تسببت عقود من الدعم الغربي للديكتاتوريين في أزمة ديمقراطية. عندما هبطتُ في المطار الدولي في لومي، توغو، في أواخر شباط (فبراير) 1986، كان أول شيء فعلته، حتى قبل تخليص تدقيق الوثائق في مكتب الهجرة، هو تشغيل راديو الموجة القصيرة من نوع “سوني” الصغير الذي كنتُ أحمله معي في كل مكان لالتقاط بداية نشرة أخبار “عالم بي بي سي”.
كنت مراسلًا صحفياً مستقلاً في إفريقيا في ذلك الوقت، لكن القصة التي كنت أتوق إلى الحصول على تحديث عنها كانت من قارة أخرى، والتي كانت ما تزال غير مألوفة لي تمامًا في ذلك الوقت: آسيا. هناك، في الفلبين، وفي ما كان يتكشف بطريقة درامية في ذلك الشهر، كانت حركة شعبية بنيت حول احتجاجات الشوارع العملاقة قد بدأت في تفتيت السلطة التي كانت ذات مرة منيعة للديكتاتور وعميل الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، فرديناند ماركوس. وبينما كنت ما أزال على مدرج المطار، علمت أن حركة المعارضة، التي تبنت شعار “سلطة الشعب”، قد انتصرت وأن ماركوس طار إلى المنفى.
استحوذ عليّ هاجس هذه الذكرى منذ انتخاب نجل ماركوس، فرديناند “بونغ بونغ” ماركوس الابن، منذ أسبوعين تقريباً، رئيساً للفلبين بعد حملة انتخابية شعبوية بالكاد تأثرت بالحكم الديكتاتوري لوالده والفساد الهائل الذي صاحبه. كان انجراف الفلبين عائدة إلى الحكم الفردي الذي يزداد استبداداً باطراد في ظل حاكمها المنتهية ولايته، الرئيس رودريغو دوتيرتي، الذي تولى المنصب في العام 2016، والذي أصبحت ابنته، سارة دوتيرتي، النائبة المنتخبة للرئيس الجديد. وتقدم الأحداث التي تجري في الفلبين فرصة مثالية للتفكير في العمل الشاق الذي يتطلبه خلق ديمقراطية دائمة في أعقاب حكم استبدادي طويل الأمد.
ثمة شيء آخر حدث لي عندما كنت في صالة المطار في لومي والذي لا يُنسى بالقدر نفسه بعد كل تلك السنوات الماضية. تم تفتيش حقائبي، واقتادني إلى كشك مغطى بستائر موظفو الجمارك الذين اهتموا بشدة بما بدا لهم آلة كاتبة.
أشَّرت الآلة عليّ كصحفي، وهو ما يعني شخصاً يمكن أن يشكل خطرًا على الديكتاتورية في توغو، وأمروني بإخراج ورقة مطبوعة باستخدام كل مفتاح على لوحة المفاتيح. كان هذا على أساس النظرية القائلة إنني إذا أنتجت أي مادة كتابية تخريبية أثناء إقامتي في البلد، فسوف تكون بصمات آلتي الكاتبة موجودة عليها، إذا جاز التعبير، وسيعرفون أنه أنا. ولكن، كان واضحاً أنه لم يسبق لهم وأن رأوا جهازًا مثل الذي لديّ: معالج كلمات نحيف وخفيف الوزن ياباني الصنع يطبع نصًا نقطيًا على ورق حراري خاص، حيث تتطابق أحرف كل آلة مع كل آلة كاتبة أخرى بلا أي فرق.
كان هذا -سواء بالنسبة لي أو للعالم على حد سواء- فجر عصر من التغيير التاريخي، وإنما الذي كانت معالمه ما تزال بعيدة عن الوضوح بعد. في وقت قريب، لن يحمل إحدى آلات كاتبة، ولا حتى من تلك التي تعمل بالبطاريات مثل آلتي. سوف يصل الإنترنت قريبًا، ليجعل التهديد القديم المتمثل في المنشورات السرية الذي تخشاه شرطة توغو بالياً عفا عليه الزمن، ويتيح وصولاً واسع النطاق إلى كميات لا نهاية لها من المعلومات التي تعبُر الحدود بسهولة وعلى الفور.
ولكن، حتى قبل ذلك، كما حدث في الفلبين، كانت بعض أكثر الديكتاتوريات سوءًا في أواخر حقبة الحرب الباردة قد شرعت في الانهيار. في شهر شباط (فبراير) ذاك، قبل ثلاثة أسابيع من سقوط ماركوس، انهارت عائلة دوفالييه في هاييتي، التي كانت قابضة على السلطة منذ العام 1957، في مواجهة انتفاضة شعبية أرسلت جان كلود “بيبي دوك” دوفالييه إلى المنفى في فرنسا.
وسوف أمضي بعد ذلك لأغطي قضية هاييتي لصحيفة “نيويورك تايمز” خلال السنوات المضطربة التي تلت ذلك. سوف تتحول الديكتاتورية في توغو الصغيرة إلى سلالة عائلية أخرى، والتي ما تزال مستمرة في السلطة حتى الآن، تحت حكم فور غناسينغبي، نجل الرجل الذي بدأ حكمه في العام 1967. ولكن، بعد تغطية هاييتي وبقية منطقة البحر الكاريبي وأميركا الوسطى لصحيفة التايمز، عدت إلى إفريقيا للعمل للصحيفة وشهدت موجة من التحول الديمقراطي الهش في بلد تلو الآخر، والتي تحدت التوقعات المشتركة لعلماء السياسة الذين افترضوا أن مثل هذه التحولات السياسية يمكن أن تحدث فقط في البلدان التي لديها عدد كبير من السكان من الطبقة المتوسطة.
بالنسبة للبعض، قد يبدو أن هاييتي والفلبين وتوغو ليست لديها علاقة تذكر ببعضها بعضا. لكن هذه البلدان الثلاثة جميعاً، إلى جانب العديد من الدول الأخرى التي تثير اهتمامي، كانت حليفة أو عميلة للغرب خلال أسوأ فترات الحرب الباردة، عندما بدا أنه نادراً ما يهم واشنطن (أو في حالة توغو، باريس) كم يكون الحاكم ابن زناً ولقيطاً طالما كان، كما يقول المثل، “لقيطنا” نحن.
خذ على سبيل المثال هاييتي. مع هوس الولايات المتحدة بمنع انتقال النموذج الثوري الكوبي إلى أجزاء أخرى من الأميركتين، تواطأت واشنطن في -أو على الأقل تجاهلت- استخدام عائلة دوفالييه لإرهاب الدولة وإثرائهم الذاتي الهائل على حساب الشعب الهاييتي من أجل الإبقاء على البلاد في معسكر الولايات المتحدة. وتم تطبيق المنطق نفسه في الفلبين (كما في أي مكان آخر في آسيا) وفي إفريقيا، والأكثر شهرة في زائير. وفي كل هذه الحالات، طغى اهتمام أميركا باحتواء انتشار النفوذ الصيني أو السوفياتي على اعتبارات الحكم والديمقراطية.
عندما هرب الزوجان ماركوس في العام 1986، كان أشهر رمز لفسادهما هو العثور على 2.700 زوج من الأحذية تركتها السيدة الأولى، إيميلدا ماركوس، في خزانة ملابسها. لكن ذلك كان مجرد رمز للافتراس الذي انتهى لتوه: وجدت اللجنة الرئاسية للحوكمة الرشيدة التي تم تشكيلها في الفلبين في أعقاب الانتفاضة أن الديكتاتور المخلوع كان قد جمع ما بين 5 و10 مليارات دولار، مسروقة من البنك المركزي الفلبيني، خلال فترة حكمه.
بعد سنوات لاحقاً، في زائير، كنت واحداً من أقل من حفنة من المراسلين الذين تمكنوا من تجاوز حواجز الطرق وتجنب اكتشافهم من قبل الجنود الموالين الشرسين الذين كانوا يحرسون المدخل إلى المطار لمشاهدة هروب الرئيس موبوتو سيسي سيكو المحمول جواً من كينشاسا بعد استيلاء الثوار عليها في أيار (مايو) 1997. وكانت الولايات المتحدة قد ساعدت موبوتو على الاستيلاء على السلطة بعد تجربة قصيرة ومضطربة في الديمقراطية فيما كان يعرف آنذاك بجمهورية الكونغو الديمقراطية، تحت قيادة رئيس الوزراء باتريس لومومبا، الذي قُتل بوحشية بدعم من الغرب.
كانت هذه الأحداث أيضًا مدفوعة بالخوف من عدوى الشيوعية في إفريقيا. ويغلب أن موبوتو تجاوز، خلال سنوات حكمه التي استمرت 32 عامًا، حتى ماركوس نفسه في الفساد، مع تقديرات لما اختلسه في بلد غني بالمعادن حيث يعيش معظم الناس في فقر مدقع بنحو 15 مليار دولار.
قليلون في الولايات المتحدة هم الذين يقضون الكثير من الوقت هذه الأيام في التفكير في دور بلدهم في دعم أنظمة مدمرة مثل هذه عبر ما كان يُتخيل في السابق على أنه “العالم الثالث”. وحتى بين أولئك الذين يتذكرون، هناك الكثير مما يُساء تذكره.
خذ على سبيل المثال حقيقة أن واشنطن قررت في النهاية، مهما كان ذلك متأخراً، أن تيار التاريخ يتحرك بشكل حاسم ضد عملائها القدامى وقررت قطع ارتباطهم بها فجأة. ومع الطغاة الذين أطيح بهم في العام 1986، ماركوس ودوفالييه، حدث هذا في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان. وفي حالة موبوتو، كان الرئيس بيل كلينتون هو الذي قطع الخيوط أخيرًا. أما كيف حدث هذا -أو، بشكل أكثر تحديدًا، كيف تعاملت واشنطن مع تداعيات هذه الحالات من التخلي عن العملاء القدامى- فشيء يذهلني، ليس بسبب الحنين المهني لأنني كتبت في جميع البلدان التي نوقشت هنا، وإنما بسبب ما يقوله عن الاستخدام ضيق الأفق وقصير النظر لقوة الولايات المتحدة.
ببعض الطرق، كان تاريخ دور الولايات المتحدة في الإطاحة بموبوتو وما تلاه أكثر إثارة للاشمئزاز من تواطؤها في الإطاحة بلومومبا في العام 1960 -وربما في مقتله في العام التالي. بدلاً من تعزيز الانتقال الديمقراطي في زائير، قدمت الولايات المتحدة دعمًا دبلوماسيًا لرواندا بينما نظمت الأخيرة غزوًا سريًا لجارتها الأكبر بكثير في العام 1996 لتنصيب زعيم آخر ذي ميول ديكتاتورية واضحة، يُدعى لوران ديزيريه كابيلا. ولم تفعل ذلك لمحاربة الشيوعية التي كانت قد أصبحت في ذلك الوقت قوة ضئيلة في العالم مسبقاً، ولكن على ما يبدو بدافع مسعى إلى تعزيز النظام بثمن بخس في منطقة من العالم لا تهتم بها واشنطن كثيرًا.
عندما سألت وزيرة خارجية الولايات المتحدة آنذاك، مادلين أولبرايت، أثناء زيارتها للكونغو في العام 1997، تحدثَت عن كابيلا -الذي كان منشغلًا مسبقاً بتهديد خصومه وعرقلة التحقيقات في الفظائع التي ارتكبت خلال الغزو الذي أوصله إلى السلطة- كشخص سجل “بداية قوية” نحو أهداف “الحكومة النزيهة وسيادة القانون”. ثمة القليل من الأشياء يمكن أن تكون أبعد من هذا عن الحقيقة.
لقد قُتل ملايين الأشخاص خلال تلك الحرب، بما في ذلك من خلال أعمال شبهتها الأمم المتحدة فيما بعد بالإبادة الجماعية. لكن واشنطن لم تكن لديها شهية للنظر في مثل هذه الأمور. وبدا وكأنها تتعامل مع إفريقيا على أنها تشتيب للانتباه عن المشاكل الأكثر استحقاقاً لانتباه قوة عظمى. ومع كل الدعوات الطقسية الأميركية إلى الديمقراطية، كانت ست من الدول الأفريقية السبع التي زارتها أولبرايت في تلك الرحلة يحكمها مستبدون، والذين كانت واشنطن قد بدأت في الترويج لهم صراحة كجيل جديد منعش للقارة.
بطبيعة الحال، تختلف تفاصيل التحولات من الديكتاتوريات المدعومة من الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في وسط إفريقيا عنها في الفلبين وهاييتي، لكن هذه التواريخ تشترك في قاسم مشترك هو الفرص الضائعة بسبب قصر النظر بشأن مسؤولية الولايات المتحدة وسلطتها. وهذا لا يعني أن القول إن الولايات المتحدة يمكنها -أو ينبغي لها- أن تحاول إدارة الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا أن لديها القوة -أو حتى الحق في فرض نتائج ديمقراطية على دول أخرى. لكن إنهاء الديكتاتوريات التي كانت لواشنطن يد قوية في دعمها كان يجب أن يفسح المجال لأشكال جديدة من الانخراط الذي كان ليفعل ما هو أكثر بكثير لصالح ظهور حكم ديمقراطي مستقر.
صحيح أنها لا توجد مجموعة أدوات مقبولة على نطاق واسع لتحقيق مثل هذه النتيجة، لكن هذا يرجع جزئيًا إلى الصعوبة المتأصلة في العديد من التحديات الشائكة التي تطرحها التحولات ما بعد الاستبدادية فحسب. ويعود ذلك بالقدر نفسه إلى الجهود التافهة وغير المتسقة التي تبذلها الدول الغربية لتحقيق هذه الغايات، لا سيما في العالم الثالث السابق. واليوم، من الصعب أن ننظر إلى أحداث في بلد مثل الفلبين، حيث تم انتخاب نجل ماركوس كرئيس بشكل كاسح، كنوع من الانتقام لهذا التاريخ -النتيجة الطبيعية للعمل غير الملائم الذي تم القيام به على مدى الجيل الماضي لتقديم المزيد من العمق المؤسسي للديمقراطية وإعطائها صدى أكبر في حياة المواطنين.
ومع ذلك، فإن ردة فعل مثل هذه لا تقتصر على ما يسمى بالهامش العالمي. في أجزاء كثيرة من الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، ينتهك الديماغوجيون الشعبويون الآن بشكل مشترك المبادئ الأساسية للديمقراطية. وقد حان الوقت لأن ننظر إلى أزمة الديمقراطية هذه، بينما تنتشر في المزيد والمزيد من الدول الغربي، باعتبارها مرتبطة بنتائج ما كان يسمى بالعالم النامي، حيث عادت أخيرًا إلى الوطن تبعات عقود من التشدق الغربي بالحديث عن قيم الديمقراطية في الخارج من دون استثمار عملي مماثل.
*هوارد دبليو. فرينش Howard W. French: كاتب عمود في مجلة “فورين بوليسي”، وأستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا، وكان مراسلًا صحفياً أجنبيًا قديمًا. كتابه الأخير بعنوان “مولود في السواد: إفريقيا، الأفارقة وصنع العالم المعاصر، 1471 إلى الحرب الثانية” Born in Blackness: Africa, Africans and the Making of the Modern World, 1471 to the Second World War
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Echoes of America’s Hypocrisy Abroad
المصدر: فورين بوليسي