثُ عن الابن الضَّالِّ، فلا أجدُه.
وفيلم عودة الابن الضَّالُّ (إنتاج عام 1976)، لمن لا يعرفه، يروي قصةَ عائلةِ الشابِّ عليٍّ، التي تنفجر بسبب العديدِ من الإخفاقات، وتراكمِ الحقد. قصةٌ تجسد بدورها واقعَ عالمِنا العربي، خصوصًا أنَّ هذا الفيلمَ عُرض بعد مرور سنة على اندلاع الحرب اللبنانية، كما أنّ هناك تشابهًا بين عليٍّ، الناشط والثوري الذي تخلّى عن العناوين العريضة للمساواة، وبين حكّام البلد، الذين يُدركون حجم الفساد، لكنَّهم لا يريدون إصلاح هذا المجتمع. جوهرُ الفيلم، يكمن في صعوبة معرفةِ الشخصِ المتّهمِ وراء ذلك؛ فالشريط يحمل أوجهًاً عدة والكثير من الاستعارات، بالإضافة إلى مشاركة أجيالٍ مختلفة في إيصال الأحداث، وكل جيل مقتنعٌ برؤية خاصة عن المجتمع والسياسة والحياة.
يقول فواز طرابلسي في كتابه (صفحة 28) واصفًا بدقة واقع الحروب الأهلية:” غريبة الحرب النفسية التي يمارسُها الخصومُ في الحروب الأهلية، إنَّها لا تروم كسب أفراد القوات المعادية إلى صف خصومهم، ولا حتى إقناعهم بالفرار من ميليشياتهم والانضمام إليهم؛ والسبب أنَّ المرء لا يغيّر جلده، كما تقول الحكمة القَبَلية، لا يغيّر قبيلته، وأنَّ “الدم لا يصير ماءً”. وما دام لا نية ولا إرادة، بل لا إمكانية لكسب الآخر، حريّ إصابته بأكبر عدد من ” الجراح الرمزية”.”
فواز طرابلسي المصنف شيوعيًّا -كما عنوان المقالة -دقيقٌ في النقد اللاذع للواقع، كما هو مخدرُ الإسلاميين المريح عن أمجاد التاريخ، لكنَّ السؤالَ: أين هو اللصُّ المخادعُ الذي يُنَظِّرُ للمستقبل؟ هو ببساطة الضلعُ الثالثُ الحاضر في المعادلة الحالية، بل يبدو الأكثرَ فعاليَّة على الأرض بين ثالوث الرعب المذكور، وقد يكون يملك مفتاح السرداب الذي حُبِسَ فيه الابنُ الضَّالُّ، الذي جلس يكتب رؤيته للحل على جدران سردابه المظلم؛ على أمل أن يُفَتحَ السردابُ يومًا، فتدهش البشرية والأجيال القادمة بعبقريَّته الفذة!
اللصوصُ المنظرون للمستقبل يصنعُهم ويسوقُهم ماكينةٌ ضخمةٌ تُدارُ في أقبية المخابرات الدولية، تتحكم في المشهد ببراعة هائلة، يساعدُهم على ذلك تمكنُهم من الأدوات، وفوق ذلك ثالوث الرعب الذي يغذي كلٌّ من أضلاعه الضلعَ الآخر في مشهد سبقني ربما إلى تشخيصه الكثيرون، لكن دائمًا ما كان هؤلاء -إلَّا مَنْ رحِمَ ربي-يرسمون النهاية فقط لمن يغطي لهم تكاليف الإنتاج والإخراج فيَضلون ويُضلون!
أمران فقط سيرسمان المخرج من هذا المشهد المُخجِل، أولهما: إرادةُ الله جلَّ وعلا في نصرة الذين استضعفوا، ونكاد نجد بشائرها في صراع اللصوصِ الكبارِ على المسروقات هذه الأيام، وثانيهما: وجودُ جيلٍ بدأ يفكر خارج الثالوث باحثًا بإخلاص عن حلٍّ للخروج من المقابر الجماعية التي نعيش فيها منذ زمن طويل! قد نموت ولا نرى الحلَّ، لكن بالتأكيد نؤمن إيمانًا راسخًا أنَّ على قدرِ إخلاص هذا الجيلِ وحقنه بالوعي -الذي لا نملك سواه-سيُكتب ثوابُ التغيير في صحائف أعمالنا.
سوف اختتم بمقطع لفت نظري (صفحة 24 من كتاب دم الأخوين) لأنَّه يشخص، ويصف واقعًا لم يتغيرْ منذ ما يقارب الأربعين عامًا، مما يدعو إلى تأمُلٍ عميق!:
“لنعُدْ إلى البربارة (عيد مسيحي يحتفل به جبل لبنان في الرابع من كانون الأول من كل عام)، قلنا: إنَّ البربارة هي انقلابٌ حقيقيٌّ في النظام الاجتماعي، لكنَّه انقلابٌ مؤقتٌ و زائلٌ، والحالُ أنَّ الانقلابَ إذ يجري على هذا النحو من العربدة الجماعية، فلكي يؤكد أنَّه الاستثناء. وسرعان ما نعود إلى القاعدة: نهب الميليشيات المنظَّم الذي يُغني القلّة على حساب الكثرة. وهكذا فإنَّ نهبَ المرفأ ووسط المدينة، افتتح تلك الوظيفة للعنف بما هو وسيلة مميزة للارتقاء الاجتماعي ولإعادة توزيع الثروة. ولكن سرعان ما انسحبت الجموع من الأسواق ومن ساحات الفعل، كانت الجموع تنتمي إلى عهد ما قبل الحرب، إلى بقايا النضالات الاجتماعية، وبعد أنْ كان العنفُ وسيلةً من وسائل التسوية العامة وإعادة توزيع الثروة، صار العنف أداة للنهب المافيوي، أي أداة لولادة تمايزات اجتماعية من نمط جديد من خلال الحرب.”
ربما تفسر عبارة ذكرها الكاتب فواز طرابلسي في مطلع كتابه جزءًا من هذا الواقع المرير:
“عبثًا يحاولون التطهّرَ بأنْ يتلوثوا بالدم، مثلما رجل بعد حمّامِ وَحْل يريد أنْ يُنظّفَ جسدَه بالوحل! ومَن يلاحظْه يفعل ذلك، يظنُّه قد مسَّه خبلٌ بالتأكيد ” (الفيلسوف الباكي: هِرَقْليطُس Heraclitus)