لا يمكن تصنيف مرسوم العفو وإعادة فتح المعتقلات وإطلاق دفعة قد تكون يسيرة ممن أمضوا فيها سنوات كـ”إرهابيين”، على أنها خطوة اعتباطية أو مساعٍ لإرضاء من بقي في سوريا وتشجيع من شرّدهم للعودة أو حتى اعتبارها محاولة لتغطية جريمة بعظَم مجزرة التضامن.
فكل ذلك يعد من الهوامش التي لا يلقي لها بشار الأسد ومنظومته أي أهمية، إذ إن تركيبة النظام تقوم على التخطيط والعمل ضمن استراتيجية متناسقة تضمن استمراريته وإعادة تشكيل التحالفات واللعب بين الأطراف للنجاة.
العفو وما سبقه من قوانين تجريم التعذيب وتغليظ عقوبات الجرائم الإلكترونية، قد تأتي في مجملها ضمن سياق تأمين البيئة القانونية الآمنة لعودة المهجرين واللاجئين، ويتفق مع مقاربة “خطوة بخطوة” التي طرحها المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن والحصول على كامل الدعم من جميع الأطراف المعنية بالملف السوري وفق ما يصرّح به بعد كل لقاء أو اجتماع سواء أكان على صعيد الأمم المتحدة أم تلك التي تجري مع داعمي ومعاندي النظام.
على الرغم من كل التحذيرات التي أطلقت حول مقاربة بيدرسن، أحد مهندسي اتفاق أوسلو، وكذلك الرفض الإعلامي من قبل النظام والمعارضة، فإن الأمور يبدو أنها تسير وفق نسق دقيق، ضمن ما تحدث عنه بيدرسن بداية العام الحالي، الذي يبدو أنه عام انطلاق التطبيق، لخطوات قال عنها بيدرسن إنها “تدريجية، ومتبادلة، وواقعية، ومحددة بدقة، وقابلة للتحقق، تُطبق بالتوازي بين الأطراف المعنية بالأزمة السورية، وصولاً إلى تطبيق القرار الدولي 2254”.
الاجتماعات الأخيرة سواء على صعيد مجلس الأمن أو اجتماع واشنطن في آذار الفائت وكذلك اجتماع باريس في نيسان، اتفقت جميعها على دعم مقاربة بيدرسن، ومنحه القدرة على المناورة فيها من خلال تفعيل آلية التعافي أو الإنعاش المبكر (وهو مصطلح فضفاض يظهر للمرة الأولى في الأزمات الدولية) ويبدو أنه النافذة التي سيلج منها النظام من جديد كطرف ليس متساوياً مع الجميع، وقادر على المشاركة في المستقبل ليس كمجرم أو ملاحق، وأكثر من مجرد شريك، بل كقائد لعملية الانتقال من مرحلة الحرب إلى السلم، ولكن بتخطيطه وتنفيذه.
لا توجد تأكيدات أو تصريحات رسمية تكشف عن تفاصيل ما جرى في الاجتماعات المذكورة آنفاً، لكن المؤشرات التي لا تخطئها الأعين تشي بأن شيئاً ما يتحضر مع الندوات التي يعقدها رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا “دان ستونيسكو” مع مختلف المنظمات الأممية والدولية، لتفعيل القدرة على الصمود والتعافي المبكر داخل سوريا، ولا سيما في المدن الكبرى، إضافة إلى التحضير لإطلاق ندوات موازية على هامش اجتماع بروكسل لدعم الشعب السوري في 9 – 10 من الشهر الحالي، فتحمل إحدى الندوات عنوان (تقوية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة قوة دافعة للاقتصاد والحياة في سورية)، وتلك المشاريع هي التي ستُشكل، بحسب رأيه، العمودَ الأساسي في جسم الاقتصاد السوري المدمر.
لا مؤشرات على نجاح مقاربة بيدرسن أو على فشلها، فالأطراف (الحديث لا يشمل النظام والمعارضة، بل الأطراف الدولية الفاعلة) ينتظرها مزيد من الاختبارات لضمان استمرار الخطوات، فتبدأ واشنطن رئاستها لمجلس الأمن وعلى أجندتها في الملف السوري عدة اجتماعات حول الوضع الإنساني والسياسي والكيماوي، والأهم كما تقول المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، ملف المساعدات الإنسانية الذي ينتظر التمديد في تموز المقبل، تمديد لا يبدو أنه سهل مع قطع حبال وحتى شعرات الوصل بين واشنطن وموسكو على خلفية غزو أوكرانيا.
غموض يلفّ مقاربة بيدرسن، فلا تُعلم مراحلها ولا ما الذي سيحصل عليه النظام مقابل خطواته، بناءً على افتراض أنها خطوة ضمن المقاربة، ولا يُعلم من بدأ بالخطوة الأولى، ليتاح المجال لفهم أو توقّع ما سيحدث، وقد يرى بعضهم أن زيارة بشار الأسد للإمارات بعد سنوات طويلة من العزلة، هي المفتاح والمبادرة، أياً كانت التكهنات لكنَّ الواضح أن الملف السوري على أعتاب مرحلة جديدة، بانتظار ما ستُظهره الخطوات المقابلة، مع احتفاظ كل طرف بأسلحته، فواشنطن وحلفاؤها يؤكدون موقفهم الثابت حيال الأسد ويتعهدون بالمحاسبة وفي الوقت ذاته يدعمون مقاربة بيدرسن، والنظام يُقدِم على خطوات لا تضرّه ولا تؤثر على وجوده، فمعاقبة التعذيب هو قانون كغيره، عبارة عن حبرٍ لا يقف حاجزاً أمام أصغر عنصر أمن، وكذلك إطلاق سراح بعض المعتقلين، فهو قادر على إعادة اعتقالهم، مع ضمان صمت الخارجين من قبور الفروع والسجون عن الحديث عمّا شاهدوه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا