عاد الخلاف اللبناني الداخلي، المتمحور حول عملية ترسيم الحدود، إلى الواجهة، سواء الحدود البحرية العالقة عند رئيس الجمهورية، ميشال عون، والسلطة من خلفه، أو البرّية العالقة مع النظام السوري والتيار الإيراني من خلفه. وبالتوازي، عادت مع هذا الخلاف كل محاولات الالتفاف التي تمارسها قوى السلطة، وما يرافقها من تراشقٍ للاتهامات ينتهي عادةً بتضييع المسؤوليات.
عاد الانقسام من بوابة ترسيم الحدود هذه المرّة، حين أعلن رئيس لجنة التفاوض غير المباشر مع الاسرائيلي، الضابط في الجيش اللبناني، بسام ياسين، أن السلطة (الرئيس عون) تمسّكت بالخط 23 الذي يفتقر إلى الأساسات العلمية والتقنية لترسيم الحدود، وتخلت عن الخط 29 الذي أعلنه الجيش حدود لبنان البحرية من دون العودة إلى الوفد المفاوض. وحين تغاضت السلطة عن المطالبة بربط نزاعٍ يقضي بإبقاء حقل كاريش المشترك، موضوع الخلاف، بعيدًا عن أي أعمال حفر إلى حين انتهاء عملية المفاوضات، كانت السلطة قد أمعنت في موضوع التخلّي.
سلوك القوى السلطوية اللبنانية المصلحي الدائم والمستمر، هو رهن مستقبل الناس ورهن مصالح الدولة العليا لحساباتهم الخاصة
وحتى عندما هدد أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الباخرة التي استأجرتها إسرائيل إن بدأت الحفر، وذلك في خطبته التلفزيونية 9 يونيو/ حزيران الحالي، والتي استدعت تهديدًا اسرائيليًا مضادًا بعد أيام، فإن حقيقة الموقف لم تتغيّر، ذلك ﻷن المشكلة شأن داخلي، قبل أن تكون خارجية. وهو ما أكدّت عليه كتلة نواب التغيير عندما نظّمت تحرّكًا شعبيًا أقامته يوم السبت في 11 يونيو/ حزيران الحالي عند الخط 29، وأعلنت فيه أنها لن تفرّط بهذا الخط الذي هو الحدود الشرعية والقانونية المثبتة بالمستندات والقوانين الدولية، وطالبت رئيسي الجمهورية والحكومة، ميشال عون ونجيب ميقاتي، بالمبادرة إلى تعديل المرسوم 6433/2011، وإلحاقه بكل الإجراءات الدبلوماسية الدولية الحامية له، بوصفه حقا سياديا. إلا أن الأمر لا ينتهي هنا، بل يعود التفريط في هذا الحقّ إلى محاولات عون، ومن خلفه الوزير جبران باسيل، إلغاء العقوبات المفروضة على الأخير، أو تخفيف وطأتها، والتي تبدّد حلمه بالرئاسة الأولى، أو تجعله رئيسًا معزولًا إلا عن إيران ومحورها. وهو ما يُثبته سلوك القوى السلطوية اللبنانية المصلحي الدائم والمستمر، أي رهن مستقبل الناس ورهن مصالح الدولة العليا لحساباتهم الخاصة، خصوصًا أن الطرف نفسه كان قد رهن البلاد في السابق، حين أوقف تشكيل الحكومة عدة أشهر بغرض توزير باسيل.
يطرح هذا السلوك مجموعة أسئلة أكثر وضوحًا تتظهّر في مقارباتٍ لا بد للشعب اللبناني من التفكير فيها قبل أي مساهمةٍ له بالشأن العام. خصوصا في مرحلة الانهيار، أي المرحلة التي يُفترض أن يعاد التفكير بالبديهيات فيها. فالأسئلة هي: لماذا على اللبنانيين أن ينتزعوا هذا الحق بالمياه الإقليمية وبثرواتها الطبيعية؟ بأي هدف، ولمصلحة من؟ سيرفض بعضهم، بطبيعة الحال، مجرّد طرح هذا النوع من الأسئلة، ﻷن الإيمان بالبديهيات يتملّكهم، ومنطق الدم والوطنية المقلصة على تخوم مصالح الطوائف ستؤدي بهم إلى رفض أي سؤال مختلف، فضرورة التحرير، بالنسبة إليهم، غير مرتبطة بأي طرف، بل هي غايةٌ في ذاتها، وهو صحيحٌ بشكل من الأشكال، لكن ليس كلها.
حقائق وأسئلة تستدعي العمل على حلها عاجلًا، وإلا فسيذهب أي مجهود يُبذل أدراج الرياح الوطنية
هذا الاستثناء في الإجابة، ما أن نفكّر فيه، سيتوسع في حالات الانهيار وفي غياب السلطات المركزية ليغيّر حقيقة المقاربة بأكملها. ما يعني أن “الشواذ” يمكن أن يهيمن على “القاعدة”. وسرعان ما سيتبادر إلى أذهان الناس أن أي فعلٍ في سبيل إعادة ترسيم الحدود عند الخط 29 سيعني وفرةً في المخزون، لكن من الذي سيستفيد منه، خصوصًا أنهم يعلمون أن الطبقة الحاكمة لن تتورّع عن نهب المخزون، كما نهبت كل مقدّرات الدولة واستباحتها؟ علمًا أن السلطة قسّمت هذه البلوكات الغازية منذ مدة، وجلّ مسألة التأجيل هي بهدف السماح لها بالحفر واستدراج العقود التي ستعيد تأبيد سيطرتها على مقدّرات البلاد والعباد!
ألن تذهب هذه الثروات من جديد، كما ذهبت سابقاتها، لمصالح الطبقة الحاكمة وبعض أزلامها؟ ألم يتحوّل كثير من أراضي المشاع، بعد أن تحرّر الجنوب عام 2000، وكما أظهرت تحقيقات استقصائية، إلى أسماء وأزلام محسوبين على حركة أمل وحزب الله؟ وصولًا اليوم إلى اضطرار الناس لبيع أراضيهم بغية تأمين أساسيات العيش، بعد أن أوصلت السلطة البلاد إلى الانهيار؟ هذه وغيرها من أسئلة تضعنا أمام حقائق لا بد من إعادة التفكير فيها، واستبعاد الإيمان الأعمى بها. حقائق وأسئلة تستدعي العمل على حلها عاجلًا، وإلا فسيبقى أي مجهود يُبذل في سبيل هذا الحقل، أو غيره من الموارد والثروات، يذهب أدراج الرياح الوطنية، لأنه سيقرّش في حسابات الزعامات الطائفية. فهل يتحتّم على اللبنانيين الاستمرار بالمفاضلة بين اعتداءين في أقل الأحوال؟ هل هذا أقصى عمل يمكن لهم القيام به، أي المفاضلة بين اعتداء العدو الإسرائيلي على حقول الغاز وغيره من الثروات الطبيعية، أو اعتداء القوى الطائفية واستباحتها الثروات الطبيعية وحقول الغاز ومقدّرات البلد من جهة أخرى؟ أو بالاحرى، هل على الشعب اللبناني المثابرة على دفع كلفة الدم لتحرير أراضيه وثرواته، كي يتنعّم بها من تنعّم على حساب آماله وأحلامه ومستقبل أولاده في السابق؟
المصدر:العربي الجديد