عندما بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا كان من البدهي أن يكون لها تأثير بشكل أو بآخر على القضية السورية، أحياناً أبتعد قليلاً عن متابعة أخبار الحرب على أوكرانيا، أحاول أن أهرب منها، لكن لا مناص من ارتباط القضيتين ببعضهما في عدة جوانب، ربما يتضاعف اهتمامنا بأخبار أوكرانيا لأننا نحن السوريين نفهم تماماً التكتيكات الوحشية للقوات الروسية ونعرف مآلاتها على السكان وحياتهم، لا نريد أن تذبح الإنسانية مرتين، حين أرى مشاهد القصف والغارات الجوية واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً ومشاهد المدن المدمرة، أتذكر الأحداث نفسها تماماً في سوريا، السيناريو عينه يتكرر بحذافيره، ومع مشاهد الحصار التي تفرضها القوات الروسية على عدد من المدن الأوكرانية، تنتفض ذاكرتي، الحصار هو السياسة الأسوأ التي استخدمتها روسيا إلى جانب الأرض المحروقة لفرض التهجير على السوريين.
الحصار ومحاربة السكان بقوت يومهم ودوائهم وحليب أطفالهم، هي ليست مجرد كلمات تُقال، هي سلاح يقتل بصمت دون أن يسمع ضجيجه أحد، لم تكتفِ روسيا على مدى السنوات الماضية بشن الهجمات العسكرية لدعم نظام الأسد في حربه على السوريين، كانت هناك حرب موازية لحربهم العسكرية، عبر الضغط على الجانب الإنساني واستخدام سلاح التجويع والحصار ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، وهذا النوع من الحرب هو جزء من سياستهم، وقد لا يقل خطورة عن الهجمات العسكرية، للأثر الكبير والمباشر على حياة وأرواح المدنيين.
مع اقتراب موعد التصويت في مجلس الأمن، على آلية إدخال المساعدات عبر الحدود، والذي من المفترض أن يكون في بدايات شهر تموز، تزداد المخاوف من إنهاء روسيا لهذه الآلية، لصالح إدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا عبر الخطوط، النظام الروسي الوحشي نزع هذه المرة عنه ثوب الأفعى علناً أمام العالم، في وقت كان السوريون يرونه منذ سنوات على حقيقته، وظهرت تلك الأفعى التي تريد أن تقتل ضحيتها بأي وسيلة ممكنة، وبدأت التصريحات الروسية تتعالى على لسان مسؤولي بوتين بأن هذه المرة لن يكون هناك تمديد للآلية، في تحدٍ للإنسانية جمعاء، هم طوال سنوات يمارسون القصف والقتل والتهجير والحصار في سوريا ولم يكن هناك أي موقف من المجتمع الدولي على الأقل لوضع حد لتلك الهجمات القاتلة، فلماذا لا يستغلون ذلك، من سكت على القتل والتدمير والتهجير من باب أولى أن يصمت على عدم تمديد إدخال المساعدات.
النظام الروسي بالتأكيد لن يلتفت لإعلان برنامج الأغذية العالمي، في تقريره السنوي لعام 2021، أن ثلاثة من كل خمسة سوريين يعانون من “انعدام الأمن الغذائي” بعد الارتفاع المستمر بأسعار المواد الغذائية، وتدهور الاقتصاد في جميع أنحاء سوريا، ولن يهمه أكثر من أربعة ملايين مدني في شمال غربي سوريا نصفهم هو من هجرهم، منهم 3.4 ملايين شخص بحاجة للمساعدات بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، كيف لمن جرب أكثر من 300 نوع من السلاح على السوريين وعلى أجساد أطفالهم أن يكترث أصلاً إذا جاعوا، روسيا يهمها أمران الأول والذي بات أولوية بأنها ترى في هذا الملف وسيلة للابتزاز والحصول على مقابل ربما في الملف الأوكراني أو هكذا هي تطمح خلال هذه الفترة، وخاصة أنها ترى الإصرار الأميركي والغربي على استمرار المساعدات عبر الحدود، وهذا الأمر يرتبط بشكل كبير بالتطورات في أوكرانيا، الأمر الثاني، موسكو تريد زيادة دعم نظام الأسد اقتصادياً بطريقة غير مكلفة بالنسبة إليها، وبضمان تحكم الأخير بالمساعدات، فإدخالها عبر الخطوط يعطيه مردوداً كبيراً إذ يعمل نظام الأسد وبحسب دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، ومركز أبحاث مركز العمليات والسياسات، يعمل على الاستيلاء على نصف أموال المساعدات الإنسانية، من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على تحويلها إلى الليرة السورية بسعر الصرف الرسمي للبنك المركزي الذي هو أقل من سعر صرفها على أرض الواقع بفارق كبير، وحصل على نحو 60 مليون دولار في عام 2020 من خلال جمع 0.51 دولار من كل دولار مساعدات يتم إرساله إلى سوريا.
لم يكتفِ نظام الأسد بسرقة أموال المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرته والتمييز في توزيعها وفقاً لولاء المجتمعات المحلية، بل يقدم نفسه جهة نزيهة ويسعى إلى توزيع المساعدات عبر الآلية المركزية التي تنهي العمل بالقرار 2165 وما انبثق عنها لإدخال المساعدات عبر الحدود.
إن السماح بإنهاء العمل بآلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غربي سوريا، لصالح إدخالها عبر خطوط النزاع، هو بمنزلة مكافأة لنظام الأسد على فساده واستغلاله للمساعدات الإنسانية، رغم التجارب السابقة في هذا الإطار واستخدامه سلاح التجويع والحصار الآن في مخيم الركبان يثبت استمراره على هذا النهج، فمنذ عام 2019 لم تدخل قوافل المساعدات الأممية عبر خطوط النزاع إلى المخيم، حيث يعيش أكثر من 10 آلاف مهجّر في ظروف إنسانية بالغة الصعوبة، وتفاقمت الأوضاع سوءاً خلال الأيام الماضية في ظل فقدان الطحين، دون أن يكون هناك أي قدرة للأمم المتحدة على إجبار روسيا ونظام الأسد على إدخال المساعدات.
لا يمكن القبول بتحول المساعدات الإنسانية إلى سلاح بيد روسيا ونظام الأسد الذي يقوم بتسييس توزيعها في مناطق سيطرته، وسرقتها لتمويل عملياته العسكرية لقتل السوريين، بينما يُحرم المدنيون منها، كما لا يمكن الوثوق بإدخالها عبر خطوط النزاع وهو الذي استخدام الحصار والتجويع كأحد أساليب الحرب على السوريين.
وإن مجرد إخضاع ملف المساعدات الإنسانية للمساومة، -التي هي حق للمدنيين- سيكون له عواقب مستقبلية كارثية، وتحويل لملف المساعدات الإنسانية إلى سلاح بيد روسيا تعطيه لنظام الأسد ليمارس دور مصاص الدماء من جديد.
وإن العمل بإدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا عبر خطوط النزاع بالنسبة لروسيا هي عملية مؤقتة وعبارة عن رسائل سياسية لا أكثر وهي تعلم أنها تكذب والعالم أجمع يعلم بأنها تكذب وبأنه لا وجود لضمانات تجبرها على الالتزام بها وستتوقف في اليوم التالي من إيقاف آلية إدخال المساعدات عبر الحدود، كما إنها من زاوية أخرى شرعنة لنظام الأسد، ورضوخ للابتزاز الروسي في الوقت الذي كان الأولى بالمجتمع الدولي محاسبته على جرائم القتل والتهجير والحصار والتجويع، وسنرى رضوخاً مشابهاً في مناطق أخرى من العالم، وربما نشاهد سيناريو مشابهاً في أوكرانيا.
ما سيجري في مجلس الأمن في تموز القادم أتوقع أنه سيكون مختلفاً تماماً هذه المرة، الحكومة الروسية وبوتين باتوا يمثلون الجانب المظلم من العالم، ولا يمكن للمجتمع الدولي السكوت على هذا التصعيد ومواجهة الشعوب بهذه الطريقة، يجب أن تكون هناك آلية مختلفة عن التصويت بمجلس الأمن آلية تكون إنسانية بامتياز لا تخضع للابتزاز السياسي الروسي، لا يمكن القبول بأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة متفاجئة ومندهشة برفض روسيا لتمديد الآلية، موسكو لا تخفي نواياها، ولكن ما الذي أعده المجتمع الدولي لمواجهتها، لن أستبق الأمور ولكن أتمنى ألا يكون هناك أي تخاذل تجاه السوريين وقضيتهم والوقوف إلى جانبهم، كفاهم خذلاناً أحد عشر عاماً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا