اختارت أنظمة عربية خليجية التحالف مع الكيان الصهيوني، لمواجهة الخطر الإيراني على خلفية انكشافها أمنيا أمام النزعة التوسعية الإيرانية، في ضوء تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة؛ واحتمال العودة إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة” حول برنامج إيران النووي ورفع العقوبات الأميركية عن النظام الإيراني، وما يتيحه له من فرص وإمكانات عبر العودة إلى السوق النفطية وتحرير مليارات الدولارات المجمّدة بالعقوبات الأميركية؛ تسمح له بتمويل برامجه في صناعة الأسلحة، الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة بشكل خاص، والتوسّع في قدراته النووية، وتعزيز قدرات أذرعه في دول عربية وغير عربية، وتعظيم قدرته على التدخل في شؤون دول المنطقة وتكريس حضوره المهيمن فيها.
كشفت اللقاءات الثنائية والاجتماعات الموسّعة هرولة هذه الأنظمة نحو الكيان الصهيوني، والتسليم بتصوّراته وخططه التي تجعل منه قائدا شرعيا للهيكل الأمني الشرق أوسطي الجديد المزمع تشكيله. لخص وزير خارجية هذا الكيان، يئير لبيد، بعد الاجتماع السداسي في النقب، ما تمخّض عنه الاجتماع العتيد بقوله: “اتفق المندوبون على تطوير منتدى دائم، كخطوة نحو بناء هيكل إقليمي جديد قائم على التقدّم والتكنولوجيا والتسامح الديني والأمن والتعاون الاستخباراتي. هذه البنية الجديدة، القدرات المشتركة التي نبنيها، ترهب أعداءنا المشتركين وتردعهم، وفي مقدمتهم إيران ووكلاؤها”، درج الإعلام على تسمية الهيكل المقترح بـ “الناتو الشرق أوسطي الصغير”، هرولة من دون اعتبار لبقية المعطيات التي تفيد بأن للكيان الصهيوني أطماعا وطموحا للهيمنة على دول الإقليم، وذلك فيما يزحف الاستيطان ويتصاعد في أراضي الضفة الغربية، وبات عدد المستوطنين 620 ألفا يعيشون في أكثر من مائتي مستوطنة؛ والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى والسعي إلى تقديم الضحايا داخله ومسيرة الإعلام وترويج فكرة تقسيمه، كما حصل مع الحرم الإبراهيمي في الخليل، والعمل على تهويد مدينة القدس وطرد الفلسطينيين منها، وقتل الفلسطينيين خارج نطاق القانون، عينة عن طبيعة هذا الكيان وتوجهاته السياسية العدوانية والإحلالية وإنكاره الحق الفلسطيني، ما يجعل الاتفاق والتحالف معه غطاءً سياسيا لهذه الممارسات العدوانية، وطعنا في شرعية النضال الفلسطيني من أجل التحرّر والاستقلال.
استغلّ الكيان الصهيوني مأزق هذه الأنظمة الذي ترتب على فشل رهانها على حماية مستعارة ومشتراة بالبترودولار والاستثمارات الضخمة في الولايات المتحدة بوضع مقدّرات هذه الأنظمة في خدمة مشاريعها وشركاتها، وزاد في تعميق هواجسها ومخاوفها من الخطط والبرامج الإيرانية؛ وعزف على وتر الهواجس والمخاوف المشتركة من العدوانية الإيرانية، وقدّم عينة عن قدراته في عرقلة خطط النظام الإيراني وبرامجه، اختراق الأمن الإيراني بقتل علماء إيرانيين في مجال الذرّة وسرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني، وتنفيذ هجمات سيبرانية دمّرت منشآت نووية وعسكرية تقليدية، وملاحقة الانتشار الإيراني على الأراضي السورية، لإعطاء انطباع قوي بشأن جدوى التحالف معه، والركون إلى قدراته الردعية، وتسليم القيادة والتخطيط له.
إعادة النظر في التصوّرات والخطط والبرامج جزء من الإدارة الناجحة للمصالح وحمايتها، وهذه الإعادة واجبة وضرورية في حال حصول تحوّلات في توازن القوى الإقليمي والدولي تؤثر على هذه المصالح، الأمن والاستقرار بشكل رئيس، أو تهدّدها، لكن هذا لا يجعل من التصورات والخطط والبرامج الجديدة صحيحة بالضرورة، كما هو حال تصوّرات وخطط وبرامج الأنظمة الخليجية التي اندفعت نحو التحالف مع الكيان الصهيوني، ووقعت معه اتفاقيات أبراهام. الواقع أن بعض هذه الأنظمة لم يكتف بالتطبيع والتحالف، بل ذهب بعيدا في تبنّي رؤى الكيان وتصوّراته الاستراتيجية والانخراط معه في علاقات أمنية وعلمية واقتصادية وتجارية ومشاريع بنى تحتية بالمليارات، فهذه الخطط والبرامج تفتقر إلى أسس منطقية؛ إذ لا يمكن أن يكون التحالف مع الكيان الصهيوني، صاحب التوجه الاستعماري التوسعي، خيارا منطقيا ومعقولا، فتحالفه مع هذه الأنظمة وظيفي يسعى، من خلاله، إلى اختراق جدار الرفض الشعبي العربي لكيانه، عبر تمثيله دور القوة الحامية لأمن هذه الأنظمة واستقرارها، لو كانت نيته صافية وتوجهه إلى التحالف صادقا، وحرصه على أمن المنطقة واستقراره أكيدا لبدأ بقبول حلّ الدولتين وأعطى الفلسطينيين حقوقهم المشروعة كما حدّدتها قرارات الشرعية الدولية، لكنه يراوغ ويريد من المناخ الذي يشيعه التحالف أن يلغي الحق الفلسطيني، ويهيل التراب على نضال شعبٍ امتد عقودا، قدّم فيه الشهداء، ودفع أثمانا باهظة في حياته وعيشه واستقراره، فالتصورات والخطط والبرامج الجديدة بحاجة إلى دراستها والتدقيق في بنودها وجدواها لاكتشاف مدى منطقيّتها ودقتها.
وقد زاد الطين بلة تبرّع مثقفين وكتاب للدفاع عن هذه التصورات والخطط والبرامج وتزيينها وترويجها، مثل فواز جرجس الذي وصف التحرّك نحو تحالف إقليمي في مقالته “هل تشرق شمس الشرق الأوسط من جديد؟”، في موقع قنطرة يوم 15/10/2021، بـ”إعادة ضبط سياساتها الخارجية واستعادة العلاقات مع جيران مُبعَدين”، ورأى فيها إمكانية “نزع فتيل الخصومات الإقليمية”، وبرّر ما يحصل بقوله “ليس من المستغرب في مثل هذه الظروف أن يسجّل الحوار الإقليمي والدبلوماسية عودة قوية. ويدرك أغلب الحكام الحاليين أن أمن النظام يعتمد على تلبية احتياجات السكان أكثر من اعتماده على التحريض الطائفي وكراهية “الآخر”، قول فيه رياءٌ كثير، إذ لو كان أغلب الحكام الحاليين يدركون أن أمن النظام يعتمد على تلبية احتياجات السكان أكثر من اعتماده على التحريض الطائفي وكراهية “الآخر”، كما يقول، لكانوا غيّروا مقارباتهم للملفات الداخلية، واحترموا المواطن، وأقرّوا بحقه في الاعتراض والاختلاف في الرأي مع سياساتهم. نموذج آخر لترويج التوجه الجديد، جسّدته مقالة إنجي مجدي “هل تنجح دول الخليج في إعادة صياغة الشرق الأوسط؟”، في “إندبندنت عربية” (16/4/2022)، طغت المراوغة على المقالة، عبر عرض ما قيل عن التحرّك في مقالات لكتاب آخرين، والاكتفاء بعرض ما قاله مؤيدون للتحرّك فقط، عرضت لمقالة بحثية نشرتها مجلة “معهد النشر الرقمي” في بازل في سويسرا، كتبها حسين أبو بكر ونير بومس بعنوان “العروبة؟ النضال من أجل نموذج جديد في الشرق الأوسط”، وتشير إلى محور جديد صاعد في المنطقة أطلق عليه “محور النهضة”، وهو المعسكر الذي يتبنّى التحديث، ويعدّ السياسة العرقية والطائفية تهديداً وجودياً. ففي مواجهة “محور المقاومة” الذي تقوده عناصر متشدّدة من كل من الشيعة والسنة، يأتي “محور التغيير/ النهضة” الجديد برؤيةٍ بديلةٍ تسعى إلى تغيير وجه الشرق الأوسط، وتمثله مجموعة من الجهات الفاعلة، بقيادة دول في الخليج تعتبر التشدّد تهديداً وجودياً، وتقدّم رؤية بديلة، تسعى إلى تغيير وجه الشرق الأوسط. واعتبرا أن اتفاقيات أبراهام، الموقعة في سبتمبر/ أيلول 2020، ساعدت في إلقاء الضوء على ذلك الخطاب الجديد الذي يسعى إلى إعادة تعريف المنطقة، بإسقاط صفة العروبة عنه وتحويله إلى مشاع عبر “خلجنته”، أي طبعه ببصمة الأنظمة الخليجية المذكورة. أصبح من الواضح أنها، نظرة التغيير، شكّلت معسكراً جديداً يتحدّى ويغير السياسة العربية والشرق أوسطية. وفق كاتبي المقالة، المدن الخليجية الجديدة والحديثة “الكوزموبوليتانية” أصبحت المقرّ الحالي للعصر الذهبي، إنها ليست مراكز حضرية منتظمة، لكنها جوهر تجربة تسعى إلى بناء هوية وطنية عالمية. اليوم، تتابع المقالة، يدرك عدد متزايد من العرب أن هناك حاجة عاجلة للتحوّل بعيداً عن سياسات المقاومة.
وفي هذا الصدد، تعلق الصحافية العارضة المقالة بالتفاتها إلى إعادة تشكيل “الأجندة العربية” بداية لتفكيك تلك القديمة، ما يقوّض الأيديولوجية المبني عليها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وحركة حماس وتنظيم الإخوان المسلمين، أو ما يطلق عليهم “محور المقاومة”. من دون تلميح أو إشارة إلى الحيثيات التي استدعت المقاومة، وبرّرت نهجها المتمثل في المظلوميات، وأولها مظلومية القرن العشرين، المظلومية الفلسطينية، وأنه ما لم تحلّ هذه المظلوميات، ستبقى المنطقة عرضة لهزّات عنيفة، ويبقى التوتر وعدم الاستقرار قائما، وهذا يفتح الباب للتشدّدين، القومي والديني. اللافت أن هذه التصوّرات لا تقارب التشدّد والتطرّف الصهيونيين وزحف المستوطنين، المدعوم من سلطات الكيان الغاصب، على الأراضي الفلسطينية وانتهاكهم حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والسيادة الوطنية.
عينة ثالثة لا تعارض التوجه الجديد، ولكنها تدفعه باتجاه معين، سعياً وراء تعزيز الدور المصري في التشكيل الجديد، طرحه السفير المصري السابق، رمزي عز الدين رمزي، في مقالته “من أجل نظام أمني شرق أوسطي يحفظ المصالح العربية”، في صحيفة الشرق الأوسط (17/4/2022)، ميز فيها بين مجموعتين لنظم الأمن الإقليمي الأولى شاملة وتعاونية، بمعنى أنها تشمل جميع الدول الإقليمية، وتتعامل مع المسائل العسكرية والاقتصادية والإنسانية، كما هو الوضع بالنسبة لـ “منظمة الأمن والتعاون” في أوروبا، و”آسيان” في جنوب شرقي آسيا، والثانية تأتي في شكل ترتيب سياسي عسكري، أي حلف عسكري، مثل “الناتو”، يهدف إلى مواجهة خصوم محتملين. ويختار المجموعة الأولى “مصلحة العرب هي في إقامة نظام أمني شامل مبني على التعاون المشترك، يتضمّن آلية لحل النزاعات، تضمن استقرار المنطقة في الأمد الطويل”، لأنها قائمة على توازن المصالح ولا تسمح بهيمنة طرف على الآخرين.
ي الختام، لا يمكن القبول بتشكيل هيكل أمني إقليمي على حساب المصالح الوطنية. لذا لا بد من وضع محدّدات ومراحل لقيامه، بحيث يبدأ بتشكيل هيكل أمني عربي يتلوه الولوج إلى تشكيل هيكل أمني لمنطقة الشرق الأوسط مع دول الجوار الإقليمي باستثناء إسرائيل، كي نضمن وزنا ودورا للدول العربية في هذا التشكيل، وربط بنود نظامه الداخلي بتحقيق المصالح العربية، وأولها حق الفلسطينيين في دولة مستقلة كاملة السيادة، وربط إشراك إسرائيل في الهيكل العتيد بموافقتها على قيام دولة فلسطينية على حدود 1967.
المصدر: العربي الجديد