قرَّب قرار تركيا القيام بعملية عسكرية جديدة في شمالي سوريا، المواقف الأميركية والإيرانية في رفض هذا التحرك. فهل يتحول ذلك إلى تنسيق وتفاهمات بينهما في سوريا؟ وهل تقبل أنقرة أن تتراجع عن قرارها هذا بسبب رفض واشنطن وطهران للعملية؟ وما الذي سيحدث إذا ما أعطت القيادات السياسية التركية الضوء الأخضر لقواتها بتنفيذ الجزء المتبقي من خطة المنطقة الآمنة على جانبي نهر الفرات، خصوصا وأن الميليشيات الإيرانية غير بعيدة اليوم عن منطقة تل رفعت تحت ذريعة دعم قوات النظام؟ هل تجد تركيا نفسها في ورطة مواجهة إيرانية بقرار أميركي في الشمال السوري؟ أم أن هناك أصابع تدير كل هذه اللعبة بالتنسيق مع إيران لإفشال الخطة التركية أولا. ثم لإخراج أميركا من العرس بلا قرص ثانيا؟
أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، أن طهران تعارض أي نوع من الإجراءات العسكرية واستخدام القوة في أراضي الدول الأخرى بهدف فض النزاعات. وقال إن “الإجراءات العسكرية على أراضي الدول الأخرى تشكل انتهاكا لوحدة الأراضي والسيادة الوطنية لتلك الدول وستؤدي إلى مزيد من التعقيد والتصعيد”.
التصريحات الإيرانية جاءت مواكبة لتحذيرات أطلقها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وهو يحذر تركيا، من القيام بعمل عسكري في شمالي سوريا، لأنه “سيعرض المنطقة للخطر ويقوض الاستقرار الإقليمي ويعرقل خطط المواجهة مع تنظيم داعش” الذي تلعب “قوات سوريا الديمقراطية” حليف واشنطن دورا أساسيا فيه.
إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استعدادات لإطلاق عملية عسكرية خامسة في شمالي سوريا بهدف إكمال خطة المنطقة الآمنة، سيؤدي حسب طهران إلى أزمات سياسية وأمنية جديدة في سوريا ويهدد الاستقرار الذي تم التوصل إليه في تفاهمات أستانا وسوتشي. ويضعف الحرب المعلنة على مجموعات داعش في سوريا بالتنسيق بين القوات الأميركية ومجموعات قسد حسب واشنطن.
أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أتعجب.
خطيب زاده لا علم له بوجود مئات “المستشارين” في صفوف الحرس الثوري وفيلق القدس والمقاتلين المحسوبين على إيران وميليشياتها من لبنان والعراق على الجبهات السورية منذ عقد.
وبلينكين لا علم له بالمطالبة التركية اليومية في حسم مسألة إرسال أطنان السلاح والتمويل لمجموعات قسد لأن ما تبقى من داعش لا يحتاج إلى كل هذه الاستعدادات، إلا إذا كان البعض يريد أن يلعب أوراق مئات السجناء من التنظيم في شرقي سوريا ضد تركيا ودول المنطقة وأمنها في مرحلة لاحقة.
تقلق العملية العسكرية التركية إيران:
– لأنها ستعزز النفوذ التركي في الشمال السوري. وتعطي أنقرة ما تريده من سيطرة ميدانية تحول دون التوغل الإيراني باتجاه الحدود التركية السورية عبر قوات النظام.
– وهي تقلق طهران أيضا لأنها قد تتم بالتفاهم المباشر بين أنقرة وموسكو صاحبة النفوذ العسكري والسياسي الأقوى على الأرض مما يعني تراجع الثقل الإيراني وتعطيل مشروع إيران القديم الجديد بالوصول إلى سواحل البحر الابيض المتوسط لتكون شريكا استراتيجيا اقتصاديا أمنيا وسياسيا في تقاسم النفوذ هناك.
– ولأن التمدد العسكري التركي سيترك إيران أمام خيارات محدودة أصعبها الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع القوات التركية والجيش الوطني للحؤول دون الانتشار العسكري التركي الجديد.
– ولأن العملية التركية ستضعف أكثر “شرعية” الوجود الإيراني العسكري نتيجة الانفتاح العربي الأخير على دمشق والذي كان بين شروطه الأساسية إخراج إيران من المشهد في سوريا.
– ولأن طهران قد تجد نفسها في موقف صعب وحرج أمام شريكها الروسي في سوريا، وهي تقترب من واشنطن في طروحاتها الرافضة للخطة التركية خصوصا إذا ما أشعل الكرملين الضوء الأخضر أمام أنقرة لتتحرك في مناطق النفوذ الروسي في غرب الفرات.
– ولأنها تدرك حجم ومخاطر التنسيق التركي الإسرائيلي المحتمل في الملف السوري بعد التقارب الأخير بين أنقرة وتل أبيب والذي سيكون الوجود الإيراني في سوريا في مقدمة أهدافه. خصوصا وأن هذه التطورات تزامنت مع مفاوضات إسرائيلية روسية جديدة من المحتمل أن تكون قد تحولت إلى تفاهمات على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا وهو ما يؤيده العديد من العواصم الإقليمية والغربية.
وتقلق العملية العسكرية التركية واشنطن:
– لأنها تضعف سياسة أميركا، الداعمة لمشروع قسد الانفصالي في سوريا.
– ولأنها تدرك أن تركيا ستسقط ورقة مجموعات داعش من يدها عاجلا أم آجلا، فأنقرة تستعد لمطالبتها بإنهاء هذا الملف وإغلاق السجون عبر إيجاد صيغة قانونية سياسية تسقط جرة العسل هذه من يد أميركا.
– ولأن تركيا قد تحرمها من خلال عملية عسكرية تقوم بها بموافقة الروس، فرصة التصعيد في الشرق الأوسط ومحاصرة النفوذ الروسي على خط البحر الأسود وشرق المتوسط.
– ولأنها تدرك أن تركيا في النهاية لن تعطيها ما تريده في موضوع التوسعة الأطلسية التاسعة عبر إدخال السويد وفنلندا دون إسقاط ورقة التنظيمات التي تتهمها هي بالإرهاب فيما تنسق واشنطن وغيرها من العواصم الغربية مع هذه المجموعات وتوفر لها الحصانة والرعاية السياسية والاقتصادية والدعائية فوق أراضيها.
من سيعطي إيران ما تريده في سوريا وهي في عزلة سياسية هناك؟ إدارة بايدن طبعا إذا ما شعرت أن الرياح السورية تجري بعكس ما تشتهيه واشنطن. فهل تقدم على خطوة انتحارية من هذا النوع لعرقلة التفاهمات التركية الروسية الإسرائيلية الجديدة بغطاء إقليمي في سوريا؟ وهل تضرم النار بلعبة تحالفات إقليمية بنتها بهدف منع العملية العسكرية التركية على حدودها الجنوبية فقط لإظهار أنها قوة عالمية فاعلة في المنطقة لا يمكن الخروج عن التوازنات والمعادلات التي أشرفت على تشييدها في الشرق الأوسط وشرق المتوسط وإيجه والبحر الأسود؟
كان السؤال دائما يتعلق بمعرفة موعد المواجهة الأميركية الإيرانية في سوريا، لكن يبدو أن مواجهة أميركية تركية في شمال شرقي سوريا هي الأقرب. الشراكة التركية الأميركية تشهد أصعب أيامها في هذه الآونة. الانفجار في مسار العلاقات بسبب الملف السوري كان دائما بين التوقعات لكن لحظة حدوث ذلك لم تكن جلية. التقارب التركي الروسي ورفض أنقرة الإصغاء لما تقوله واشنطن في سوريا يسرع الأمور ويحمل معه سيناريو بحث واشنطن عن خيارات بديلة تحمي مصالحها في سوريا فمع من وكيف ستفعل ذلك؟
هنا يبرز السؤال الآخر هو حول احتمال التنسيق الأميركي الإيراني في إطار صفقة سياسية إقليمية متعددة الجوانب لسد العجز المحتمل في سياستهما السورية نتيجة “التمرد” التركي بدعم روسي على الحليف الاستراتيجي فهل يحدث ذلك؟
رددت طهران ولسنوات أن تركيا هي من يدعم مجموعات داعش في سوريا. تقارب المواقف الإيرانية والأميركية هنا لافتة طبعا. التصعيد الإيراني هذا لا يمكن أن يكون سوى حلقة من خطة التقارب بين طهران وواشنطن، وخطوة تساعدهما على الانفتاح ما دامت لغتهما وأدواتهما بدأت تتوحد في الأشهر الأخيرة.
ترفض أميركا فتح الطريق أمام العملية العسكرية التركية. وترفض مساعدة أنقرة على إقامة المنطقة الآمنة لأنها تتعارض مع كل حساباتها ومصالحها في سوريا. فهل تواصل رفضها لما تريده تركيا وهي لا تملك الكثير من الخيارات هناك سوى البديل الإيراني التي كانت واشنطن تقول إنه بين أسباب تمسكها بالبقاء عسكريا في شرق الفرات وتنتقد أنقرة بسبب رفضها إعلان القطيعة الكاملة مع طهران في الملف السوري؟
قناعة تركية جديدة تعتبر أن التوتر التركي الإيراني في سوريا والعراق كان لا بد منه نتيجة التقارب والانفتاح التركي العربي والإسرائيلي الجديد. خصوصاً وأن حلفاء تركيا في الغرب تركوها وحيدة في مواجهة أزمة شمالي سوريا وموضوع اللجوء. هدف الحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا هو اليوم القاسم المشترك الذي يوحد الكثيرين في المنطقة. فهل الرد سيكون عبر التنسيق الأميركي الإيراني لحماية مصالحهما “المشتركة” في سوريا؟
دخلت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا على الخط في آخر لحظة لتقول إن موسكو تتفهم مخاوف تركيا من تهديدات أمنها القومي في المناطق الحدودية. لكنها لم تتردد في دعوة أنقرة للامتناع عن الأعمال التي قد تؤدي إلى تدهور خطير في الأوضاع السورية. “تلقينا تقارير مثيرة للمخاوف عن مثل هذه العملية العسكرية.. ضمان الأمن على الحدود السورية التركية لا يمكن أن يتم إلا بنشر قوات الأمن السورية النظامية”.
ذكرتنا موسكو فجأة بزمن “زاروب كنيعو” في بيروت ولعبة “السبع حجار” هناك، حيث كنا نصف الأحجار ونسقطها لساعات دون ملل. مرة أخرى تخلط موسكو.. الأحجار في سوريا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا