تمر اليوم، 15 أيار/ مايو، الذكرى /74/ على صدور قرار مجلس الأمن رقم /49/ الخاص بوقف إطلاق النار أثناء حرب 1948 بين العرب والصهاينة من اليهود، وذلك بعد أيام من إعلان تأسيس دولة الكيان الصهيوني المُسماة ’’إسرائيل‘‘، وهو القرار الذى اعتبره البعض سبباً مباشراً في انتصار قطعان العصابات الصهيونية، ومن ثم بدأت «النكبة» العربية واحتلال فلسطين بعد هزيمة العرب والفلسطينيين وطرد وتشريد سكان فلسطين والسيطرة على أراضيهم.
فهل أن «النكبة» كانت حدثٌ مفاجئ داهم المنطقة على حين غرة، أم أن هناك أحداثاً ومقدمات انتهت بما جرى في العام 1948؟
ثمة خطأ شائع بأن بداية القضية الفلسطينية كانت عام «النكبة» 1948، ففي هذا إغفال واضح عن كون «النكبة» نتيجة حتمية وواضحة لما جرى قبلها من مواجهات وثورات شعبية فلسطينية تم إفشالها والقضاء عليها من قِبَل العصابات الصهيونية والانتداب البريطاني، وفي هذا إغفال لحقيقة أن الفلسطينيين يواجهون المشروع الصّهيوني منذ نهاية القرن التاسع عشر بل منذ لحظة تأسيس المشروع وبدء تنفيذه، ولم تبدأ هذه المواجهة عام 1948 كما يخيّل للبعض!
أي أن فلسطين ’’منكوبة‘‘ وجرحها ينزف منذ زمن طويل قبل العام 1948، الأمر الذي يعني أن ما جرى في ذلك العام ما هو إلا ’’احتضار‘‘ الجريح؛ بعد أن أنهكه النزف الدائم والمستمر، إذ تشير المصادر والمراجع والوثائق إلى أن فلسطين قد وُضعت تحت المطرقة الاستعمارية، مباشرة، منذ أن وطأت أقدام “نابليون” أرض مصر في أواخر القرن الثامن عشر؛ فعندما غزا فلسطين في عام 1798 كان عازماً أمره على “إعادة مدينة أروشليم لليهود”، فوجه نداءً (لليهود) للتمكن من فلسطين وبدعم مباشر من فرنسا ومساعدتها، بذلك تكون فرنسا، في نفاقها لليهود وتزلفها لهم، قد سبقت بريطانيا ووزير خارجيتها “بلفور” بحوالي 120 عاماً.
ليس غريباً أن نلمس هذا من نابليون، وغيره من قادة الغرب الاستعماري؛ فأطماع الدول الغربية بفلسطين قديمة العهد، نظراً لما يمثله الموقع الجغرافي لفلسطين من أهمية اقتصادية وعسكرية ودينية؛ فهي جسر بين ثلاث قارات؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي محطة الشرق، والغرب؛ تتنازع عليها الأمم القديمة والحديثة كي تسيطر على طرق التجارة، الأمر الذي جعل منها (على الدوام) ساحة حربٍ وقتال؛ يتبارز عليها القواد العظام القادمين من مختلف أصقاع الأرض.
وفي القرن التاسع عشر؛ عندما أصبحت السلطنة العثمانية في حالة شبه عجز عن السيطرة على أقاليمها في المنطقة العربية، بشكلٍ خاص، سنحت الفرصة للغرب بالتغلغل في فلسطين وتنفيذ “أجنداتهم” الهادفة لإقامة كيان سياسي- أمني- اقتصادي يضمن لهم السيطرة على فلسطين، وبذلك فإن الأيدي الأوروبية، المخفية والعلنية، أخذت تعبث فيها موجهة جل اهتمامها نحو فلسطين، وخير من تحدث بالجانب السياسي مبكراً حول ذلك «قسطنطين زريق» المفكر العربي الدمشقي المعروف في كتابه “معنى النكبة مجدداً“.
ففي عام 1891 تم تأسيس جمعية الاستعمار اليهودي؛ لمساعدة المستوطنين في فلسطين، إذ قام “هيرتزل” بنشر كتاب يدعو فيه إلى إقامة دولة يهودية، لينتهي الأمر في العام 1897 بانعقاد المؤتمر الصهيوني، الذي انبثق عنه برنامج الحركة الصهيونية العالمية الذي يُعرف اختصارا ببرنامج “بازل” لإقامة وطن لليهود في فلسطين معترف به وفقاً للقانون العام دولياً.
وقد تبع هذا المؤتمر إجراءات وأحداثٌ جسام، منها إنشاء الصندوق القومي اليهودي في 1901، ثم جاء إعلان بلفور في العام 1917 الذي تعهد فيه بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو الوعد المشؤوم الذي قطعته الحكومة البريطانية عندما كانت غارقة في خضم الحرب العالمية الأولى؛ فكانت بحاجة إلى دعم اليهود على المدى القريب من أجل تأمين دخول الولايات المتحدة وروسيا بالمواجهة ضد ألمانيا؛ وعلى المدى البعيد، من أجل الحصول على ورقة إضافية استعداداً لتفكيك السلطنة العثمانية، وبانتهاء الحرب وهزيمة الرجل المريض (السلطنة)، احتل الحلفاء فلسطين في 1918، وكان الانتداب البريطاني على فلسطين (رسمياً) في 1923، وبالتالي سمحت لمئات الآلاف من اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وتسليمهم آلاف الدونمات من أراضيها بالتنسيق مع الصندوق اليهودي وأصحاب رؤوس الأموال كـ “روتشيلد” و”هيرش” و”مونتفيوري” وغيرهم، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام اليهود فقاموا بالاستيلاء على الأراضي بأكثر من أسلوب، مثل:
1). الاستملاكات الفردية لليهود.
2). الجمعيات اليهودية.
3). ما يسمى مكتب فلسطين.
4). الشراء للأجانب.
واستعمال شتى أساليب المراوغة والخداع في تسجيل الأراضي لدى السُلطات العثمانية المختصة خاصة الرشى والأسماء المستعارة.
ونتيجة لذلك- وغيره- تنامت أعداد اليهود في فلسطين منذ القرن التاسع عشر حتى «النكبة»، وفق خطط، متعددة، وضعت اعتباراً من العام 1870 لإعادة تسمية الأماكن والمواقع التاريخية بأسماء عبرية، ومحو الاسم العربي منها؛ والغاية هي نزع الهوية العربية عن خريطة فلسطين، وطمس الجغرافيا الفلسطينية وإخفائها وتزويرها، من أجل إضفاء هوية جديدة على مواقعها، وتسميتها بأسماء تنفي تاريخها وهويتها معاً.
ومع إحكام بريطانيا قبضتها على فلسطين وشرق الأردن إثرَ الحرب العالمية الأولى، فقد قامت الاستراتيجية البريطانية على “تجهيز” فلسطين وإعدادها؛ تمهيداً للحظة المناسبة التي تعلن فيها الدولة “الصهيونية” على أرض فلسطين، ونسقت مع المستوطن الصهيوني الطلائعي “دافيد بن غوريون” (1886- 1973)- زعيم حركة ‘‘الهاغانا’’ الإرهابية الصهيونية أثناء الانتداب- ليقرأ هذا الطليعي يوم 14 أيار/ مايو 1948 في شارع الجادة التي أطلقوا عليها اسم “روتشيلد” وثيقة ‘‘الاستقلال’’ الصهيونية المزعومة قائلاً: كان حلم صهيوني ‘صغير’ يسمى ‘النقب’ داخل عنكبوت الحلم الصهيوني الأكبر، الذي تجلى في كتاب “هيرتزل” ‘‘الدولة اليهودية’’ عام 1896.
وقد سطر المؤرخ الفلسطيني الراحل «عارف العارف» (1892- 1973) في كتابه “النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود (1947- 1949)” وتدوينه اليومي لمجرياتها، وتسجيله الدقيق لكـمٍّ لا شبيه له من الروايات عن أحداثها، نقلها عن مسؤولين عرب وفلسطينيين ومناضلين ومواطنين عاديين حرص على مقابلتهم في فلسطين والعواصم العربية لاستجلاء الحقيقة من أفواههم، ويعتبر بمثابة أهم المراجع العربية الموثوق بها، وأهم مرجع فلسطيني عن نكبة 1948، وذلك لمعاصرة مؤلفهِ لـ«النكبة»، ووجوده في قلب أحداثها، ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء:
– الجزء الأول: تحت عنوان “من قرار التقسيم 29/11/1947 إلى بدء الهدنة الأولى 11/6/1948″.
– الجزء الثاني تحت عنوان “من بدء الهدنة الأولى 11/6/1948 إلى اتفاقيات الهدنة الدائمة بين الدول العربية وإسرائيل، شباط/ فبراير – تموز/ يوليو 1949“.
– الجزء الثالث تحت عنوان “ملاحق وسجل الشهداء“.
ويكفي الاطلاع على قائمة محتويات الأجزاء الثلاثة (https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/attachments/books/707.pdf) لنتبين الدقة والأهمية لهذا السفر التاريخي عن «النكبة» وتفاصيلها كاملةً.
ويبقى السؤال الاستراتيجي الذي لا بد من التوقف عنده، معمقاً، وهو: هل «النكبة» لاتزال مستمرة؟ ولماذا تسعى الصهيونية لمحوها من الذاكرة العامة دولياً؟
ويأتي الجواب على لسان المؤرخ الإسرائيلي “إيلان بابه” في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين“: ’’إن هناك جريمة كهذه جرى محوها كلياً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948؛ إن هذا الحدث المصيري, الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث، جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيكم عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً‘‘.
هنا؛ نجد أنفسنا أمام مسؤولية تاريخية نحو شهداء ومشردي شعبنا العربي الفلسطيني وأسراه، وجميع من اكتوى بالاحتلال، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بضرورة التعامل مع «النكبة» المستمرة والتي تتجلى في العديد من الممارسات الاحتلالية- الإحلالية، أبرزها ما يجري بحق أهلنا في الضفة والقدس وكامل التراب الفلسطيني، وآخرها اغتيال الشهيدة والشاهدة “«شيرين أبو عاقلة»، فضلاً عن أولئك الذين يعتدي عليهم قطعان المستوطنين ويرفض الاحتلال الاعتراف بقراهم وتجمعاتهم البشرية، وما يجري من تغيير وجه الأرض وباطنها في فلسطين التاريخية، وفي ذلك مظهر صارخ من مظاهر «النكبة» المستمرة إلى أن يُحسم الصراع على هذه الأرض لصالح أصحاب الحق الشرعيين؛ ويقول لنا التاريخ القريب والبعيد أنه لا يمكن التعويل على المجتمع الدولي ومؤسساته، فسياسة الكيل بمكيالين هي السائدة، ولعل أكثر ما يمكننا المطالبة به هو أن تعمد المؤسسة التي كانت تعمل بها ‘شيرين‘ـ المُنخرطة في تطبيع كامل مع العدو- إلى عدم إهدار دم ‘شيرين‘ مرة ثانية، وبالتالي أخذ الدروس والعبر؛ أما الباقي، فسيتولاه شعب فلسطين، بلحمه العاري من كل شيء إلا من كرامة، فهي السلاح والذخيرة للأيام الصعبة القادمة.
إن معركة المسجد الأقصى، ومعركة الدفاع عنه، ليس فقط من ناحية دينية على أهميتها، وإنما هي في قلب معركة التحرّر العربي الفلسطيني، والاستهداف الصهيوني لـ “لأقصى” هذه الأيام هو استهداف لتاريخ الشعب الفلسطيني، وحقوقه، إنها معركة شرعية الرواية التاريخية، التي تحاول “إسرائيل” ومن يقف خلفها اقليمياً ودولياً، استبدالها بأساطير تبرّر استعمارها لوطن الفلسطينيين، وتشرعنه.
يعيش العالم بأسره في هذه المرحلة، أياماً وأسابيعَ حافلة بتطورات سياسية بالغة الأهمية، وحافلة بأحداث عنيفة، دموية، متفجّرة ومتلاحقة، لها، بكل تأكيد، انعكاسات مباشرة على كل شعوب ودول العالم، تتغيّر خلالها الاصطفافات والتحالفات، ويتشكّل فيها نظام عالمي جديد، على أنقاض نظام عالمي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وإذا كنّا كأمّة عربية، بشكل عام وشامل، وشعب فلسطيني بشكل خاص، الخاسرين الأكبر على مدى القرن الماضي، والعقدين الأوّلين من هذا القرن، بكل ما تخلّل هذه السنين العديدة من حروب واحتلالات ومؤامرات، وتطبيع مع الكيان الغاصب، ومن إعادة ترسيم الحدود الجغرافية، فإن الضمان الوحيد كي لا نكون خاسرين في عالم الغد الذي يتشكّل هذه الأيام، هو تحسين أدائنا، كدول وشعوب عربية، وتعلّمنا واستيعابنا لدروس التاريخ الحديث، الذي أوصلنا أداؤنا الركيك خلاله إلى ما نحن فيه من هوان وتخلُّف، جرّاء تشرذم وتقاتل لصالح أجندات غير وطنية وغير عربية، أدت لاستيلاد نكبات مكملة لـ«النكبة» الفلسطينية.
المصدر: موقع “الحرية أولاً”