قراءة في رواية : ملك اللصوص  لفائف ايونوس السوري

احمد العربي

تيسير خلف روائي سوري متميز، قرأت له رواية عصافير داروين وكتبت عنها. يكتب مستحضرا التاريخ، يعيد سرده مرة أخرى، يحيي ذلك التاريخ ويسقطه على الواقع المعاش، بطريقة لا تشوه التاريخ بل تنيره.

ملك اللصوص – لفائف أيونوس السوري – هي الرواية الأحدث، للروائي تيسير والصادرة عن دار المتوسط في ميلانو ايطاليا. وهي تتناول مرحلة مهمة في التاريخ السوري في الفترة من ١٥٠ ق م الى ١٠٠ق م. حيث ظهرت ثورة العبيد الأولى ، ثورة الحرية والعدالة، والتي استطاعت النجاح والحكم في حيزها الجغرافي في مدينة اينا ثم تتمدد إلى جزيرة صقلية كاملة لمدة ثلاث سنوات قبل أن يتم القضاء عليها من السلطات الحاكمة في روما.

تبدأ الرواية من عجوز في مدينة أفاميا لديه مخطوط يتحدث به اونوس عن حكايته منذ طفولته في أفاميا حتى عودته هاربا من اينا الرومانية بعدما اصبح ملكا هناك لسنوات عدة.

اونوس يعتمد في سرده لغة المتكلم حيث يتحدث عن نفسه وما عاشه على كل المستويات.

ولد اونوس في أفاميا السورية حوالي عام ١٥٠ق م. جاء يحمل ميزة غريبة حيث يختلف لون عينيه عن بعضهما. كانت أمه قد حملت به أثر علاقة مع احدهم استمرت لأشهر وتركها بعد ذلك. لذلك ولد اونوس لا يعرف له أبا. وأمه  أعطته لصديقة لها لتربيته، وهكذا أصبح له اثنتين من الأمهات. كبر اونوس غريب الأطوار  لفت نظر الكهّان بلون عينيه المتغاير وسلوكه الغريب احيانا، اقترحوا على امه ان تدخله المعبد ويتدرج في سلك الكهانة ويصبح كاهنا. كانت أفاميا وجوارها مدينة انطاكيا ومنبج السورية جزء من الدولة السورية، وكان لا بد من انتقاله الى منبج حيث المعبد هناك وليدخل في السلك الكهنوتي، كانت الآلهة متعددة والعبادات متنوعة، آله العدالة والحب والحرب… الخ.

كان الناس في أفاميا وجوارها منقسمين بين حكّام مستبدين وظلمة، لا يفكرون إلا بتحصيل الضرائب التي يفرضونها على الناس ويجبونها، ليعيش الحاكم ومن حوله من جيش وعسكر حياة بذخ، ويتركوا الناس ضحية استغلال التجار والاقطاعيين. كان الناس متكيفين مع واقعهم ذلك، و كانوا ضحية عصابات السطو واختطاف النساء والأطفال، ونقلهم الى المدن الرومانية وبيعهم في سوق النخاسة -العبيد- الذي كان رائجا ويدر المال على القائمين به، ويقدم أفواجا من العمالة التي تحتاجها روما في ذلك الوقت.

ذهب اونوس الى معبد منبج وهناك بدأ التدرج في تلقي تعليمه الكهنوتي في ذلك المعبد. كان لدى اونوس ميزة أخرى غير عينيه المتغايرين اللون، انه متنبئ بحيث تحدث عن كثير من الوقائع القادمة وحصلت. هذا اكسبه اهميّة اخرى.

اكتشف اونوس في المعبد تغاير العبادات وتعدد الالهة، وهو كان منذ صغره يميل لعبادة آلهة العدالة. كان لدى الكهان اعتقادات مختلفة، بعضهم يؤمن بضرورة التخلي عن الجنس ليتفرغ للعبادة، بحيث يقطع جهازه الذكري ويبقى بلا حاجة جنسية.

اكتشف اونوس في المعبد تحول الكهان الى طبقة من المستثمرين لموقعهم الديني عند العامة بحيث تحولت الطقوس والعبادات وسيلة ارتزاق على حساب الناس المؤمنين بهم، لقد انتشر بينهم الفساد المالي والأخلاقي. حيث استعاض الكثير منهم عن المتع الجنسية الطبيعية الى الانتقال الى اللواطة ووصل بهم الأمر لعبادة العضو الذكري للرجل.

كل ذلك لم يرق لاونوس ودفعه للتفكير بمغادرة المعبد وعدم متابعة سلك الكهنوت بعدما تكشفت له عيوبه. و وقع ضحية اعتداء جنسي من رئيس كهنة عبادة العضو الذكري وبعض الكهنة بعدما رفض طلبهم ذلك طوعا، قبل السماح له بالمغادرة. وغادر معبد مدينة منبج وعاد الى افاميا حيث والدته ليتابع حياته هناك.

