حرب مستعرة
من قبل أن تكون هناك أيّ ضغوط سياسية خارجية، انسحبت رئيسة وزراء السويد ماغدالينا أندرسن من موقعها في أول معركة داخلية، حين أعلنت استقالتها من منصبها بعد سبع ساعات فقط من تكليفها، متسبّبة بحالة من الارتباك أطلق عليها حينها “عدم اليقين السياسي“.
حالة عدم اليقين السياسي هذه تعيشها أندرسن بنفسها هذه المرة، وهي تخوض معركة ثانية، نيابة عن أطراف عديدة؛ معركة الانضمام إلى خلف الناتو التي تبدو حتى الآن عصية عليها.
وإذ تتصدّر جيش السويد الدبلوماسي، تصرّ أندرسن على أن طلب ستوكهولم الانضمام إلى مظلة الناتو، ليس موجّهاً ضد روسيا، بعد أن رأت هي وجارتها فنلندا مصير أوكرانيا التي تتعرّض للغزو منذ فبراير من العام الحالي، ومن جهة ثانية تقول إن بلادها حريصة على حل جميع القضايا التي يمكن أن تعرقل ذلك. ويتطلب قبول عضوية الناتو موافقة بالإجماع من كافة الدول الثلاثين الأعضاء فيه، لاسيما تركيا، الدولة التي اعترضت حتى الآن وبشدة على ضم السويد إلى الحلف، بسبب دعمها لحزب العمال الكردستاني الذي يدرجه الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة على قوائم الإرهاب.
تقول أندرسن إن هناك منظمة كردية واحدة فقط، مدرجة على قوائم الإرهاب في السويد هي تنظيم ”بي كي كي“، ومع أن الدعم العسكري والسياسي السويدي للحزب الانفصالي الكردي لم يعد سرّاً، إلا أن أندرسن تصرّ على مواصلة المباحثات التي انطلقت مؤخراً، حيث يقوم وفد سويدي – فنلندي من كبار الدبلوماسيين والمسؤولين بالتباحث وعلى جولات في أنقرة حول مطالب تركيا من البلدين قبل قمة الناتو نهاية يونيو الجاري.
وتركيا سلّمت قائمة من خمسة مطالب على رأسها ضرورة توقف السويد عن تقديم الدعم السياسي لما تعتبره إرهاباً، وتجفيف الموارد المالية له، ووقف تقديم الأسلحة لـ”بي كي كي” ونسخته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي، وإلغاء القيود والعقوبات التي تفرضها السويد على تركيا، والتعاون الدولي في مكافحة الإرهاب، والضغط على حلفاء السويد لرفع الغطاء عن ”بي كي كي“ وفروعه. ولهذا يكرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو أن بلادهما تريد الحصول على ضمانات خطية من السويد بشأن “توقفها عن دعم الإرهابيين” قبل الموافقة على انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي.
أبعد من ستوكهولم
تركيا ترغب باستثمار موافقتها على انضمام السويد إلى الناتو للحصول على تنازلات أبعد مما في متناول أندرسن
يبدو الأمر صعباً على أندرسن، فالسويد تنفي حتى هذه اللحظة أيّ دعم أو تنسيق أو رعاية منها لـ“بي كي كي“ أو أيّ منظمة فرعية تابعة له، سواء كانت تركية أو سورية، لكن الأتراك في المفاوضات أبرزوا لنظرائهم السويديين قوائم ضمّت صوراً وأرقاماً للأسلحة السويدية التي تم ضبطها بحوزة حزب العمال الكرستاني في تركيا وفي شمال العراق ولدى ميليشيات ”قسد“ في سوريا، قبل أن يجري تسريبها إلى وسائل الإعلام التركية التي عرضت صوراً لمضادات دبابات من طراز ”أي تي 4“ سويدية الصنع، كانت قد استولت تركيا عليها خلال عملياتها العسكرية ضد ”بي كي كي ” بين العامين 2017 – 2021.
حتى وزيرة خارجيتها، آن لينده، مضت تؤكد بالتوازي مع نفي أندرسن أن السويد لا تدعم الإرهابيين، وانتقدت ما اعتبرته تضليلاً يستهدف موقف السويد القطعي الرافض لحزب العمال الكرستاني.
أندرسن التي ولدت في أوبسالا عام 1967 والخبيرة الاقتصادية ابنة جامعة هارفادر تعاني ليس فقط من سياسة تم زج بلادها فيها على يد لاعبين أقوياء في الناتو، بل أيضاً من شرخ داخل الحلف نفسه، فأمين عام الناتو يانس شتولتنبرغ الذي وقف إلى جوارها زاد الطين بلة حين قال إن المخاوف الأمنية التي أثارتها تركيا في معارضتها لانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو ”مشروعة“.
ستولتنبرغ أشار في مؤتمر صحافي مشترك الأحد الماضي مع الرئيس الفنلندي سولي نينيستو في نانتالي بفنلندا إلى أن تركيا كانت حليفًا رئيسيًا في الناتو بسبب موقعها الاستراتيجي على البحر الأسود بين أوروبا والشرق الأوسط، منوّهاً بالدعم الذي قدمته أنقرة لأوكرانيا منذ الغزو الروسي لها. وأضاف “علينا أن نتذكر ونفهم أنه لم يتعرّض أيّ من حلفاء الناتو لهجمات إرهابية أكثر من تركيا”.
وتريد أنقرة من أندرسن رفع القيود المفروضة على صادرات الأسلحة إلى تركيا منذ عام 2019 عقب العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، إضافة إلى تسليم أنقرة أعضاء مطلوبين لتركيا منخرطين في تنظيمات معارضة كجماعة فتح الله غولن وحزب العمل الكردستاني، وكانت أنقرة قد طالبت السويد وفنلندا بتسلم 21 مشتبهاً بصلتهم بالإرهاب وقوبل طلبها برفض تسليم معظم هؤلاء. أكثر من ذلك فإن تركيا ترغب باستثمار فرصة الحاجة إلى موافقتها على انضمام السويد إلى الناتو للحصول على تنازلات أبعد مما في متناول أندرسن.
خطأ القرنين
أندرسن تعتقد أن عليها “التكيّف مع الواقع” واتخاذ القرارات الملائمة وفقاً للمناخ الدولي الحالي
زعيمة الحزب الاجتماعي الديمقراطي هي أول امرأة تتولى منصب رئيس الوزراء في السويد على الرغم من أن هذا البلد يعتبر من البلدان التي لا تمييز فيها بين الجنسين، وقد أتت بعد فترة من الاضطراب السياسي، والحكومات الضعيفة التي افتقدت إلى الأغلبية البرلمانية الكافية للحكم، فنشأت تحالفات وائتلافات سرعان ما انهارت حين تم سحب الثقة من سلفها ستيفان لوفين.
ما يحدث على الساحة السياسية في السويد وحده كفيل بقض مضجع أندرسن وإقلاق نومها، فالعملاق الأسكندنافي يواجه تيارات سياسية نازية لكن بعد أن استقبلت البلاد واحدة من أكبر موجات اللجوء الإنساني والسياسي إليها بين جاراتها الأوروبية، ما خلق حالة من الاستقطاب الحاد الذي عززته تلك التيارات والأحزاب الشعبوية.
احتفل السويديون بوصولها إلى المنصب، وقالت الصحافة إن قرناً كاملاً قد مرّ بعد نيل المرأة السويدية الحق بالتصويت توّج أخيراً بهذا الحدث. تقول أندرسن ”نحن الاشتراكيين الديمقراطيين نعتبر أن الأفضل للسويد وأمن الشعب السويدي هو أن ننضم إلى حلف شمال الأطلسي. هذا قرار اتخذناه بعد دراسة متأنية للغاية“.
وهي ترى أن ستوكهولم في حاجة إلى الضمانات الأمنية الرسمية التي يمكن أن تؤمّنها عضوية الناتو، غير أنها تشير إلى ما لم يسبقها إليه أحد من سياسيي السويد، في انتقاد عميق للنهج العام السابق، إذ ترى أن قرارها بالانضمام إلى الناتو ”يعكس موقفا اتخذته البلاد منذ 200 عام، تاركة خطا سياسيا من السياسات الأمنية التي كانت لدينا بأشكال وأشكال مختلفة، وبالنسبة إلينا نحن الاشتراكيين الديمقراطيين، خدمتنا سياسة عدم التحالف العسكري بشكل جيد، لكن تحليلنا يظهر أنها لن تخدمنا أيضا في المستقبل. هذا ليس قرارا اتخذناه باستخفاف“.
تعتقد أندرسن أن عليها ”التكيّف مع الواقع“ واتخاذ القرارات الملائمة وفقاً للمناخ الدولي الحالي، وهي لا تخفي صراحتها حول أن هناك مرحلة ما قبل الرابع والعشرين من فبراير 2022 وما بعدها. فأوروبا والسويد تعيشان في واقع جديد وخطير، والنظام الأمني الأوروبي الذي استندت إليه السويد في سياساتها الأمنية لعدة قرون ”يتعرض الآن للهجوم“، على حد وصف أندرسن.
ترمي أندرسن إلى سياسة كانت المملكة البعيدة عن صراعات العالم قد اتخذتها خلال العهود الماضية، قضت بعدم الانحياز وعدم التدخل في النزاعات الدولية، لكن هل استطاعت السويد فعلاً المحافظة على حيادها ذاك بالطريقة التي كان تعلن فيه الحياد؟
صدام بين نسقين
نظام السويد الديمقراطي يلزم حكومته بفتح أبوابها لطالبي اللجوء وكان هذا المدخل أول سيل تدفق منه عدد كبير من المعارضين السياسيين للأنظمة في العالم، ومن بينها تركيا ودول الشرق الأوسط، وغالبية المعارضين الأتراك الذي فروا إلى السويد يتحدرون من أصول كردية وعلى علاقة تنظيمية وثيقة بالـ“بي كي كي“ أصبحوا من حملة الجنسية السويدية، وهم يقومون بممارسة أنشطتهم السياسية بحرية كاملة بما في ذلك تنظيم وعقد المؤتمرات وجمع التبرعات ودعم التيارات السياسية التي ينتمون إليها في بلدانهم الأم، غير أن هذا لا يؤثر كثيراً على الموقف الرسمي للحكومة، لولا أنه يتداخل مع دعم معلن تقدّمه وزارة الخارجية السويدية بإيعاز من حلفاء السويد في واشنطن وباريس وغيرها من عواصم القرار، هذا الدعم تمثل سياسياً باحتضان العاصمة السويدية باستمرار لمؤتمرات لما يعرف باسم مجلس سوريا الديمقراطي ”مسد“ وهو الواجهة المدنية لحزب العمال. أحدث تلك المؤتمرات كان منتصف مايو الماضي، وسبقه اجتماع آخر في أكتوبر من العام الماضي ضم منظمات كردية مع ممثلين عن حزب العمال الكردستاني وأعلن بالحرف الواحد ضرورة ”إفشال الخطط التي تحاك من الدولة التركية للنيل من إرادة الشعب الكردي“.
إضافة إلى ذلك فقد سبق لوزير الدفاع السويدي بيتر هولتكفيست وأن عقد لقاء مع قائد ميليشيات ”قسد“ مظلوم عبدي، وحينها استدعت تركيا سفير السويد في أنقرة احتجاجاً على ذلك اللقاء وعلى زيارات رسمية متكررة للمسؤولين السويديين إلى المناطق التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني في إطار ما يعرف بالحرب على تنظيم داعش الإرهابي، وهذا التنسيق شمل مشاركة المئات من المقاتلين السويديين ضمن صفوف الميليشيا الكردية. كما التقى وزير الدفاع السويدي بيتر هولتكفيست بأعضاء من ”وحدات حماية الشعب“ الكردية التابعة لـ”بي كي كي“، ونشرت وزيرة الخارجية ليندي، في ديسمبر الماضي صورة جمعتها مع مسؤولين من ”قسد“. ومؤخراً جلب جهاز الاستخبارات التركي القيادي العسكري في تنظيم “بي كي كي” رسول أوزدمير من السويد، وهو مسؤول “حركة الشباب الثوري الوطني“ الذراع الشبابي لـ”بي كي كي“ في ولاية شرناق جنوب شرقي تركيا، وكانت مهمّة أوزدمير العمل على تجنيد مسلحين جدد في قوات ”قسد“ في سوريا.
وتزعم تركيا أن تنظيم ”بي كي كي“ يعتمد على خط إمداد مع السويد يؤمّن له مصادر دخل كبيرة، من خلال تجارة الأسلحة والمخدرات، وعبر مؤسسات إعلامية تروّج له.
الاضطراب السياسي السويدي في الداخل ينعكس اليوم على حاجة السويد الملحة في الانضمام إلى الناتو، وأندرسن ذاتها نتاج لذلك الاضطراب، فحين تم انتخابها وتذليل الطريق أمام رؤيتها الحكومية لاحقاً، جرى ذلك بدعم من البرلمانية السويدية المؤيدة لحزب العمال الكردستاني أمينة كاكا بافيه وهي مهاجرة كردية إيرانية، وكنوع من رد الجميل كانت أولى تصريحات أندرسن بعد تولي رئاسة الحكومة قولها إنه من غير المنطقي تصنيف المقاتلين الأكراد جماعةً إرهابيةً من قِبل الجهات الحكومية، ويقول المراقبون إنها كانت تنوي رفع ”بي كي كي“ من قوائم الإرهاب.
أما روسيا فتقول على لسان رئيسها فلاديمير بوتين إنه يتعين على الغرب “ألا تكون لديه أي أوهام” عن أن موسكو قد تغض الطرف ببساطة عن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، معتبراً أن ذلك سيكون خطأ من شأنه أن يؤجج التوتر العسكري. وقال بوتين إن توسيع البنى التحتية العسكرية في أراضي السويد وفنلندا ”سيدفعنا بالتأكيد إلى الرد“.
أندرسن قرأت تهديدات بوتين بعناية، ونقلت بثقة عن الرئيس الأميركي جو بايدن وعدهم بدعم الانضمام إلى الحلف، ولا خيار أمامها سوى الانتصار في هذه المعركة، ولكن يمكن لتركيا الاستمرار في عرقلة جهودها، وهي ليست سابقة على أيّ حال في الناتو، فاليونان أعاقت انضمام مقدونيا لعشر سنوات كاملة، محتجة على اسم مقدونيا الذي رأت فيه اليونان سطواً على تراثها، ولم توافق على انضمامها إلى الناتو إلا بعد أن غيّرت الاسم وأقرّت ذلك في دستورها.
أحدث إشارات أندرسن كانت قولها خلال اليومين الماضيين إثر لقائها مع أمين عام الناتو في مدينة هاربسوند ”نحن نأخذ بواعث القلق التركية على محمل الجد ونعمل على التعامل معها عبر الحوار، وآمل أن تسهم جهود الأمين العام للناتو في حل مشكلة رفض تركيا لانضمامنا“. شتولتنبرغ بدوره بعث برسالة تطمين إلى تركيا حين ألمح إلى إنّ هناك إشارات من جانب السويد تساعد كثيراً في مواجهة المخاوف الأمنية لدى تركيا، مضيفا قوله ”لا أعتقد أنه من المفيد أن ندخل في التفاصيل”.
فهل سيتطلب الأمر من أول رئيسة وزراء للسويد، ومن أجل أمن بلادها القومي، أن تغيّر نسقها العام، في إطار تصحيح ما اعتبرته خطأ تاريخياً، للاقتراب أكثر من نسق آخر يبدو مغايراً تماماً لما اعتادت عليه؟ وما الذي يمكن أن تتنازل عنه تركيا في معركتها لضمان أمنها أيضاً من تهديد تعتبره الأول على لائحة ما يتهدد أمنها القومي ووحدة أراضيها؟ مكاسرة يبدو العنصر الأضعف فيها هو الورقة الكردية التي عادة ما كان يرميها الخصوم جانباً حين تتقاطع مصالحهم العليا وينتهي مفعول اللعب بها.
المصدر: العرب