لو كان السوريون يشتغلون على نصوص اتفاقيات دولية توازي التي صنعت “صلح وستفاليا” (1648)، الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً، وأرسى نظاماً جديداً في أوروبا، مبنياً على مبدأ سيادة الدول، لكانوا خلال الجولات التي قضوها في أستانة قد توصلوا، على الأقل، إلى التفاهم على الخطوط الرئيسية لمفاوضاتهم، وتحديد النقاط الخلافية والتوافقية، أما أنهم في كل جولة يبدأون من جديد، فهذا يعني أنهم يخوضون في دوامةٍ لا مخارج لها.
باتت المسألة واضحة، فالعلّة في تصميم هذه المفاوضات وهندستها، بحيث يُصار إلى تحويلها إلى لعبةٍ لتزجية الوقت، أو لعبةٍ لا تنتج غير مخرجاتٍ معينةٍ، والمشكلة أن أطرافها تواطأت على الانخراط بها بوعي كامل، كل لمصالحه الخاصة، فالعملية برمتها صناعة روسية خالصة، عمل العقل الاستخباراتي الروسي طويلاً على هندستها، بعد قراءته معطيات الحالة السورية، ومواقف اللاعبين الخارجيين المنخرطة بها، وظروف اللاعبين الداخليين، وتقديره التحوّلات التي يراهن على حدوثها ضمن نطاق زمني مفتوح.
لم يكن اختيار روسيا التفاوض على صياغة الدستور، كبند جرى إدراجه ضمن قرار مجلس الأمن 2254، خياراً عبثياً، حيث جرى اقتطاع هذا البند من سياق القرار بشكل مقصود، بحيث يتيح لروسيا الظهور بمظهر الطرف الدولي المسؤول، والذي يسعى إلى الالتزام بالقرارات الدولية من حيث الشكل، لكن روسيا تدرك أن هذا الالتزام لن يرتّب عليها إجراءات موازية، بهدف تطبيق القرار، كما لن يستطيع أي طرف دولي، إذا كانت هناك أطراف يهمّها إنهاء الكارثة السورية، توجيه النقد إلى روسيا واتهامها بالانحياز لطرف نظام الأسد.
ما فعلته روسيا أنها صنعت سياقاً يستحيل، في ظله، إنتاج حلول سلمية متوازنة للصراع السوري، لأن آليات هذا الحل معطّلة، إذ من المفترض أن يجري النقاش بشأن الدستور بعد تطبيق بند آخر وضروري، وهو تشكيل هيئة حكم من مختلف المكوّنات السياسية المشاركة في العملية، من المعارضة والنظام، تكون مهمتها توفير البيئة المناسبة لصياغة الدستور وطرحه على الاستفتاء العام. وبدون تشكيل هذه الهيئة، يصبح تشغيل آلية صياغة الدستور مستحيلاً، وتتحوّل العملية برمتها إلى حالة عبثية تتطابق تماماً مع المخرجات التي تصدّرها اجتماعات أستانة بجولاتها العديدة.
لم تخف روسيا لحظة أن ما يهمّها من هذه العملية هو المحافظة على مكاسبها الجيوسياسية في سورية بأي ثمن. وعلى الرغم من كل تبجّحات رجالات الكرملين بأن روسيا لا تدافع عن شخصٍ بعينه، إلا أن الحقيقة أن بشار الأسد كان ركيزة محورية في مشروع روسيا الجيوسياسي، كما أن جميع مخطّطات الكرملين قد جرى بناؤها على ضوء هذا المعطى واستمرارية بقاء الأسد في السلطة إلى أبعد مدى ممكن، لأن خروجه من المشهد ستترتّب عليه تداعيات على المشروع الروسي، أيا يكن خليفته.
ومنذ البداية، كانت الرهانات الروسية واضحةً في التعامل مع اللجنة الدستورية باعتبارها فرصة لتحقق بالسياسة ما لم تستطع تحقيقه بالحرب، وهو السيطرة على كامل الجغرافيا السورية وتحطيم مناطق سيطرة المعارضة، كيف؟ تعرف روسيا جيداً أن مجاميع المعارضة الحالية وجدت في ظروف الحرب، تلك الظروف أزاحت القوى المدنية من المشهد أو الكوادر الإدارية التي تستطيع إدارة مرحلة غير حربية، بما يعنيه ذلك من إدارة للخدمات والصراعات الاجتماعية والسياسية. وبالتالي، سوف تنهار هذه المناطق شيئا فشيئا، بسبب سوء الإدارة وضعف التمويل والصراعات المحلية وانعدام الإنتاجية، وصعوبة تكيف الكوادر العسكرية مع واقع السلام. وهذه حقيقة. وبالتالي، ليست روسيا مضطرة لصناعة سلام حقيقي، ما دام الزمن كفيلا بانهيار منظومة المعارضة.
وبالنسبة لنظام الأسد، لا يجد نفسه مضطرّاً للتعامل بجدّية مع أي مفاوضاتٍ سورية. يقول المنطق إن طرفاً لا يقع تحت ضغط تهديد وجودي، لا مصلحة له بخوض مفاوضات جدّية مع خصم يطالبه بتنازلاتٍ سياسيةٍ قد تؤدي إلى إنهاء سلطته، لكن نظام الأسد يجد في هذه المفاوضات مصلحة كبيرة له، فهي توفر له منبرا يستطيع من خلاله القول إنه يقوم بمهام دولة وليس عصابة، كما أكدت عليه أفعاله طوال السنوات الماضية، واستقر في إدراك أغلب الشعوب. بالنسبة لنظام الأسد المعزول، لا يكلفه الأمر شيئا سوى تشغيل لجنةٍ أعضاؤها بالأصل عاطلون من العمل في ظل حكم فردي، ليس الآخرون فيه سوى ديكور شكلي. كما باتت اجتماعات اللجنة الدستورية بمثابة موسم لإعلامه، ليتشدّق بالوطنية ويقسّم السوريين إلى وطني وغير وطني.
إذا كان المطلوب من اللجنة الدستورية استنزاف طاقة الأمل من السوريين، وإضعاف إمكانية التفكير ببدائل تحرّرية أخرى، إلى حين الوصول إلى لحظة الاستسلام وإدراك أن كل الآفاق مسدودة، لماذا تشارك المعارضة بهذه اللعبة؟ ليس سرّاً أن المعارضة باتت على هامش الحدث السوري، وهي لم تعد مهمة، حتى بالنسبة لجمهور المعارضة نفسه، بعدما تحوّلت إلى لعبة بيد أطراف خارجية لا يهمها سوى تحقيق أهدافها الجيوسياسية.
المصدر: العربي الجديد