في أفاميا تابع حياته متنقلا بين السهول والجبال، وهناك رأى فتاة صهباء ترعى قطيعا من الماعز، شاهدها أكثر من مرة، وقع في حبها، حاول الاقتراب منها ومن قطيعها، تفاجأت به لكنه لم تعطه اهتماما.

لكن متغيرا يحصل في حياة اونوس وفتاته الراعية نقلت حياته الى مسار جديد بعيد عن أفاميا وانطاكيا وجوارها. لقد انتشرت عصابات الاختطاف لكل من تصل يدهم إليه، حيث لا دولة تحمي الناس في مملكة سوريا ذلك

الوقت، السلطة في فسادها والجيش والتجار والإقطاع منغمسون في مصالحهم والشعب ضحية الفقر والفساد وتسلط الخاطفين. اختطفت بداية الراعية، التي لم يتعرف عليها أحد، هل هي من بنات أفكار اونوس المتنبئ أم هي حقيقية. ولم يمض وقت حتى تم خطف اونوس ذاته، حينما تم محاصرته من الخاطفين عندما كان في تجوله حول البلدة كما هي عادته.

لقد تم اخذه مع غيره من السوريين المختطفين ليتم شحنهم في سفن إلى مدن رومانية، كي يباعوا كعبيد. تم نقلهم الى مدينة اينا حيث تم عرضهم على تجار عبيد هناك، كان العبيد السوريين مرغوبين وباهظي الثمن، فهم متعلمون وماهرون ويتقنون اعمالهم. كان العبيد يستخدمون في الخدمة المنزلية أو في المزارع. اشترى تاجر موسر اونوس بعد أن عرف موهبته بالتنبؤ، وجعله بجواره في منزله، واستفاد من نبوءاته في إنقاذ بعد صفقاته التجارية أو ابرامها او ابطالها. ومع ذلك لم يكن ليعطيه مالكه حقه الإنساني من الاحترام والتقدير على مواهبه وما يقدمه له من خدمات، بل زاد على ذلك أن جعله اشبه ببهلوان يحضره في سهراته الماجنة الكثيرة مع تجار المدينة الاخرين.

عاش اونوس حياة غير قاسية على مستواه الشخصي، لكنه كان يطّلع على واقع حياة العبيد في المدينة، فهم كثيرو العدد يتجاوزون عدد سكانها، وهم مستباحون انسانيا بالكامل عند مالكيهم، البيع والقتل والتعذيب .. لذلك كان كثيرا ما يسترجع اونوس في عقله ربة العدالة وتحضر كرؤيا ثم بدأت تحضر كمواجهة مباشرة، تبشره بدور انقاذي له وللعبيد الآخرين من عبوديتهم على يده.

كان اونوس قد التقى فتاتة الصهباء هناك بعد فترة وتزوجها، ستكون معه في كل أعماله القادمة أكبر معين وداعم ومحب، كما وطد علاقته مع ثلاثة عبيد سوريين آخرين التقى بهم منذ بداية استعباده، هم أصبحوا من عبيد الحقول، كانوا يلتقون في بعض الأحيان، ويشتكون من ظلمهم. وكان يخبرهم بما يتنبئه به ربة العدالة، وأنه تدعوه لكي يواجه مع العبيد الآخرين الظلم و ينتفضوا ويصنعون مملكتهم العادلة المنصفة للعبيد. كانوا يفكرون كيف يمكن أن يحصل ذلك فأي خبر يصل إلى أي مالك لاي عبد قد يجعله ضحية ويقتله، كان الخوف مهيمنا. لكن إصرار اونوس وأصحابه وتواصلهم الدؤوب مع غيرهم من العبيد جعلهم يتزايدون ويتجهزون بأدواتهم الزراعية لينقضوا على مالكيهم، وعلى الجيش والعسكر الذين يحمونهم.

جاءت لحظة الثورة وكانت سريعة وخاطفة وناجحة. فاجأت المالكين والدولة الرومانية، حرروا اينا وجعلوها مملكة لهم وجعلوا اونوس ملكا عليهم وبدأوا بإنشاء دولتهم، دولة العبيد المحررين.

عند الوصول إلى السلطة بدأت تحصل المشاكل التي لم يكن يفكر بها هؤلاء العبيد المحررين، ولا يعرف كيف يعالجها اونوس وأصحابه. فقد انتقل العبيد الى التنكيل الانتقامي من مالكيهم وعائلاتهم بحيث صنعوا مذابح تذكر بسوء مالكيهم. كما اعتمدوا على النهب والسلب وتحولوا من العمل الى التبطل. واهملوا المزارع والانتاج الزراعي بحيث ضاع المحصول في تلك الأعوام، أعوام الثورة، وبدل أن يتوحد اونوس واصدقائه في مواجهة مسؤولية الحكم، فقد اختلفوا حول أولوية الإصلاح في واقع العبيد الثائرين وضبط حركتهم وتصرفاتهم ومحاسبة المخطئين منهم. ام الاهتمام بتقوية الدولة الوليدة، والاستعداد للمعارك القادمة مع الدولة الرومانية التي بدأت ترسل الجيوش عبر اكثر من اربع سنوات لتنهي ثورة العبيد وتستعيد البلاد التي أصبحت تحت سيطرة العبيد ودولتهم التي تمددت لتصل إلى جزيرة صقلية كاملة.

لم يستطع اونوس أن يوحّد بين اصدقائه قادة الثورة معه، فأدّى تفرقهم وصراعهم لضعف في الدولة الوليدة، كذلك ضياع المواسم الزراعية، وتبطل العبيد المحررين وتحولهم الى مرتزقة يعيشون على النهب. إضافة الى الحروب الدائمة في مواجهة حملات روما لإسقاط دولة العبيد الوليدة. خاصة بعد أن استشعرت روما خطر ثورة العبيد في أينا وانتقالها الى روما.

كل ذلك سيؤدي بعد ذلك الى ثورة عبيد مماثلة في روما سيتم سحقها بكل قسوة حيث سيتم قتل عشرات الآلاف وصلبهم والتمثيل بجثثهم هناك.

استمرت دولة العبيد الأحرار في أينا، التي جاءت سابقة لزمانها وصمدت في مكانها لسنوات اربع ويزيد ، وسرعان ما سقطت، من الجوع والفقر والحصار والظلم الذي قام به بعض العبيد المحررين بحق الشعب في البلاد التي أصبحت تحت سيطرتهم. بحيث جعلت الناس ينفضون عنهم ويساعدون روما للعودة الى حكمهم، فهم بحاجة للقمة العيش حتى لو كانوا مظلومين وعبيد.

ينكسر حلم اونوس ودولته بعد مضي سنوات ويغادر أينا هاربا وعائدا الى أفاميا ليقضي بقية حياته، يبكي حلم الحرية الذي تحقق كبارق امل وغاب بشكل فاجعي بعد ذلك.

في التعقيب على الرواية نقول:

للرواية مستويات في تدوينها فهناك النص وما وراء النص.

النص الممتع الواضح السلس الجاذب، والذي يعيد إحياء فترة من تاريخ سوريا وروما ما قبل الميلاد بقرن ونصف تقريبا. يعيد ثورة الحرية الكرامة لمجتمع العبيد، بالمعنى الحرفي، ليتأمل باقتدار تلك التجربة الرائدة في التاريخ، المنتصرة لانسانية الانسان لتحقيق الحرية والعدالة واسترداد الكرامة الإنسانية وتحقيق الحياة الأفضل. صحيح انها لم تنجح وسقطت باخطائها وتكالب قوى الشر – روما وقتها-  عليها، لكن يكفيها شرفا انها فتحت الباب أمام البشرية للعمل الى الانتقال من العيش في مجتمع الغاب، حيث الظلم والاقوى، إلى مجتمع الانسان حيث الحرية والعدالة والكرامة .

أما ما وراء السطور فهو استحضار ثورة الكرامة والحرية والعدالة السورية التي تفجّرت ربيع عام ٢٠١١م. ثورة ضد العبودية بالمعنى المجازي ضد المظالم والفساد والاستبداد والقهر والاستغلال، ثورة حرية وكرامة وعدالة، تحمل مشروعيتها الكاملة في استرداد حقوق كل الشعب السوري المغتصبة من النظام الظالم الذي استعبد الشعب السوري لعقود طويلة. وان هذه الثورة رغم مشروعيتها فقد سقطت ضحية غياب النضج السياسي والادارة الناجحة للثورة، المصلحية والولاءات للمانحين والتدخلات الخارجية، الداعمة للنظام، هذا غير وحشية النظام الذي يقتل الشعب ويدمر سوريا. و الدول المتقاسمة سوريا فيما بينها كغنيمة حرب. سوريا التي قدمت مئات الآلاف من الضحايا، والملايين مشردين داخل سوريا وخارجها. والعالم ينظر لعاره الذي يسكت عنه في سوريا الناهضة لحريتها مرة اخرى…

ما أقرب البارحة الى اليوم…مازلنا نتوق لثورة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية التي تعيد الانتصار لانسانيتنا كل الوقت رغم كل التجارب المؤلمة السابقة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى