معتقلو الثورة السورية: الجرح النازف

د. م. محمد مروان الخطيب

منذ بداية الثورة السورية بمظاهراتها السلمية، كانت عمليات الاعتقال التي تطال المشاركين فيها تؤرق الثوار لما كانت تسببه من تعطيل لإمكانياتهم البشرية إضافة للكشف الأمني الذي كانت تسببه بعض التحقيقات التي كانت تحاول الوصول إلى منظمي الحراك الثوري، وقد عمدت عصابات الأسد مع تصاعد موجات الحراك الثوري إلى تصعيد آليات مجابهتها له بإطالة أمد الاعتقال وزيادة قيمة الكفالة المالية لإطلاق سراح المعتقلين، إلى أن وصلت إلى مرحلة التصفية الجسدية لهم ضمن المعتقلات.

وإن كانت الاعتقالات الجماعية هي ما ميز نظام الطغمة الأسدية حيث شهدت أواخر سبعينيات القرن الماضي بدايةً لحالةٍ جديدة من الاعتقال في سورية بشكل عام، أعني الاعتقال الجماعي الذي طال عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين، والتي طالت كافة أطياف القوى المعارضة آنذاك، وخاصة بعد انتفاضة النقابات المهنية اتجاه الطغمة الحاكمة، ولم تشهد السجون السورية حالة إخلاء جماعي للمعتقلين حتى أواخر عام 1991 حيث تم الإفراج عن (2800 معتقلاً) كان معظمهم من الإسلاميين، وربما المئات من التيارات الأخرى، علماً أن عدد المعتقلين في السجون السورية آنذاك بلغ عشرات الآلاف.

وإن كان عدد الذين اعتقلتهم الأجهزة الأمنية للطغمة الأسدية منذ عام 2011 غير واضح. مع أن بعض المنظمات الحقوقية تقدرهم بحوالي 200,000 شخص. ويعود ذلك بشكل أساسي لعدم إصدار أي مذكرة توقيف بحقهم وعدم إبلاغ عائلاتهم، مما يجعل الأمر أقرب إلى المصطلح “الاختفاء القسري”. ويحصي تقرير “سيزر” أن 11,000 شخص لقوا حتفهم في مراكز الاحتجاز، إما جراء التعذيب أو نتيجة ظروف السجن الكارثية عمداً.

ومنذ بداية الثورة حتى تاريخه أصدرت الطغمة الأسدية 17 “مرسوم عفو” تميزت بالاستثناءات الواسعة جداً والمتشعبة بحيث تفرغه من فعاليته، وتجعل منه مرسوم عفو جزئي ولا ينطبق إلا على حالات خاصة هي التي يراد الإفراج عنها، في حين أن جميع النشطاء الحقوقيين والسياسيين والإعلاميين والمتظاهرين ممن طالب بمسيرة التغيير السياسي الديمقراطي، تلصق بهم اتهامات تصل إلى تهمة الإرهاب، ويحالون إلى “محكمة قضايا الإرهاب” التي تم إنشاءها عام 2012، التي تصدر أحكاماً بالاستناد إلى الضبوط التي تقدمها الأفرع الأمنية والتي تؤخذ من المعتقلين تحت الإكراه والتعذيب. وتمثل هذه المحكمة أوضح أشكال التعبير عن هذا النظام الفاسد والمتاجرة بالمعتقلين حيث يمنع المتهمين من حق الدفاع، ويحصي مركز توثيق الانتهاكات في سورية 70,000 قضية أُحيلت إلى هذه المحكمة حتى عام 2014. ناهيك عن أن بعض الأفرع الأمنية لا يستجيب قادتها حتى لمراسيم العفو الصادرة، ولهذا فحتى وإن شمل مرسوم العفو عدداً من المعتقلين فإن تنفيذ هذا المرسوم على أرض الواقع هو بيد رؤساء الأفرع الأمنية، التي لا تملك وزارة العدل سلطة للضغط عليهم.

ومن خلال متابعة نتاج “مراسيم العفو”، فإنه وإن توقفت الطغمة الأسدية حالياً عن الاعتقال التعسفي وبُدئ بالإفراج عن المعتقلين والتي هي بمعدل 230 حالة كل ستة أشهر، أي قرابة 400 حالة في السنة الواحدة، فإننا بحاجة إلى 325 عاماً للإفراج عن المغيبين حالياً في معتقلات هذه الطغمة.

ولعل أبرز مشكلة عانى منها المعتقلون من قبل الطغمة الأسدية، كان العبء الاقتصادي، فكل معتقل أو مختفي يترك خلفه أدواراً اقتصادية شاغرة. فبعضهم متزوج ولديهم أسر يعيلونها، كما أن معظمهم من الفئة العمرية الشابة والمنتجة، والكثيرون منهم حاصل على مؤهلات جامعية فأكثر، ممن استثمرت فيهم عائلاتهم لسنوات. ليضاف هنا عبء الحاجة لدفع أموال كثيرة لإنقاذه، ما أوصل حوالي نصف العائلات إلى حدود الفقر المدقع بعد أن لجأت إلى استهلاك المدخرات وبيع الممتلكات وإلى الاستدانة في حالات كثيرة. كل هذا جعل الاقتصاد السوري مع نهاية عام 2012 يعاني من خسارة ما لا يقل عن 1.5 مليون فرصة عمل، وأصبح الاقتصاد السوري شبه مدمر، وتطور ليصبح اقتصاد في زمن الحرب يتكون من الجريمة والتهريب وتجارة الأسلحة، مما يؤكد أن السماح بتفشي الفساد والابتزاز هو قرار استراتيجي اتخذته الطغمة الأسدية.

فمنذ اللحظة التي يتعرّض فيها الشخص إلى الاعتقال أو الإخفاء تدخل عائلته بشكل أو بآخر فلك تلك الدورة الاقتصادية، بالبحث عن تأمين المال اللازم لدفعه للمتنفذين ضمن منظومة العصابة الأسدية لمعرفة مصير أحبائهم ومكان احتجاز حريته، إذ لا يكاد التمييز بين حالات الاعتقال والإخفاء القسري يكون ممكناً خلال الفترة الأولى من الاحتجاز لأن معظم المحتجزين ينقطعون عن العالم الخارجي. وتُعتبر الحرية المطلقة في الحكم فيما يتعلق بالاعتقالات إحدى السبل التي يُمَكِّن للأجهزة الأمن إثراء أنفسهم بأنفسهم. وبهذه الطريقة، تؤمن الطغمة الأسدية الدعم لنشاطاتها في أوقات الانحطاط الاقتصادي. أما الذين يُتركون لمعاناتهم فهم آلاف السوريين المفقودين وعائلاتهم. ومن ناحية أخرى، فإن القضية هي قضية فساد حقيقي يُستَخدَم فيها المال كوسيلة للحصول على خدمة، ومن ناحية أخرى تُعتبر عملية نصب تامة حيث يُوعد الشخص بأداء الخدمة مقابل مبلغ من المال ولكن لا يتحقق الوعد. ومع أنه لا يوجد تقدير حقيقي عن حجم عمليات الاحتيال التي تتعرض إليه عائلات المختفين قسرياً. إلا أن بعض بيانات الاستقصاء حول الأشخاص أو الجهات التي يفترض أن تكون الأموال وصلت إليها أن المستفيد الأكبر هم ضباط الأمن ثم القضاة، ولاحقاً يأتي المسؤولون النافذون في القطاعات الأخرى.

وإن كان الفساد السائد في المنظومة الأسدية قام بتغذية ديناميكية الاعتقالات المتزايدة كبديل عن الدخل الاعتيادي. إلا أن العائلات هم الضحايا ولكن المنظومة الأسدية تسحبهم في دوامة الفساد من أجل بقائه من خلال هذه الاعتقالات، وهذا هو خبث سلطته. كما أن هنالك معضلة أخلاقية لا يمكن للمرء الانسحاب منها في ظروف أصبحت الوفاة في مراكز التحقيق والسجون حدثاً يومياً، مما يجعل قضية المغيبين قسرياً أكثر من مجرد ملف سياسي واقتصادي، فليس كل مغيب ميت، وإنما يوجد الآلاف من الأرواح بانتظار إنقاذها، فهل من ملبي لندائها؟

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى