دعونا نتذكر ما حصل في شهر أكتوبر من عام 2019، ففي سوتشي وبعد اجتماع دام ست ساعات بين أردوغان وبوتين، تمخض اتفاق لم ينفذ يقضي بانسحاب القوى الكردية مسافة 30 كيلومترا من الحدود، وانتشار قوات روسية وحكومية سورية وعودة قوات الحدود السورية الحكومية، بالطبع خرج الأتراك ليعلنوا «انتصارا»، بالنسبة لهم الانتصار هو تحقيق منطقة آمنة من الأكراد وليس من النظام السوري، ولا عجب بذلك بالنسبة لأهداف تركيا، لكن العجيب حينها هو احتفاء خصوم النظام السوري من حلفاء تركيا في المعارضة السورية، بهذا «الانتصار»، الذي أعاد منح النظام وروسيا مزيدا من السيطرة شمال سوريا، وهنا تكمن واحدة من مآزق المعارضة السورية.
إن حليفاً أساسياً كتركيا يمتلك أولويات تدور حول الخطر الكردي، تختلف بل تتعارض مع أولوياتهم حول النظام السوري، والمفارقة أن تتحول بندقية جنود اللواء سليم إدريس القائد السابق للجيش الحر لثائر على الأسد، لخدمة الأهداف التركية شمالا، التي تؤدي مباشرة لعودة قوات عدوهم الأسد! ضباب في الرؤية على صعيد التكتيك وعمى على صعيد الاستراتيجية!
طبعا حتى تركيا لم تذق يومها طعم هذا «الانتصار»، الذي حدد مهلة 6 أيام لبدء انسحاب القوات الكردية، فلم تنسحب «قسد»، بينما الجزء الذي تم تنفيذه من الاتفاق هو الشق الملائم لمصالح روسيا والنظام فقط، وهو نشر قواتهم شمالا بعد الضغط على الأكراد، بالاستفادة من التهديدات التركية! والمفارقة أن تركيا ايضا واجهت التهرب نفسه من الولايات المتحدة التي وقعت معها أيضا قبل أيام من اتفاق سوتشي، اتفاقا يقضي أيضا بانسحاب الأكراد، وأيضا حققت واشنطن هدفها بوقف العملية التركية، من دون تنفيذ تعهداتها بإبعاد القوى الكردية، وهكذا خرجت تركيا خالية الوفاض من هذين الاتفاقين مع روسيا وأمريكا اللتين لم تنفذا التعهدات التي أبرماها مع أنقرة، وهذا ما أقر به صراحة وزير الخارجية التركي قبل أيام في مؤتمره الصحافي الأخير مع لافروف، إذ قال إن «روسيا والولايات المتحدة الأمريكية تعهدتا بتطهير مناطق في شمال سوريا من التنظيم الإرهابي المذكور، ومن حقنا أن نطالب بالوفاء بهذه التعهدات». وبعد إخفاق أنقرة بتحقيق هدفها بإبعاد الأكراد من خلال الاتفاقين، توصلوا على ما يبدو لقناعة، بأن السبيل الوحيد لإبعاد الأكراد هو مراعاة مصالح الطرف الذي يمتلك قوى على الأرض في سوريا، وهو الحلف الإيراني الروسي، ولنكن واضحين، تركيا منذ اتفاق سوتشي أقرت سياسة تفضل من خلالها عودة سيطرة حكومة دمشق في الشمال السوري على بقاء القوى الكردية، وهذا بات الخيار العملي الأكثر واقعية لدى تركيا، كونه مقبولا روسياً. ومنذ الاتفاق في سوتشي عام 2019، اتضحت مآلات النزاع بين القوى المؤثرة شمال سوريا، الأكراد وحلفائهم الأمريكيين، النظام وحلفائه الروس والإيرانيين المعادين للوجود الأمريكي، تركيا المعادية للقوى الكردية، مع آلية صراع متشابكة، فطهران وموسكو ودمشق تريد إبعاد الوجود الأمريكي شمال سوريا، وبالتالي ضرب فرصة كيان انفصالي كردي، وهو ما يجمعهم مع أنقرة، ولذلك باتت أنقرة أقرب لموسكو في شمال سوريا، وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن أحد أهداف موسكو في وجودها في سوريا هو إعادة بسط هيمنة «الدولة السورية» على أراضيها، وهو ما نص عليه اتفاق استانة الذي وقعت عليه تركيا، وهكذا أصبحت أهداف تركيا بإبعاد الأكراد مرهونة بتحقيق أهداف دمشق وموسكو بإعادة سيطرة النظام السوري شمالا، الطرف الوحيد الذي خسر هنا المعارضة السورية، حتى الأكراد وإن كانوا سيتخلون عن حلم دولة «روجافا» شمال سوريا، فإنهم سيحصلون من النظام وبضمانات روسية على شيء من حقوقهم الذاتية وصلاحيات إدارية محلية في المناطق الكردية طالما طالبوا بها لعقود، شريطة أن يرفعوا «علم» حكومة دمشق.
ومن سوتشي 2019 إلى أنقرة 2022، حيث عقد لافروف اجتماعاً قبل أيام مع الأتراك الذين يطلقون تهديداً بتنفيذ عمليتهم كل نصف ساعة، كانت الرسالة الروسية للأكراد واضحة، نفذوا اتفاق سوتشي بالانسحاب وعودة قوات الأسد وإلا أطلقنا عليكم الأتراك، وبالفعل بينما لافروف يجتمع في أنقرة، كان وفد عسكري روسي يلتقي مع قائد «قسد» مظلوم عبدي في قاعدة «لايف ستون» القامشلي بقيادة قائد القوات الروسية في سوريا الكسندر تشايكو، ويبدو أن مفاعيل هذا اللقاء كانت واضحة على الأرض، فالأنباء تحدثت عن بدء انسحاب قوات قسد ومؤسساتها من منبج وتل رفعت ودخول المزيد من قوات الفرقة الرابعة وتمركزهم في تلك البلدات المهددة بالهجوم التركي، وهذا السيناريو بات يتكرر مع كل تهديد، أو عملية تركية ضد قسد شمالا، وإذا استمرت عمليات الانسحاب لقسد لتصل للرقة ودير الزور، فهذا يعني أن التسوية مع دمشق تمت، وهي تسوية برعاية روسية تمنح الأكراد حقوقا ثقافية وبعض الصلاحيات المحلية تحت مظلة حكومة دمشق، عقدت من أجلها عشرات الاجتماعات منذ اتفاق سوتشي 2019، لكن كان ينقصها ضغط على الأكراد عادة ما تكفلت به أنقرة، أما في المناطق التي يوجد فيها الجيش الأمريكي شرق الفرات، فيبدو أن قسد قد تصل لقناعة بأن الأمريكيين لن يوفروا لهم مظلة حماية أبدية لأنهم سينسحبون من سوريا عاجلا أم آجلا، وأن مصيرهم مرتبط بالتفاهم مع القوى التي تسيطر اليوم على معظم سوريا، دمشق وحليفتها موسكو وطهران. قد يعتقد البعض في المعارضة السورية أن الأراضي الخاضعة لسيطرة تركيا اليوم هي مناطق آمنة لهم، لن تكون آمنة سوى من الوجود الكردي المسلح وليس النظام، فتركيا دخلت للشمال السوري وفق تعهدات استانة مع روسيا التي تنص على عودة «الدولة السورية»، والمسؤولون الأتراك قالوا صراحة إنهم لن يبقوا في سوريا طالما أبعد التهديد الكردي، وسواء بعد عامين او ثلاثة أعوام، ستنسحب تركيا من هذه المناطق وسيعود لها النظام، المسألة مسألة وقت فقط، هو طريق واضح تنظمه إشارات مرور الصراع، خلال العامين المقبلين ستعيد تركيا «ما تيسر» من النازحين السوريين ، للتخلص من المشكلة الداخلية الخاصة باللاجئين السوريين في تركيا، ولمحاولة خلخلة الديمغرافيا شمال سوريا بالزج بنازحين سوريين عرب في المناطق ذات الغالبية الكردية كما حصل بعفرين.
وبالمحصلة، سواء نفذت تركيا عملية عسكرية أو لم تنفذ في تل رفعت ومنبج، فإن الروس سيضمنون لهم إبعاد قسد، لكن بالمقابل، فإن الروس سيضمنون لدمشق أن تل رفعت ستكون على طريق درعا!
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
المصدر: القدس العربي