إذا كنْتَ تريد الحقيقة، فابحث عن الألم

د. أحمد سامر العش

منذ بدايةِ الحربِ الروسيةِ الأوكرانية انهالت علينا أعدادٌ ضخمةٌ من المقالات والتحليلات التي تتناول مختلفَ الجوانبِ الاقتصادية والجيوسياسية والاجتماعية والاستشرافية حول العالمِ ما بعدَ هذه الحرب. وانقسم العالمُ بين مؤيدٍ للتغيير ومتصلبٍ خلفَ الديناميات التي اعتادها منذ انهيارِ الاتحاد السوفيتي. كذلك أطلت علينا بعضُ الأقلامِ العربية تُمجِّدُ بعبقرية القادةِ الذين قادوا الثوراتِ المضادةَ للربيع العربي، والذين على حدِّ قولهم أوقفوا المؤامرة التي قادها اليسارُ الليبراليُّ الأمريكيُّ بقيادة أوباما لنشر الفوضى والإسلام السياسي في المنطقة العربية! وكيف أن عبقريةَ أولئك القادةِ استفادت من الحرب الروسية الأوكرانية لخلق توازنٍ جيوإستراتيجي جديدٍ في المنطقة يضرب اتفاقَ اليسار الليبرالي الأمريكي الذي يقوده الآن جو بايدن (خليفة أوباما) مع إيران.

كذلك أتحفنا المحللون بصلابة الموقفِ الروسيِّ تارةً والموقفِ الصينيِّ تارةً وعبقريةِ أمريكا تارة أخرى! لكن وسطَ هذا الزحامِ في الأقلام المتهافتة على سوق التحليلات والتنبؤات ضاعت الحقيقة! وأصبح المتأملُ في المشهد ضائعًا في أي جانبٍ عليه أن يراهنَ على الأقل بأحاسيسه وضميره وذلك أضعفُ الإيمان!

لمعرفة جانبِ الحقِّ من الباطل، وإذا أردْتَ أن تُمَيِّزَ الوهمَ عن الحقيقة، ابحث عن الألم الحقيقي. ابحث عن ألم مهجرٍ نازحٍ فقد كلَّ شيءٍ ويعيش في خيمة، ابحث عن ألم أطفالٍ عراةٍ حفاةٍ يعملون اثني عشرةَ ساعةً يوميًّا ليأتوا بربطة خبزٍ لعائلاتهم، ابحث عن آلام المعذبين في السجون والمعتقلات، ألم أبٍ فقد أطفالَه ببرميل مُتفجِّر، ألم طفل وحيد فقد أسرتَه بالكامل بمجزرة جماعية، ألم مبتورِ أطرافٍ فقد قدميه بصاروخ روسي موجه، ألم رجل سمع بخبر وفاة أمِّه التي لم يرها منذ سنوات، ولا يستطيع الوصول لجنازتها…. تكاد الآلام لا تتوقف….

 لقد قاد كثيرٌ من القادة العربِ -الذين يتغنَّى المثقفون بعبقرياتهم -الثوراتِ المضادةَ التي أعانتِ الظالمَ على ظلمه خوفًا من أن يفقدوا كرسيهم , ودفنوا أحلامَ كثيرٍ من الثائرين المتعطشين للحرية والكرامة , وكذلك فعلت سياساتُ بوتين وأحلامه الإمبراطورية التي تلمستِ المياهَ الدافئة عبر نهرٍ من دماء الأبرياء، كذلك صنعت براغماتيةُ اليسارِ الليبرالي الأمريكي وأضغاثُ أحلامِ المحافظين الجدد بعودة المسيح،  أما حلم فارس الكبرى والانتقام لدم الحسين فلابد أن يُروى بدماء ملايين الأبرياء الذين لا يكادون يفقهون ما القصة وما وراءها !

في عصر فُقِدَتْ فيه حتى مسكناتُ الألمِ، يمكنك معرفةُ الحقيقة جليةً واضحةً من خلال هذا الميزان. من يصنع الألمَ ومن يحاول أن يخففَه، من يكون عونًا لمسببه، ومن يقولُ كلمةَ حقٍّ في وجه صُنَّاع الألم!

لا شيءَ حقيقي في هذا الزمنِ أكثر من الألم، فانتبهوا لتمييز ألمِ الدنيا قبل أن يصيبَكم الألمُ الأبديُّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى