مقدمة الترجمة:
لطالما فزع العالم من أخبار الاختبارات النووية التي تُجريها كوريا الشمالية، ليس فقط لكونها “نووية”، بل لأنها عادة ما تفتقر إلى الشفافية التي تجعل العالم، قادة ومواطنين على حدٍّ سواء، يعرفون طبيعة الأنشطة النووية الكورية. ذلك القلق ليس بجديد، فهذا التقليد الكوري الشمالي بإفزاع العالم بأخبار ترسانة البلاد النووية ورفضها المساس ببرنامجها النووي مستمر منذ التسعينيات. حول هذا الموضوع، أعدَّت الكاتبة “سو مي تيرِّي” تحليلا، نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، سلَّطت فيه الضوء على تاريخ عائلة كيم مع تطوير برنامج البلاد النووي، والسبل المتاحة حاليا لنزع تلك الأسلحة أو التوصل إلى اتفاق يحد من انتشارها.
نص الترجمة:
على الرغم من فقر كوريا الشمالية وعزلتها، فقد سعت بلا كلل وراء الأسلحة النووية. ويعود طموحها النووي إلى خمسينيات القرن الماضي، حينما ألمَّ العلماء الكوريون الشماليون للمرة الأولى بالخبرات النووية الأساسية، بمساعدة سوفيتية. وعلى مدار العقود التالية، استمر النظام في تكديس التكنولوجيا النووية الحساسة، حتى بنى مفاعله النووي الأول بمدينة “يونغبيون” في الثمانينيات. وقد وقَّعت كوريا الشمالية معاهدة “الحد من انتشار الأسلحة النووية” عام 1985، بيد أنها فعلت ذلك تحت الضغط السوفيتي، وبعد ذلك بفترة وجيزة، شرعت كوريا سِرًّا في إعادة معالجة الوقود النووي المُستَهلَك لاستخلاص عنصر البلوتونيوم واستخدامه في الأسلحة النووية. وسرعان ما تُوِّجت سنوات من الدأب في البحث والتخصيب بالتجربة النووية الأولى للبلاد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006، وهي تجربة تبعتها بخمس أخرى بعدئذ.
على مدار 15 عاما أعقبت التجربة النووية الأولى لكوريا الشمالية، كدَّست البلاد ما يصل إلى 60 رأسا نوويا، مع ما يكفي من المواد الانشطارية لبناء ست قنابل أخرى على الأقل سنويا. وعلى الأغلب فإن هذه الأسلحة الآن تستطيع الوصول إلى الأراضي القارية للولايات المتحدة الأميركية، ولدى كوريا الشمالية بالفعل صواريخ طويلة المدى قادرة على ضرب الساحل الشرقي الأميركي.
من المستحيل التأكُّد مما إذا كانت كوريا الشمالية مُلِمَّة بكيفية تثبيت الرأس النووي على مقدمة هذه الصواريخ، بيد أن الدلائل المتاحة تُرجِّح إلمامها بالأمر. وعلى الأرجح فإن البلاد تسير في طريقها نحو الخطوة التالية: تثبيت العديد من الرؤوس الحربية على صاروخ واحد، مما يسمح لها بإحباط دفاعات الولايات المتحدة الصاروخية. إن ما عُدَّ بالأمس محض افتراض -ضربة نووية من كوريا الشمالية ضد الأراضي الأميركية- ما انفك يتحوَّل إلى إمكانية واقعية. ومع ذلك، فما زال من غير المتوقَّع أن تشن كوريا الشمالية هجوما نوويا على الولايات المتحدة، مع علمها بأنها ستواجه خطر الردِّ المُدمِّر، فهي تتمسَّك بقنابلها النووية من أجل استمرار النظام الحاكِم فيها ليس إلا.
قليلة هي الدول التي أقدمت طوعاً على إنهاء برامجها النووية أو التخلي عن أسلحتها النووية، وغالبا ما تطلَّب ذلك شكلاً أو آخر من أشكال تغيير النظام السياسي فيها. وكوريا الشمالية ليست استثناء في هذا الصدد، إذ إن أسلحة بيونغ يانغ النووية بالنسبة لها ثروة عسكرية ووثيقة تأمين ومصدر أساسي لهيبة الدولة في آنٍ واحد. ولا ترغب عائلة “كيم”، التي حكمت البلاد دون انقطاع منذ عام 1948، السير على خُطى صدام حسين أو معمر القذافي، وهما اثنان من الطغاة الذين لم يلبثوا أن تخلوا عن برامج بلادهم لأسلحة الدمار الشامل حتى أُطيح بهم وقُتلوا. لقد بات القادة في بيونغ يانغ مقتنعين بأنه ما من أحد، ولا حتى قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، يجرؤ على مهاجمة دولة مُدجَّجة بأقوى سلاح ممكن، أو حتى عرقلة مصالحها بشكل جدِّي.
خطة الحرب المستحيلة عام 1994
لربما كانت أحداث عام 1994 هي أفضل فرصة حظيت بها الولايات المتحدة على الإطلاق لمحو تقدُّم كوريا الشمالية النووي نهائيا. فقد كانت جهود بيونغ يانغ للتخصيب آنذاك تسير على نحو جيد، وكان النظام يتجهَّز لإزالة قضبان الوقود النووي من مفاعله للأبحاث في مدينة “يونغبيون”، وبحسب توقعات الخبراء، حوت تلك القضبان داخلها من البلوتونيوم المُخصَّص لصناعة الأسلحة ما يكفي لإنتاج ست قنابل نووية. ورغم الضغوط الشديدة، رفضت بيونغ يانغ منح المفتشين الدوليين صلاحية دخول الموقع.
رصدت واشنطن الخطر وفكَّرت بجدية في عمل عسكري، وانطوت واحدة من الخُطَط التي وصلت إلى مكتب الرئيس “بيل كلينتون” على شنِّ طائرات الشبح المقاتلة من طراز “إف-117” هجمة مُوجَّهة على بيونغ يانغ، تُدفَن على إثرها قضبان الوقود تحت الأنقاض، ومن ثمَّ تُمنَع كوريا الشمالية من تحويل موادها الانشطارية إلى أسلحة. لكن بينما أخذ كلينتون يوازن بين خياراته، سافر الرئيس الأميركي الأسبق “جيمي كارتر” إلى بيونغ يانغ، وتفاوض بمبادرة شخصية منه على اتفاق يتضمَّن تجميد كوريا الشمالية برنامجها للأسلحة النووية مقابل الحصول على النفط والدعم في قطاعها النووي المدني. وصادق كلينتون على الاتفاق ووقَّعه مع الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ إل”، وبموجب هذا “الإطار المُتفَق عليه” -كما عُرِف- تعهَّدت كوريا الشمالية بإيقاف مفاعلاتها المنتجة للبلوتونيوم في مدينة “يونغبيون”، وفي المقابل، تعهَّد تحالف تقوده أميركا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط الثقيل بكميات تكفي عشر سنوات، وببناء مفاعلين نووين للماء الخفيف في كوريا الشمالية (نوع من المفاعلات النووية الحرارية يستخدم الماء العادي لتهدئة وتبريد النيوترونات). بدا إذن أن حربا مُحتمَلة قد وُئدَت في مهدها.
بمعرفة ما حوته صفحات التاريخ فيما بعد، يتساءل المرء ما إن كان كلينتون قد أصاب في امتناعه عن شنِّ هجوم عسكري حينما واتته الفرصة. بيد أن تساؤلا كهذا مشوَّش ومليء بتخيُّل وقائع بديلة غير موثوقة بالضرورة. فقد كان من شأن ضربة واحدة، أو حتى سلسلة من الضربات، أن تتسبَّب في إبطاء وتيرة التقدُّم النووي لبيونغ يانغ فحسب، وليس عكس مسار برنامجها النووي. أما اندلاع حرب شاملة فكان يعني هزيمة شبه مؤكدة لكوريا الشمالية، مع تغيير نظامها السياسي بعدئذ في الأغلب، ثمَّ نهاية أكيدة لبرنامجها النووي. بيد أن التكلفة في هذه الحالة كانت لتكون تعجيزية، فمدفعيات بيونغ يانغ عُدَّت حينئذ قوة هائلة، رغم أنها لم تُقارن بنظيرتَيْها الأميركية والكورية الجنوبية، وكانت عمليات القصف الكورية الشمالية لتؤدي إلى وقوع ضحايا قُدِّرت أعدادهم بنحو 25 ألف شخص في مدينة “سيول” وحدها، في حين كان مجموع أعداد الوفيات بحسب بعض التقديرات ليصل إلى مليون شخص.
على الرغم من تجميد بيونغ يانغ قدراتها في إنتاج البلوتونيوم في أعقاب اتفاق عام 1994، فإنها استمرت سِرًّا في العمل مع “عبد القدير خان”، مؤسس البرنامج النووي الباكستاني، من أجل غاية بديلة هي تخصيب اليورانيوم. وحينما واجه مبعوث الولايات المتحدة المسؤولين الكوريين الشماليين بتلاعبهم في أكتوبر/تشرين الأول 2002، لم يُبدوا ندمهم على
مبادرات السلام تفشل أيضا
في نظر المدافعين عن “الإطار المُتفَق عليه”، يقع اللوم جزئيا في فشل الاتفاق على الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. ففي مطلع عام 2002، ضمَّ بوش كوريا الشمالية مع إيران والعراق إلى ما أطلق عليه “محور الشر”، ويُقال إن هذا الخطاب العدائي، الذي جاء في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان، أفزع بيونغ يانغ وأسهم في قرارها بالانسحاب من الاتفاق. وقد كان بناء مفاعلات الماء الخفيف متأخِّرا عن موعده المُقرَّر آنذاك، كما أن الولايات المتحدة لم تُقدِم إطلاقا على التطبيع الكامل لعلاقاتها مع كوريا الشمالية، على عكس ما نصَّ عليه الاتفاق المذكور. لكن ما الذي كان من المفترض أن تفعله الإدارة حالما وصل إليها دليل تلاعب كوريا الشمالية؟ إن تقديم المزيد من التنازلات لإقناع النظام بالعودة إلى التزاماته كان من شأنه ببساطة مكافأة بيونغ يانغ على تجاوزاتها وتحفيزها للمزيد من التلاعب مستقبلا. في الحقيقة، كان فشل الاتفاق من تدبير كوريا الشمالية نفسها.
لنتصوَّر كم كانت النتائج ستكون هزيلة في حال تمَّ المزيد من التجاوب عام 2002، فلننظر إلى الجهود المُنفصِلة التي بذلتها كوريا الجنوبية لاستمالة جارتها. تحت مظلة سياسة سُمِّيَت “سياسة شروق الشمس”، منحت حكومة كوريا الجنوبية جارتها الشمالية مساعدات اقتصادية قيمتها 8 مليارات دولار بين عامَيْ 1998-2008، على أمل تحسين العلاقات الثنائية، حتى إن رئيس كوريا الجنوبية “كيم داي-جونغ” فاز بجائزة نوبل للسلام على اجتماعه التاريخي مع “كيم جونغ إل”. وما كُشِف عنه لاحقا هو أن هذه القمة عُقِدَت بالأساس بعد دفع مبلغ 500 مليون دولار نقدا للديكتاتور المعزول دوليا. ولم تُسهِم كل هذه الحوافز إلا قليلا في تحويل مسار كوريا الشمالية، بل على العكس، فبعد انسحاب كوريا الشمالية من “الإطار المُتفَق عليه” عام 2002، سرعان ما سرَّعت من وتيرة برنامجها النووي.
من جانبها، بدت الولايات المتحدة عالقة في حلقة من العقوبات المستفزة. ومن ضمن خطوات أخرى، عملت إدارة بوش على منع وصول كوريا الشمالية إلى العملة الصعبة ومن ثمَّ استهداف المال المُتدفِّق الذي موَّل نمط الحياة المُسرِف للنُّخَب الكورية الشمالية. وباعتبار واشنطن المحور الأساسي لهذه المبادرة الجديدة، فإنها فرضت عقوبات عام 2005 على بنك “دلتا آسيا” (مقرُّه جُزُر “مَكاو”)، حيث تحتفظ فيه كوريا الشمالية بـ25 مليون دولار في حسابات متعدِّدة، مما أثار موجة من الرقابة المُشدَّدة في بنوك أخرى حول العالم. وآتى هذا التضييق ثماره كما كان من المُخطَّط له، فبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، قال مسؤول كوري لنظيره الأميركي إنهم (الأميركيين) “أخيرا وجدوا طريقة لإلحاق الأذى بنا”.
على الرغم من الاستجابة المُشجِّعة، فإن العقوبات ظلَّت قصيرة العمر. وحينما اختبرت بيونغ يانغ سلاحها النووي الأول في العام التالي، قرَّر بوش تجميد حساباتها في بنك “دلتا آسيا” في خطوة هدفت إلى إطلاق المحادثات بسرعة. ونتج عن المفاوضات المطوَّلة مؤتمر صحفي ثنائي تعهَّدت فيه كوريا الشمالية بإغلاق منشآتها النووية وإيقاف تصدير المواد والتكنولوجيا النووية، وفي المقابل وعدت واشنطن برفع كوريا الشمالية من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، واستئناف شحنات النفط والمساعدات الغذائية. بيد أن بيونغ يانغ رفضت الاتفاق على التدابير الصارمة للتحقُّق من التزامها بالاتفاق، مما أدى إلى موت الاتفاق بمجرد مغادرة بوش المنصب. ورغم هذا الفشل، فإن واشنطن لم تفرض العقوبات من جديد على بنك “دلتا آسيا”، ولم تُدرج كوريا الشمالية مرة أخرى على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك طيلة عقد كامل بعدها، ولذا بدا الأمر وكأنه مكافأة لبيونغ يانغ على تهديداتها الفارغة.
ترامب و”رجل الصاروخ”
بالمثل، ميَّزت هذه التحرُّكات اليائسة سنوات حكم أوباما، التي بدأتها كوريا الشمالية باختبارها النووي الثاني في مايو/أيار 2009. وبعد عدة سنوات من الجمود، توصَّل أوباما إلى اتفاق مع زعيم كوريا الشمالية الجديد “كيم جونغ أون” عام 2012. (تولَّى جونغ أون الرئاسة بعد وفاة والده عام 2011). في هذه المرة، قدَّمت الولايات المتحدة المساعدات الغذائية في مقابل تعليق اختبارات الصواريخ الباليستية وأي أنشطة نووية أخرى. وبعد مدة وجيزة من بدء العمل بالاتفاق الجديد، أطلقت كوريا الشمالية قمرا صناعيا نحو مدار الأرض بواسطة التكنولوجيا نفسها المُستَخدَمة في إطلاق صاروخ بعيد المدى. ومن ثمَّ آل اتفاق آخر إلى الانهيار، ومما زاد الطين بلة أن بيونغ يانغ أعلنت أن أسلحتها النووية ليست ورقة مساومة، وأنها لن تتخلى عنها ولو في مقابل “مليارات الدولارات”.
كتبت هذه الواقعة نهاية آمال إدارة أوباما في عقد اتفاق، وعادت واشنطن إلى سياسة “الصبر الإستراتيجي”، ما يعني الاستمرار في فرض العقوبات دون إطلاق أي مبادرات دبلوماسية كبيرة. وفجأة، توقَّفت لعبة الانتظار حينما تولَّى الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنصب عام 2017، إذ نحَّى ترامب جانبا سياسة “الصبر الإستراتيجي” لصالح سياسة “الضغط الأقصى”، وبذلك ضاعف العقوبات وخوَّل وزارة الخزانة الأميركية إدراج أي شركات أو أفراد أجانب ممن سهَّلوا التجارة مع كوريا الشمالية على القائمة السوداء. وفي غضون ذلك، رجَّحت سلسلة من التسريبات أن الإدارة كانت تنظر في شنِّ ضربة “الأنف الدامي” العسكرية الاستباقية على مواقع كوريا الشمالية النووية، وصاحبت كلَّ ذلك تهديدات ترامب بإنزال “النيران والغضب” على “رجل الصاروخ”، وهو اللقب التحقيري الذي أطلقه ترامب على زعيم كوريا الشمالية.
من جانبه، ردَّ كيم بتهديده الخاص، لكنه أيضا مدَّ بغصن زيتون غير متوقَّع. ففي خطابه لاستقبال العام الجديد عام 2018، أعلن “اكتمال” برنامج بلاده النووي، وعَرَض عقد محادثات مشروطة مع كوريا الجنوبية. ومن خلال مبعوثين من كوريا الجنوبية، عَرَض كيم أيضا عقد قمة مع نظيره الأميركي. وقد قَبِل ترامب العرض فور سماعه، ومن ثمَّ تحوَّلت سياسة “الضغط الأقصى” على الفور إلى “التجاوب الأقصى”، وحَضَر ترامب ثلاثة اجتماعات مع كيم عامَيْ 2018 و2019، حتى إنه أعلن مرة أنه وكيم “قد وقعا في الحب”. بيد أن محفل الحب هذا فشل في تحقيق أي نتائج ملموسة، ففي قمتهما الأولى، جلب ترامب إلى كيم إعلانا ترويجيا لفيلم غريب يستعرض الازدهار الذي قد تتمتَّع به كوريا الشمالية لو تخلَّت عن أسلحتها النووية، وقد فات ترامب أن كيم بالفعل لديه كل السِّلَع الفاخرة التي حلم بها، وأنه لن يتخلَّى عن الأمن الذي توفِّره الأسلحة النووية لنظامه.
تجدر الإشارة إلى أن إستراتيجية ترامب الأولية بالضغط على النظام الكوري وعزله بدت فعَّالة على نحو جيد. فبحلول عام 2017، عُدَّت 90% من صادرات كوريا الشمالية غير مشروعة بموجب القانون الدولي. وبالإضافة إلى العقوبات الأميركية واسعة النطاق، أصدر مجلس الأمن تسعة قرارات رئيسية حظرت صادرات البلاد الأكثر إدرارا للربح، مثل الفحم والحديد الخام والمأكولات البحرية والمنسوجات وغيرها، التي أمدَّت النظام بثلاثة مليارات دولار سنويا. ولا تُعَدُّ قرارات الأمم المتحدة فعالة إلا في حال تطبيقها، وقد بدأت الصين أخيرا آنذاك، وفي مفاجأة للجميع، تضطلع بدورها بعد سنوات من التلكُّؤ. وفي غضون ذلك، فرضت 20 دولة قيودا على وجود كوريا الشمالية الدبلوماسي، الذي اشتهرت بيونغ يانغ باستخدامه للتهرُّب من العقوبات.
لم يكن مُرجَّحا أن ينتج عن الاستمرار في سياسة “الضغط الأقصى” لفترة أطول إجبار كوريا الشمالية على التخلي عن أسلحتها النووية. ومع ذلك، فقد كانت لهذه السياسة فرصة أفضل مقارنة بالقِمَم التي عقدها ترامب. ولنتذكَّر أن إيران لم توافق على تخفيض -وليس إيقاف- برنامجها النووي عام 2015 سوى بعد ثلاث سنوات من “الضغط الأقصى” من جانب واشنطن. وبالمثل، فإن كوريا الشمالية كانت ستملك دافعا أقوى للتفاوض بنية صادقة والابتعاد عن مطالبها المُتطرِّفة إذا ما عانت من ضغوط اقتصادية طويلة الأجل. للأسف، بعد قفزة ترامب المُتسرِّعة نحو محاولة عقد اتفاق، بدأت حملة العقوبات ترتخي، وخفَّفت الصين وروسيا من تطبيق عقوباتهما.
ما من مفاتيح لتفكيك الترسانة الكورية
يبدو أن واشنطن استنزفت خياراتها السلمية بلا جدوى. لقد كانت السياسة الوحيدة التي أمكنها نزع الأسلحة النووية -غزو كوريا الشمالية والإطاحة بنظامها- مُحاطة بالغموض، ولربما نتج عنها ضحايا بأعداد لا يمكن التهاون معها. لقد أمهل التاريخ واشنطن الوقت لإبطاء تقدُّم الكوريين الشماليين، ومن ثمَّ ضمان المزيد من الوقت لإيجاد حل نهائي، بيد أنها ضيَّعت هذه المهلة بتخبُّط سياساتها مرارا وتكرارا، من الدبلوماسية إلى سياسة “الصبر الإستراتيجي”، ثم من إستراتيجية “النيران والغضب” والعودة إلى الدبلوماسية مجددا، دون إعطاء فرصة كافية لنجاح أي نهج منهم.
قد يجادل المرء بأن عداء الولايات المتحدة هو ما اضطر كوريا الشمالية في المقام الأول إلى السعي وراء القنبلة، وبأن الأمور كانت قد تؤول إلى نتائج مختلفة إذا ما طبَّعت الولايات المتحدة علاقاتها مع بيونغ يانغ ورفعت العقوبات وأبرمت معاهدة سلام وسحبت قواتها من كوريا الجنوبية. بيد أن تلك الحُجة تخلط ببساطة بين السبب والنتيجة، إذ إن الجنود الأميركيين جرى إرسالهم إلى كوريا الجنوبية في أعقاب غزو كوريا الشمالية عام 1950، وظلوا هناك بسبب التهديد الكوري الشمالي الذي لم يتبدَّد أبدا. فقد نسفت كوريا الشمالية مؤخرا جدا -عام 2010- سفينة بحرية تابعة لكوريا الجنوبية وأغرقتها، ولقي على إثرها 46 بحارا حتفهم. إن انسحاب الولايات المتحدة لن يُبدِّد بالضرورة الشعور العام في كوريا الشمالية بانعدام الأمن، حيث إن عائلة كيم، الدكتاتورية المبنية على المكر والقمع، مُهدَّدة في نهاية المطاف بافتقارها هي نفسها إلى الشرعية. فلا يسعك الشعور بالأمان ما دامت توجد إلى جوارك دولة كورية أخرى تتمتَّع بقدر أكبر من الحرية والازدهار. إذن، امتلاك بيونغ يانغ للسلاح النووي يتعلَّق بيأس النظام الكوري نفسه، بقدر ما يتعلق بحاجته إلى صدِّ أي عمل عسكري أميركي.
إذا كانت ثمَّة حكومة قادرة على صنع فارق حقيقي، فلن تكون واشنطن بل بكين. إن الصين أكبر شريك تجاري لكوريا الشمالية حتى الآن، ومصدر رئيسي لإمدادات الطاقة لها، ولذا يمكنها تركيع كوريا الشمالية ببساطة عن طريق وقف تدفُّق النفط، على غرار ما فعلته عام 2013 وكرَّرته عام 2014، عندما غضبت إثر إجراء كوريا اختبارا نوويا جديدا، بالإضافة إلى إعدام “جانغ سونغ تَيْك”، وهو عمُّ كيم وحلقة الوصل الأساسية في بيونغ يانغ مع الصين. بيد أن هذه الضغوط لم تستمر. وتخشى الصين، رغم أنها لا تناصر البرنامج النووي الكوري، من أن الضغط أكثر من اللازم قد يتسبَّب في انهيار النظام في بيونغ يانغ، ويفتح الباب أمام تدفُّق اللاجئين إلى الصين، علاوة على احتمال قدوم القوات الأميركية وحليفتها الكورية الجنوبية إلى عتبات بكين. ونظرا لتدني مستوى العلاقات الأميركية-الصينية الآن، ليس لدى بكين سبب وجيه لمساعدة واشنطن في هذا الصدد.
على عكس الرؤساء السابقين، يواجه بايدن الآن خصما حازما ذا رادع نووي متين يشمل القدرة على ضرب الأراضي القارية للولايات المتحدة بصواريخ نووية. فكيف يستجيب بايدن للأزمة المقبلة؟ بصرف النظر عمَّا قد يحدث، يجب أن يظل خيار الضربة العسكرية الاستباقية خارج أذهان صُنَّاع القرار، فإن كان هذا الخيار قد نُظِر له عام 1994 بوصفه خطيرا جدا وعالي التكلفة بشكل يحول دون الإقدام عليه، فهو اليوم أخطر وأكثر كُلفة من ذي قبل. ويُعتَقَد اليوم أن كثيرا من الرؤوس الحربية والصواريخ النووية لكوريا الشمالية مُخبَّأة في منشآت سرية ومدفونة في مخابئ غير قابلة للاختراق، فيما يمكن تحريك بعضها بسهولة. ومن غير المُرجَّح أن تمحو الضربات الجوية هذه القدرات بضربة واحدة، ما يعني أن كيم يمكنه الانتقام والرد بضربة نووية.
تُعَدُّ الدبلوماسية خيارا أفضل، لكن من غير المُرجَّح أن ينتج عنها نزع للأسلحة النووية. فعلى أقصى تقدير، قد توافق بيونغ يانغ على اتفاق يقضي بتجميد نووي مؤقت يحدُّ من قدرات أسلحتها النووية لفترة مُحدَّدة. بيد أن التاريخ يُرجِّح أن المفاوضات ستفشل في نهاية المطاف بسبب مسألة التحقُّق من تنفيذ اتفاق كهذا. وبدلا من تقديم تنازلات وعدم الحصول على أي شيء في المقابل؛ فعلى بايدن التصالح مع حقيقتين أساسيتين، أولاهما أن كوريا الشمالية لن تتخلَّى عن أسلحتها النووية ما دام نظامها الاستبدادي في السلطة، والثانية أن تغيير النظام بقيادة الولايات المتحدة ليس خيارا متاحا، على الأقل في المستقبل القريب. أما أفضل رهان أمام بايدن فهو احتواء التهديد الكوري والعمل على إضعاف قبضة النظام تدريجيا من الأسفل إلى الأعلى.
شعب كوريا الشمالية.. نُقطة ضعف “بيونغ يانغ”
قد يكون من الصعب، وربما من المستحيل، العودة إلى سياسة “الضغط الأقصى” التي نُفِّذَت عام 2017، وسيظل الأمر على حاله ما دامت الصين لم تضع تطبيق العقوبات أولوية. بيد أن تجدُّد استفزازت كوريا الشمالية قد يُعيد الصين مرة أخرى إلى هذا المسار. أما في الوقت الراهن، فلا يزال بوسع واشنطن إحياء جهودها لاستهداف تدفُّقات الأموال غير المشروعة والحسابات في البنوك الأجنبية، كما أنها قد تفرض عقوبات ثانوية على الشركات الصينية التي تنخرط في النشاط التجاري مع كوريا الشمالية.
ستكون تدابير مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل أمرا ضروريا أيضا. فقد اشتهرت كوريا الشمالية بمشاركة تكنولوجيا الصواريخ الباليستية مع إيران وسوريا، إلى جانب دول أخرى. وكلما أنتج النظام المزيد من الأسلحة والصواريخ النووية، زاد خطر مشاركته للمعرفة التي لديه مع المزيد من الدول أو حتى جهات غير تابعة للدولة، وذلك مقابل أشد ما تحتاج إليه بونغيانغ، وهو العملة الصعبة. وستحتاج واشنطن إلى بناء تحالف من الدول لإجراء مراقبة مكثفة ميدانيا وبحريا وجويا، لكشف أي نشاط كوري لنشر السلاح النووي.
مع تطبيق تدابير الاحتواء هذه، قد تستطيع حملة إعلامية إرخاء قبضة النظام على الشعب الكوري الشمالي. وبالفعل فإن الأخبار من العالم الخارجي تتسرَّب إلى كوريا الشمالية من خلال حدودها سهلة الاختراق مع الصين، كما سهَّلت السوق السوداء داخل البلاد نشر التكنولوجيا والإعلام المحظورين. ونتيجة لذلك، يستطيع الكثير من الكوريين الشماليين أكثر من أي وقت مضى رؤية الفجوة الكائنة بين أساطير الدولة والواقع القاسي، وبالنسبة لنظام مبني على الأكاذيب، يُمثِّل هذا الوعي المتزايد تهديدا له.
يبدأ كيم حاليا عقده الثاني في السلطة، لكن يصاحب ذلك دوامة من الشائعات حول صحته بالتزامن مع مشهد اقتصادي يزداد صعوبة، وما من أحد يعلم مدى استقرار حكمه في الحقيقة. وبصرف النظر عن المستقبل القريب للنظام، فإن فرصه على المدى الطويل تبدو قاتمة، إلا إذا قاد إصلاحات اقتصادية حقيقية، بيد أن هذه الإصلاحات في حد ذاتها قد تولِّد عدم استقرار سياسي. وبالنظر إلى هذا الوضع، لن تؤدي أي حملة إعلامية بالضرورة إلى نتائج سريعة على صعيد الملف النووي، بيد أنها قد تنثر بذور تحوُّل أكثر استدامة. وحينما تصبح كوريا الشمالية أكثر مسؤولية وتجاوبا مع شعبها؛ حينها فقط ستكون هناك فرصة لتقدُّم ملموس باتجاه نزع الأسلحة النووية.
إن الحل الآخر المستدام للأزمة النووية هو إعادة توحيد البلاد تحت الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في “سيول” عاصمة كوريا الجنوبية. وحتى لو قرَّرت كوريا الديمقراطية المُوحَّدة الاحتفاظ بالترسانة النووية، فإنها مع ذلك لن تُشكِّل التهديد ذاته الذي يواجهه العالم اليوم من النظام الاستبدادي في بيونغ يانغ. ففي نهاية المطاف، تُعَدُّ أزمة كوريا الشمالية النووية انعكاسا للنظام الحاكِم في كوريا الشمالية، وحتى يصلح هذا النظام نفسه إصلاحا كبيرا أو ينهار، فسيظل التهديد النووي من جانبه قائما.
—————————————————————-
هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة. نت