نشرت صحيفة “الغارديان” تحقيقاً أجراه مراسلها في الشرق الأوسط، مارتن شولوف، حول مذبحة حي التضامن القريب من دمشق.
ويحكي شولوف قصة عنصر صاعد في ميليشيا موالية للرئيس بشار الأسد أعطي لابتوب يعود إلى واحد من أجهزة الأمن سيئة السمعة في النظام السوري وطلب منه إصلاحه. وعندما فتح الشاشة ونقر على ملف الفيديوهات، ظهرت اللقطة غير ثابتة في البداية قبل أن تقترب إلى حفرة تبدو جديدة بين بنايتين تظهر آثار الرصاص عليهما. وبدا رجل أمن يعرفه راكعا قرب الحفرة ويرتدي قبعة صيد وزياً عسكرياً ملوحاً ببندقيته ويصدر أوامره.
وتجمد العنصر الجديد وهو يشاهد الصور تظهر تباعاً حيث اقتيد رجل من مرفقه باتجاه الحفرة الضخمة ولا يعرف ما فيها وطلب منه الركض بسرعة، يلاحقه الرصاص الذي اخترق جسده قبل أن يسقط على كومة من الجثث. وواحداً بعد الآخر أمر رجال بالركض أو السير باتجاه الحفرة حيث قيل لهم إن الأمن يحميهم من القناصة وصدق بعضهم أنهم في حماية الأمن. وفي نهاية العملية قتل 41 شخصاً في مقبرة جماعية وتم صب الكاز عليهم وحرقهم لإخفاء آثار الجريمة في مكان لا يبعد عن مقعد السلطة في سوريا سوى مسافة قصيرة. ويعود تاريخ الفيديو إلى 16 نيسان/إبريل 2013.
وأصيب العنصر الجديد بالغثيان حيث قرر في ذات نفسه أن اللقطات يجب أن ترى في مكان آخر، مما قاده في رحلة محفوفة بالمخاطر بعد ثلاثة أعوام، قادته من سوريا باتجاه الأمان في أوروبا، ثم تعاون مع أكاديميين حاولا الوصول إليه كمصدر رئيسي في تحقيق خارق للعادة وتأمينه، وفي الوقت نفسه تحديد الرجل الذي أشرف على المذبحة وإقناعه بالاعتراف بدوره فيها.
وهي قصة جريمة حرب تم تسجيلها بشكل حي على يد المنفذين لأوامر واحد من أجهزة النظام سيئة السمعة وهو فرع 227، جهاز الاستخبارات العسكرية. وهي قصة تقدم تفاصيل دقيقة عن الطريقة التي تم فيها قلب الطاولة على مرتكبيها، بما في ذلك الطريقة التي قام فيها باحثان في أمستردام بإغراء واحد من الضباط سيئي السمعة عبر شخصية بديلة على الإنترنت وخداعه بالكشف عن أسرار حرب الأسد الشريرة.
وكشف عملهم عن الجرائم غير المسبوقة التي اعتقد أن النظام ارتكبها ولكنه أنكرها وحمل الجهاديين مسؤوليتها. ويقول شولوف إن دليل الجريمة والإرهاب في سوريا يتم تكراره اليوم وبعد 9 أعوام في أوكرانيا حيث تحولت العملية التي أطلق عليها الرئيس فلاديمير بوتين “العملية العسكرية الخاصة” إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق البلاد. وكانت وحدات الاستخبارات العسكرية في هذه العملية في مقدمة من ارتكب الوحشية وزرع الخوف في قلوب السكان من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل الذي يشبه محاولات الأسد الوحشية التمسك بالسلطة.
وتعلمت قوى الاستخبارات السورية التي تلقت تدريبها في الاتحاد السوفييتي السابق أثناء فترة الستينات من القرن الماضي، فن التخويف، لمن يعتقلون على نقاط التفتيش بدون اعتبار لولاءاتهم، فقد كان الخوف هو الوسيلة القاتلة المتوفرة للنظام واستخدم كل ما لديه لزرعه في القلوب. ولم يكن الضحايا من المتمردين بل المدنيين الذين لم يكن لهم ناقة أو بعير لدى جانبي الصراع. وكانت رسالة قتل المدنيين في حي التضامن واضحة: لا تفكروا حتى بمعارضتنا.
وسرب المصدر الفيديو أولا إلى ناشطة في المعارضة في فرنسا وهي أنصار شهود والبرفسور أوغور أوميت أوغور من مركز الهولوكوست والإبادة بجامعة أمستردام، حيث كان عليه مقاومة الخوف من الاعتقال والقتل بالإضافة للضغط النفسي الناتج عن نبذ عائلته العلوية له. وكان على أنصار وأوغور العثور على الرجل في قبعة الصيد، واستخدما في هذه المحاولة الشيء الوحيد الذي اعتقدا أنه مساعد في العملية: شخصية بديلة.
وكانت أنصار ناقدة حادة للأسد مع أنها تنتمي إلى عائلة كانت على علاقة جيدة مع النظام إلا أن النزاع والانهيار الاقتصادي أثر على العلاقات وجعلها مصممة على تقديم الأسد للعدالة، مهما كان الثمن. وانتقلت إلى بريطانيا عام 2013 وإلى أمستردام بعد عامين حيث التقت مع أوغور، وكلاهما كانت لديه رغبة بتوثيق ما اعتقدا أنها إبادة ارتكبت في سوريا. وكان تجميع الشهادات من الناجين، طريقة واحدة وكذا الحديث مع الجناة طريقة أخرى، أما كسر شيفرة الصمت المحيطة بالنظام، فقد كانت شبه مستحيلة.
وقررت التحول للإنترنت والبحث عن المسؤولين الأمنيين في النظام والتظاهر بأنها معجبة وتدعم قضية النظام. وقال أوغور “المشكلة مع نظام الأسد أن من الصعب دراسته، فلا تستطيع المشي في دمشق ملوحا بيدك وتقول أنا عالم اجتماع من أمستردام وأريد طرح أسئلة” و”توصلنا لنتيجة أننا بحاجة إلى شخصية ويجب أن تكون بنتا علوية شابة”. ووجدت أنصار أن الجواسيس والضباط في سوريا يستخدمون فيسبوك، ولم يكونوا رغم عملهم السري يخفون نشاطهم على منصات التواصل ولهذا قررت اختراع اسم “آنا ش” وطلبت من مصور صديق التقاط صورة مغرية لوجهها. وحولت صفحتها إلى مديح للأسد وعائلته وبدأت بتجنيد الأصدقاء.
وبحثت في فيسبوك على مدى عامين عن مشتبه بهم محتملين، وعندما وجدت أحدا أخبرته أنها باحثة تدرس نظام الأسد. وأصبحت جيدة في تخفيها، وفهمت النظام، ورتبت مع أوغور النكات والقضايا التي تساعدها في الطريق الذي اتخذته. وتحولت آنا ش بعد فترة لشخصية معروفة لدى رجال الأمن بل الملجأ للكشف عن الهموم. وقالت أنصار “كانوا يبحثون عن شخص للتحدث معه ومشاركته في التجربة”. وقال أوغور “أصبح بعض الأشخاص مرتبطا بآنا” و”صار بعضهم يحادثها منتصف الليل”. وعلى مدى عامين جسدت أنصار الشخصية التي تبنتها لدرجة أنها شعرت بالغضب، والكثير ممن تحدثت إليهم كانوا جزءا ناشطا في آلة القتل، وكان هناك أشخاص جزء من النظام “كابال” الذي ساعدهم. كل هذا أثر على صحتها وحياتها الاجتماعية وصفائها، إلا أن الجائزة كانت تستحق لو عثرت على المسلح.
وحدث الاختراق في آذار/مارس 2021، فقد استطاعت صفحة آنا جذب أكثر من 500 معجب من مسؤولي النظام المكرسين له. ومن بينهم شخص وجهه مثل القمر بندبة وشعر بارز على الوجه، وأطلق على نفسه أمجد يوسف، ويشبه المسلح الذي ظهر في الفيديو وأتعبت نفسها بالبحث عنه. وبعد ذلك تلقت أنصار أو آنا ش معلومة من مصدر في التضامن أن القاتل كان ميجر في فرع 227 في المخابرات العسكرية السورية. وتقول “كان الارتياح لا يوصف” و”هنا شخص يحمل المفتاح وعليك دفعه للحديث”. إلا أن أمجد في المكالمة الأولى كان شاكا وأنهى المكالمة بسرعة. ثم دفعه الفضول للتحدث معها مرة ثانية بعد ثلاثة أشهر. وعندها ضغطت أنصار على زر التسجيل. وكان مقتصدا في الكلام ومتعثرا، وفعلت آنا كل ما بيدها لجعله يتكلم من خلال الضحك والتغنج حتى ارتاح الوجه المتجمد وبدأ بالحديث، وسألته عن التضامن.
ثم قالت “كيف يكون وضعك لو جعت ولم تكن قادرا على النوم وتقاتل وتقتل وتخاف على والديك، وهذه مسؤولية كبيرة تحملها على ظهرك؟”. وأصبح أمجد في كرسي التحقيق وأجابت آنا على كل أسئلته. وتقول أنصار “لا أنكر أنني شعرت بالنشوة للحديث معه” و”ابتسمت لأني كنت أتحدث معه” وكان هذا جهد سنوات للكشف عنهم وليس مقابلة واحدة، ويجب إقناعهم بأنك تقوم بدراسة. وظلت أنصار وشخصيتها البديلة أمام الشاشة طوال صيف العام الماضي وبحضور أوغور بعيدا عن الشاشة وهي تحاول إقناع أمجد والدخول في عقله وجعله يتحدث وجمع المعلومات.
ودخلا صفحته على فيسبوك حيث عثرا على صورة لشقيقه الأصغر وقصيدة كتبها بعد وفاته عام 2013، وأربعة أشهر قبل مذبحة التضامن. وفي وقت متأخر من حزيران، تلقت رسالة عبر فيسبوك، وكانت هذه فرصتها لجعله يعترف. وكان مرتاحا هذه المرة، وسألته عن شقيقه، وقال “كان عليك عمل ما يجب عمله” و”قتلت كثيرا وانتقمت”، ثم أغلق المكالمة ولم يرد على المكالمات لأشهر إلا من خلال الثرثرة حيث سأل عن آنا ومتى ستعود إلى سوريا. وبدأ يتصرف كصديق غيور لها. وشعرت أنصار أن شخصيتها البديلة قد وصلت حدها وأنه يجب على آنا ش أخذ راحة، فقد اتصلت مع حوالي 200 مسؤول في النظام، بعضهم متورط في جرائم مباشرة وساعدوا الأسد في حربه الشرسة، وبدأوا يتداولون بين أنفسهم حول المرأة اللغز.
وقررت في يوم بارد من كانون الثاني/يناير هذا العام دفن الشخصية في محمية طبيعية خارج أمستردام، حيث طبعت مع أوغور كل المراسلات في صفحتها. وحان الوقت للتركيز على المعلومات التي جمعاها ولم يكن لديهما وقت لتحليلها. وظلت مهمة وحيدة لم يقوما بعملها وهي مواجهة أمجد بجريمته. وأرسلت أنصار، وهذه المرة باسمها الحقيقي، عبر فيسبوك لقطات قصيرة من 14 ثانية من الفيديو. وكان أول سؤال طرحه، هل أنا في هذا الفيديو؟ نعم، “نعم هذا أنا، لكن ماذا يقول الفيديو؟ أنا أعتقل شخصا وهذه هي مهمتي”.
وعندما اكتشف تداعيات ما رآه، بدأ ينفث غضبه على قوات الدفاع الوطني الذي ينتمي العنصر الصاعد إليه ووصفهم بالقتلة والبلطجية. وقال إنه لم يكن مثلهم. ثم غير نبرته وكتب إليها رسالة “أنا فخور بما فعلت” وهدد بقتلها وعائلتها. وتوقفت أنصار وأوغور عن التواصل مع أمجد ومنعاه من ذلك منذ شباط/فبراير، مع أنه حاول الوصول إليهما. ويعرف تداعيات هذا الاعتراف مع بدء المحاكمات في ألمانيا ضد أعضاء في نظام الأسد. وما كشف عنه في المحادثات هو دليل أقوى من تلك التي توفرت للمحاكم الألمانية.
وفي نهاية الدراما كان هناك شخص يجب توفير الأمن له، المصدر الذي وفر اللقطات، وكانت رحلة الخروج من سوريا صعبة، حيث سافر من دمشق إلى حلب، ولم يستطع الخروج إلا بعد رشوته ضابطاً في الفرقة الرابعة في الجيش السوري بـ 1.500 دولار ومنها سافر إلى تركيا حيث التقته أنصار هناك.
المصدر: القدس العربي