يختلف السوريون عن الأوكرانيين، والقضية السورية عن الأوكرانية في كل شيء تقريباً، ويشتركان في مسألة واحدة هي الأهم، تتمثل بتَعَرُضهِما لعدوان بوتين، والجرائم التي ارتكبها في البلدين. صحيح أن نقطة التشابه هذه كبيرة لدرجة تجعل المقارنة عملية مغرية، إلا أن كثيرين جعلوا وجه المقارنة ينحصر بالمعايير المزدوجة (double standards) للغرب في وقوفه ودعمه للأوكرانيين على كل المستويات، وإهماله لقضية السوريين ومظلومياتهم. وراء تلك الازدواجية في المعايير آلة تشويهية ظالمة للسوريين وقضيتهم ضاعفت وجعهم، وأسهمت باستطالة مأساتهم.
لقد تعرضت ثورة السوريين لتشويه ليس له مثيل في تاريخ الثورات والانتفاضات. لقد كان الوصف الذي أُلصِقَ في ذهن العالم عن ثورة السوريين بأنها “حرب أهلية”؛ بينما وُصِف ما يفعله الأوكرانيون مقاومة احتلال. قيل عن الأوكرانيين بأنهم “طلاب حرية”، والتصقت بالسوريين أوصاف “المتطرفين والإرهابيين والداعشيين” بإغفال متَعَمَّد لمشاركة منظومة الاستبداد وإيران في صناعة الداعشية والإرهاب. لقد كان أخف توصيف للثائرين على الظلم والفساد والاستبداد بأنهم “إسلامويون” يريدون سحق الأقليات، والقضاء على “حكومة شرعية”.
المفارقة الأهم في القضيتين تكمن بطبيعة الصراع القائم؛ فبينما يواجه السوريون سلطةً مستبدةً فاسدةً، قمعت حراكهم السلمي بالحديد والنار وإرهاب الدولة، يواجه الأوكرانيون غازياً يريد تدمير بلدهم إن لم يحتله. وبينما يقاوم السوريون سلطة أخذت الدولة رهينة، وحولتها إلى ملكية خاصة بجيشها وحكومتها واقتصادها و”قوانينها” المفصلة على قياس استبدادها بمهمة قمعية لكل مَن تسوّل له نفسه بالاعتراض؛ يقاوم الأوكرانيون ومعهم رئيسهم وجيشهم اعتداءً خارجياً يهدد مصيرهم وسيادة بلدهم.
يكفي السوريين أن رئيس أوكرانيا وجيشها وشعبها يواجهون الاحتلال الروسي يداً بيد؛ بينما رئيس سوريا وجيشها يواجهون شعب سوريا يداً بيد مدعومين من الاحتلال الروسي إياه. يكفي أن “حماة ديار” السوريين هم مَن يقتلونهم، بينما حماة ديار الأوكرانيين يواجهون الغازي لبلدهم ويحمون شعبهم. وبينما رئيس أوكرانيا يقاوم القتلة، إلا أن نظيره “السوري” هو مَن جَلَبَ القتلة.
حقيقة الأمر أنه لو تعرض السوريون لغزو دون وجود هذه السلطة المستبدة، لتمكّنوا من تلقين الغازي دروساً ما رآها بوتين في أوكرانيا؛ وشواهد التاريخ موجودة. فمع كل الاحترام والتقدير لصمود ومقاومة وشجاعة الشعب الأوكراني، إلا أن شعب سوريا قاوم أكثر من غزو، وتحمَّل ما لا تحتمله الجبال.
إذا كانت الدول التي تحيط بأوكرانيا- باستثناء روسيا- شبه محايدة أو صديقة لأوكرانيا؛ يكفي سوريا أن يكون الكيان الصهيوني في جوارها. وإذا كان محيط أوكرانيا يريد لها الخير والسلامة، فيكفي أن أحد أهداف إسرائيل تدمير سوريا، وخاصة بخسارتها منظومة أراحتها لعقود من الزمن.
هذا في الجيرة القريبة؛ أما دولياً، فالعالم، الذي استنفر من أجل أوكرانيا ويعمل على خنق موسكو، فإنه قد باع السوريين الكثير من الكلام والشفقة. يكفي الأوكرانيين أنهم لم يُبتلوا بملالي طهران وميليشيات حسن نصر الله ليمارسوا عليهم المقاومة والممانعة والتشيّع والمخدرات. يكفي الأوكران أن حماة ديارهم فعلاً يسعون لحمايتهم؛ أما “حماة ديار” السوريين فكانوا الأداة التي قتلتهم وشردتهم ببراميلها وبالكيماوي.
إذا كان هناك من مقارنة جوهرية مؤثرة في حاضر كوكبنا ومستقبله فهي تذكير هذا العالم بأن سوريا المكان الذي نتحدث عنه هو مهد حضارات هذا العالم ومنزل دياناته ودرة حزامه الحي دائم البقاء إنسانياً. الخاسر من موقف التقصير ليس فقط السوريون الذين دفعوا الفاتورة الأصعب في وجه سلطتهم المستبدة التي استجلبت احتلال بوتين وإيران لسوريا، بل هذا العالم ذاته الذي يغفل عن قضية تتموّت تحت ناظره لتعود وتنفجر وتغطي بدمائها ورمادها وجه كل غافل أو متآمر أو رمادي.
كان وقوف العالم مع أوكرانيا أكثر تأثيراً وأعمق مصداقية، لو أنه وقف الموقف ذاته تجاه فعلة بوتين في سوريا؛ وكان سيوفر على أوكرانيا الكثير من الدماء والدمار. مازال الوقوف إلى جانب السوريين أمراً مساعداً للحد من تغوّله، ليس فقط في أوكرانيا بل في أوروبا أيضاً. هكذا أمر يخفف الانطباع السائد بأن هذا العالم الأحول كان موافقا على غزوه لبلادنا، بينما يرفض ويواجه غزوه لأوكرانيا.
صحيح أنه ثَبُتَ أن مطالب السوريين ليست بذلك التأثير على الرأي العام العالمي لتراكم أسباب تخصهم وتخصه؛ وصحيح أنه منذ فترة لا بأس بها يتقاتلون مع بعضهم البعض أكثر من مواجهتهم لمنظومة الاستبداد أو الاحتلالات المتعددة؛ ومُحِقٌ كل مَن يرى أنه لم تتوفر للثورة السورية القيادة الرشيدة الوازنة، أو الأدوات الضرورية لإنجاز مهمتها المقدسة، أو التفهم العالمي والموقف الأخلاقي المنصف لمواجهة كل ذلك المد الإجرامي الضارب بقوته، وخاصة لناحية الاحتلال الروسي لسوريا؛ والأصح من ذلك أنهم موجودون في عالم تحكمه موازين القوى وقانون القوة لا قوة القانون؛
إنهم يدفعون ثمن ازدواجية المعايير؛ إنهم فقط يذكّرون هذا العالم بأن فاتورته لن تكون أقل من تلك التي دفعها السوريون، إذا استمر بحالة انفصام الرؤية وإشاحة النظر هذه.
السوريون بعيدون عما أُلصِقَ بهم من تشويه وتجنّ من قبل منظومة الاستبداد والعالم؛ إنهم طلاب حرية، يريدون استعادة حقهم وبلدهم. إن وضعهم أصعب من وضع الأوكرانيين بعشرات المرات. إضافة إلى منظومة استبدادية إجرامية لا مثيل لها في العالم؛ إنهم يواجهون بوتين وإيران وميليشياتهم وأسلحة دمارهم الشامل، والتشرد، وإسرائيل، والفقر، والإذلال، ومصير معتقليهم. إنهم يرون إخوتهم بالدم يلوذون بالصمت أو الضعف أو التآمر عليهم؛ وأصدقاؤهم ليسوا إلا بالاسم لا بالفعل، وكثير ممن يقود قضيتهم إما عاجز أو بلا أفق أو إقصائي فاسد. وبناء على كل ذلك، لا بد أن تجتمع إرادتهم ويعيدون إطلاق ثورتهم. لقد بات السوريون يدركون أخطاءهم وأمراضهم ونقاط ضعفهم؛ ولا بد أن يكون ذلك درس لتلافي ما وقعوا به؛ والانطلاق بمشروع جديد ورؤية جديدة تعيد بلدهم إلى سكة الحياة.
المصدر: تلفزيون سوريا