قد يعتقد المتابع لنقاشات المقيمين في شمال سوريا في هذه الفترة، أنهم باتوا في حالة من الترف السياسي، تجعل أحاديثهم اليومية المعتادة تختلط بأخبار الملفات الدولية الشائكة. تتناول أحاديثهم اليوم وكتاباتهم على وسائل التواصل، الغزو الروسي لأوكرانيا، أو آخر المستجدات بخصوص انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو، وخارطة الانتخابات التركية بعد نحو عام. ولكن، هل هذا من عوارض الترف السياسي حقاً، لأناس بالكاد يلاحقون قوت يومهم؟ أم هي تجاربهم خلال أحد عشر عاماً، جعلتهم يدركون تشابك المصالح الدولية، ويدركون أكثر، أنّ قضيتهم باتت ورقةً تفاوضية على طاولة معظم الصراعات الإقليمية والدولية.
في الثالث والعشرين من أيار/مايو 2022، خلال مؤتمر صحفي، أعلن الرئيس التركي أن بلاده ستشرع قريبا باستكمال “إنشاء مناطق آمنة بعمق 30 كيلومترا، على طول حدودنا الجنوبية مع سوريا”. قبل أن ينتهي مؤتمر الرئيس التركي، تحولت حتى الجلسات العائلية للسوريين الشماليين شرقاً وغرباً، إلى ما يشبه استديوهات التحليل السياسي التي نشاهدها على الفضائيات لحظة الأزمات، واستمرّوا على هذي الحال حتى اليوم، متأثرين بما يرشح عن وكالات الأنباء العالمية، كل ساعة تقريباً، رغم ما تم تداوله أخيراً عن احتمال تأجيل العملية. بل باتت بعض شائعات مواقع التواصل الاجتماعيّ، تتمتع بدرجة من اليقين القطعي، لدى كثيرين! خلال تلك الجلسات، تُطرح أسئلة كثيرة، لا يخلو بعضها من منطقٍ مُحكَم، أقلُّهُ من وجهة نظرهم، التي تشّكلت عبر تراكم تجاربهم ومآسيهم.
لم يعد السوريون المعارضون لنظام الأسد، يطلقون مصطلح “الهزيمة” حين يخسرون إحدى مناطقهم، لصالح قوات الأسد وميليشياته، بل أصبحوا أكثر اقتناعاً باستعمال تعبير “التسليم”. يدعم زعمهم هذا، التزامنات المريبة، بين انحساراتهم في عمق البلاد، مقابل تمدد فصائلهم في المناطق الحدودية الشمالية.
فعدا اتفاقية المدن الأربعة الشهيرة، وما جرّته على السوريين من تهجير، يتذكر السوريون: سقطت حلب بيد النظام في شهر آب/أغسطس 2016، وبعد شهر واحد فقط، أي في أيلول/سبتمبر من العام ذاته 2016، بدأت عملية درع الفرات، التي سيطرت خلالها فصائل المعارضة المدعومة تركياً، على جرابلس واعزاز. ينقطع شريطُ الذكريات السوريّ، بفعل خبرٍ جديد، مصدره صحيفة “يني شفق” التركية.
يقول تحليل الصحيفة: “من بين الأهداف المحتملة للقوات التركية، والجيش الوطني السوري، تل رفعت وعين العرب وعين عيسى ومنبج، وتعتبر تل رفعت الهدف الأهم للعملية”. نصُّ الخبر ومصداقية المصدر، بدّدا المخاوف قليلاً، فانحرف النقاش. تلّ رفعت مجرد بلدة صغيرة، وحتى مع بقية مثيلاتها، فإنها كما يعتقد البعض، لا يمكن أن تكون بديلاً للمناطق الواسعة، التي يخشون تسليمها لقوات نظام الأسد، وسبب اطمئنانهم هو موقف تركيا القوي دولياً، في هذه الفترة، بحكم أنّ الولايات المتحدة الأميركية، ترغبُ في توسيع الناتو من خلال قبول طلب كل من فنلندا والسويد بالانضمام للحلف، والقوانين الناظمة لآلية الانضمام للناتو، تعطي تركيا حق الفيتو.
لوّحت تركيا فعلاً بهذا الفيتو، على لسان الرئيس التركي أردوغان حين تحدّث عن احترام الحساسيات التركية. في المؤتمر ذاته تطرّق أيضاً لموضوع قوات حماية الشعب، واستمرار تقديم الدعم العسكري لها، من قبل أصدقاء تركيا، مؤكداً أنّ تلك الأسلحة “ستوجهُ لصدور أبنائنا”.
يعود السوريون للنقاش، مع ترتيب جديد للأولويات. إذاً فالضوء الأخضرُ للعملية العسكرية التركية المزمعة إن حدثت، سيكون مقابل قبول تركيا بانضمام فنلندا والسويد للناتو. يزيلُ هذا الاستنتاج، مؤقتاً، مخاوف تهجير جديد لدى القاطنين جنوب وغرب طريق M4، وهي مناطق أريحا وجبل الأربعين وجسر الشغور وما تبقى تحت سيطرة فصائل المعارضة من قرى جبل الزاوية.
تصريحٌ مختلف لكاتب تركي من أصول فلسطينية، أعاد الهلع إلى تحليلات السوريين! إنه مجرد تصريح لكاتب، هل يعقل هذا؟ نعم، إنها مآلات حياتهم بالنهاية. يقول سعيد الحاج لموقع BBC: “إنّ الرفض التركي لضم السويد وفنلندا لحلف الناتو، ليس نهائياً، بل هو مشروط بالتعاون في ملف تسليم المطلوبين، من جماعة فتح الله غولن. كما تطلب تركيا من حلفائها في الناتو، أن يقوموا برفع كل العقوبات التي تم فرضها عليها”.
يعود السوريون للنقاش. إذاً فالإحجام التركيّ عن الفيتو، سيكون مقابل بضاعة خارج سوريا، وهذا يعني أنّ الضّوء الأخضر للعملية التركية، له مقابل آخر. من جديد يدورُ شريطُ الذكريات الممهور بلعنة التزامنات. بتاريخ 20 من كانون الثاني/يناير 2018 تمّ (تسليمُ) 380 قرية وبلدة شرق سكة الحجاز من ضمنها مطار “أبو ظهور” العسكري، لقوات نظام الأسد وحلفائه.
يا للمصادفة اللعينة. في اليوم التالي من انتهاء العمليات العسكرية شرق السكة، أي بتاريخ 21 من كانون الثاني/يناير 2018، بدأت عملية غصن الزيتون، التي انتهت بدخول القوات التركية وقوات الفصائل السورية لمنطقة عفرين، التي تتألّفُ من 366 قرية وبلدة. مرةً أخرى يجد السوريون المعارضون ما يدعم نظريتهم بوقوع التسليم، وهل من مسمى آخر لخسارة 380 قرية وبلدة ومطاراً عسكريّاً خلال مدة قصيرة جداً.
يومها قيل، إنّ سقوط البلدات بيد قوات الأسد، لم يؤخّرهُ إلا فترات الاستراحة، التي كانت تأخذها تلك القوات، إضافة لصمود بضع عشراتٍ من المقاتلين المعارضين المستقلين، الذين رفضوا القبول بمقررات اتفاق “أستانا”. لكن، كم بقي اليوم من هؤلاء الرافضين؟ وهل سيتمكنون من منع حدوث الكارثة؟
الأمرُ اليوم ليس محصوراً بمناطق جنوب وغرب طريق M4. فسيطرة قوات الأسد على قمة جبل الأربعين، تعني أن مدينة إدلب وما حولها، ستصبح في مرمى نيران تلك القوات. قمة الأربعين ترتفع 900 متر عن سطح البحر، ولا تبعدُ عن مركز مدينة إدلب سوى 15 كم. حتى طريق إدلب سرمدا لن يبقى آمناً، وهو شريان حياة لمناطق شمال غرب سوريا.
هل يمكن اليوم الرهان على مقاتلين مستقلّين يقلبون الطاولة؟ لا أعتقد أن ذلك ممكناً، حتى لو وُجِدوا. حاول بعضهم منع حدوث التسليم الأقرب عهداً؟ نعم حاولوا، لكنهم لحقوا بمن سبقهم من الرافضين، وارتقوا جميعاً نحو سماءٍ بلا بازارات، ومنهم بطل السوريين الأكثر شعبية عبد الباسط الساروت، الذي قرر أن ينضم لتلك الدفعة من شباب سوريا، ممن فشلت محاولتهم التي خُتِمت بدم أحمد الحصري الذي قاوم وحيداً في “معرّة النعمان” قبل أن يستشهد. هل تذكرون الحصري؟ كان آخر المترجّلين من فرسان تلك الدفعة.
دماء هؤلاء لم تلغِ نظرية التسليم، المشفوعة مجدداً بلعنة التزامنات. دخلت قوات الأسد مدينة معرة النعمان نهاية أيلول/سبتمبر 2019، وبعد شهر واحد في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بدأت عملية نبع السلام التي سيطرت بنهايتها القوات التركية وقوات (الجيش الوطني)، على المنطقة الحدودية بشريط يمتد شمال ثلاث محافظات سورية. قيل يومها إنّ معرة النعمان وسراقب، مقابل رأس العين وتل أبيض.
يقول صديق من المقيمين في جبل الزاوية: الناس تفاءلت قليلاً بعد تصريح “دارين خليفة”. أقاطعهُ: ومن تكون دارين تلك؟ يجيب: محللة معنية بشؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية! ولم نكمل الحديث. هكذا تتبدل هواجس السوريين في الشمال بين ساعة وأخرى، وهم يتنقلون برعبٍ بين محطات الإعلام، سائلين ربَّهم ألا تتشابك قضيتهم، مع ما يصلهم من أنباء، تَشي بزحف صيني محتمل نحو تايوان، ورحى حربٍ هندية باكستانية، قد تدورُ فوق كشمير، فلم يعد لديهم أراضٍ ولا دماء تكفي لكلّ تلك التجارة.
التاريخ القريب يقول إن كل الاحتمالات مفتوحة، وإن خطوط الخرائط قابلة للانزلاق. فما دام السوريون هم كبش الذبح، والثمن لن يكون سوى دم سوري، فلا بأس من تحريك خطوط السيطرة والجغرافيا. عودٌ على بدء، ليس من باب الترف، ولكنْ خوف من هجرةٍ أخرى، يتابع المنتظرون العودة إلى بيوتهم التي هجِّروا منها، الأخبار والتصريحات والتحليلات ساعة بساعة، علّهم يعثرون على ما يفيد بأنهم لن يضطروا لهجرة أخرى. وكأنّهم، انضموا إلى إخوتهم الفلسطينيين، وهم يصغون لأسئلة محمود درويش المريرة: “كم مرّة ستسافرونْ؟ وإلى متى ستسافرونْ؟ وإذا رجعتم ذات يوم، فلأيّ منفى ترجعون؟”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا