انقسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، في مؤتمره في عام 1903 في لندن، إلى جناحين، البلاشفة (أي الأغلبية) والمناشفة (الأقلية). اعتقد المناشفة، بزعامة مارتوف وبليخانوف، أن الاشتراكية الروسية سوف تنمو تدريجياً بشكل سلميّ، من خلال تعاون الاشتراكيين مع الأحزاب الليبرالية البورجوازية لإنجاز مرحلة الثورة الديمقراطية، بينما دعا البلاشفة، بزعامة فلاديمير إيليتش لينين، إلى دكتاتورية العمّال والفلاحين لتحقيق مهام الثورة البورجوازية (الديمقراطية)، لأن الأخيرة عاجزةٌ عن قيادة تحوّل حقيقي.
احتفظ كل من الجناحين بوحدة شكلية في الحزب، رغم أنهما كانا يعملان بسياستين مختلفتين وقيادتين متباينتين واقعيا. وفي ثورة 1905 والثورة المضادّة القيصرية التي تلتها، حدث نوعٌ من التعاون بين الفصائل البلشفية والمناشفة، وعقدا مؤتمرا للوحدة في استوكهولم في أبريل/ نيسان 1906، شارك المندوبون البلشفيون والمناشفة على الطاولة نفسها، على الرغم من اختلافهم في كل نقطة تقريبا.
في عام 1912، أصبح الانقسام أمرا واقعا لا رجوع فيه. في يناير/ كانون الثاني، عقد لينين مؤتمرا للحزب في براغ مقتصرا على المندوبين البلاشفة فقط. بناءً على طلب لينين، صوّت المندوبون للانفصال عن الاشتراكيين الديمقراطيين وتشكيل حزبٍ منفصل، تحت اسم حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وخلال عقد، احتفظ كلا الطرفين، رغم استقلالهما الفعلي، باسم واحد للحزب، وعندما انفصلا نهائيا أضاف لينين كلمة واحدة لتميز حزبه عن الحزب الآخر.
في المقابل، حين رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرييل شارون، أنه ما عاد يتّفق مع توجهات حزبه (ليكود)، استقال منه وشكّل حزبا جديدا باسم جديد تماما: كاديما (إلى الأمام)، انتقل فيه إلى موقع أكثر وسطية. وقبله، انفصل الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان عن ديغول، وأسّس حزبا جديدا باسم حزب الجمهوريين المستقلّين. وفي مصر، انشقّ مكرم عبيد عن حزب الوفد، وأسّس حزبا باسم جديد “الكتلة الوفدية”، ولم يبقِ على اسم الحزب، رغم أنه كان يُعدّ الرجل الثاني فيه بعد سعد زغلول. أما جمال عبد الناصر فقد كان ينتقل من تنظيم إلى تنظيم كما يتنقل من قهوة إلى أخرى، فبدأ بهيئة التحرير، أتبعها بالاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، وأخيرا التنظيم الطليعي، وذلك كله من دون أن يشعر بأسف على الحزب السابق.
السوريون في عمومهم ميّالون إلى التمسّك بالأسماء. في 1972، انقسم الحزب الشيوعي السوري إلى قسمين، واحد يقوده الزعيم التاريخي للحزب خالد بكداش، والآخر يقوده الشيوعي الشاب، وقتها، رياض الترك. بعدها بعام، عقد الترك مؤتمرا عاما لتياره، تحت الاسم التاريخي نفسه: المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوري، ثم عقد بكداش مؤتمره الرابع الخاص به. وصار السوريون يُلحِقون بحزب رياض الترك لاحقة “المكتب السياسي”، تمييزا له عن حزب بكداش، وظلّوا على ذلك حتى اقتنع قادة الحزب وصاروا يستخدمونها لتمييز أنفسهم. وبعد سنوات، خرج من حزب بكداش مراد يوسف، وأسّس الحزب الشيوعي السوري – منظمات القاعدة، وبعدها انشقّ يوسف الفيصل، وأبقى على الاسم بدون تغيير، فصار لدينا في وقت واحد أربعة أحزاب لها الاسم نفسه، ولا يمكن التمييز بينها سوى باللواحق أو بأسماء قادة الأحزاب، فهذا حزب بكداش وذلك حزب يوسف والثالث حزب مراد وهكذا.
وكان سبق الحزبَ الشيوعيَّ في ذلك اللغوِ حزبُ البعث العربي الاشتراكي الذي انقسم في 23 فبراير/ شباط 1966 ما بين يمين ويسار، واستبقى الطرفان اسم الحزب من دون تغيير، ولكن السوريين أسموا يمين الحزب باسم “بعث العراق” الذي كان الحزب مواليا له، تمييزا عن حزب البعث السوري، كما يسمّيه حازم صاغية في كتابه الجميل. وحين استولى حافظ الأسد في 1970 على الحزب اليساري ليلوي عنقه، خرجت منه أقليةٌ نزلت تحت الأرض، واستمرّت في العمل تحت اسم الحزب نفسه، ولكن السوريين أسموها تسهيلا للفهم “جماعة 23 شباط” أو “جماعة صلاح جديد”، قبل أن تضيف الجماعة كلمة “ديمقراطي”، ليصبح اسم حزبهم حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي.
وينطبق الحال على معظم الأحزاب السياسية السورية: فلدينا حزبان (أو ثلاثة) باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، أحدهما في المعارضة، وحزبان باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين، وكلاهما في السلطة، وانقسم الحزب السوري القومي مرّات هي من الكثرة بحيث فقدت القدرة على تذكّرها.
ولعلّ السوريين تعلّموا ذلك من إخوتهم الفلسطينيين، فحين انشقّ أحمد جبريل عن الدكتور جورج حبش، أبقى اسم منظمته “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، وألحق بها كلمتي “القيادة العامة”. وحين انشقّ نايف حواتمة، أسّس “الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين” قبل أن يسقط كلمة الشعبية من الاسم. وحين انشقّ أبو نضال عن الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات، أبقى اسم حركة فتح، وألحق به عبارة “المجلس الثوري”، وكذلك فعل أبو موسى وأبو صالح وأبو خالد العملة، حين أسّسوا “فتح الانتفاضة”.
جديد مظاهر ولع السوريين بالانقسام ما جرى في جسم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أوائل إبريل/ نيسان الجاري، ففي الثاني منه، عصفت عاصفة بائتلاف المعارضة السورية، من دون أن تكون دوافعه ونتائجه واضحة المعالم، فقد طرد أعضاء ومكوّنات من “الائتلاف”، وأعيد تشكيل النظام الداخلي الجديد، وبدأ البحث عن مكوّنات جديدة لإضافتها إلى “الائتلاف”. وجرى ذلك كلّه باسم الإصلاح الذي بدأ الحديث عنه منذ تسلم الشيخ سالم المسلط رئاسة “الائتلاف” العام الماضي.
لم يسكت بعض المفصولين، ولم ينتظروا طويلاً قبل تشكيل جسم جديد يحمل الاسم نفسه، مع إضافة عبارة “تيار الإصلاح”، يسعى إلى أن ينازع الائتلاف السوري “الشرعية الثورية” والسياسية للمعارضة. وشرع هذا الكيان بالتواصل مع ثلاثة أطراف: الشخصيات المعارضة التي مرّت على الائتلاف وتركته لأسباب متباينة؛ الشارع السوري في الداخل؛ الحكومات الغربية الصديقة والداعمة للائتلاف.
السوريون عاطفيون جداً، ولذلك تراهم متمسكين بأسمالهم البالية لا يريدون تغييرها أو تبديلها، وهم لذلك متمسّكون شكلا بتقاليدهم وعاداتهم، ومن ذلك تمسّكهم بأسماء آبائهم وإعطائها لأولادهم وبأسماء أحزابهم وتشكيلاتهم السياسية. وهم إلى ذلك يَعتبرون الحزب السياسي هدفا في حدّ ذاته، وليس، كما يراه الناس الآخرون، أداةً لهدف آخر يريدون الوصول إليه، فإن تغيّر هذا الهدف غيّروا الأداة للوصول إلى الغاية البديلة. وفوق ذلك كلّه، يحسب القائد السوري أنه والحزب شيء واحد، وهو في ذلك شديد الشبه بالديكتاتور الذي يعتقد أنه والبلد كيانٌ واحد، وأن زواله هو زوال للبلاد. ولذلك تراه مستعدّا لحرق البلاد من دون أن يتخلّى عنها. وكذا حال الزعيم الذي يتماهى مع حزبه، فلا يتصوّر أن الحزب قادر على الاستمرار بدونه، ولذلك تراه مصرّا على حمل الاسم معه أنّى ذهب وأيّان توجّه، حتى ولو غيّر وجهته، وسار في عكس الطريق الذي كان عليه.
بعبارة واحدة، السوريون كأفراد موهوبون، جلّهم، ومنتجون نشيطون ومبدعون، ولكنهم كجماعات مولعون بالفشل. ولذلك تراهم ماهرين في تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتحويل نصرهم هزيمةً وعدم الاتفاق على ما يجمع هذه الأمّة.
المصدر: العربي الجديد