مازالت الأمة العربية تنتقل من إخفاق إلى إخفاق، إذ نعيش اللحظة التي تلتقي فيها النهاية مع البداية، والتي تمتد جذورها في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو تاريخ استبعاد الأمة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة العالمية.
لقد بات علينا، خاصة بعد تعثر ربيع الثورات العربية وبعد محاولة فرض الحل الصهيوني الاستعماري للقضية الفلسطينية، أن نعترف لا بنهاية العروبة بل بنهاية موجة من موجاتها، ونبني عروبة جديدة تقوم على حقائق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بعيدة عن المزايدات. ذلك لأنّ التغيّرات العالمية الجديدة وتداعياتها تتطلب قدراً كبيراً من العمق في المراجعة ونقد الذات وإعادة الصياغة الفكرية والسياسية للقضايا العربية، التي تمثل مسائل جوهرية عديدة تتداخل فيها مهمات التحديث الفكري والسياسي مع مهمات النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بتجسيد وحدة المصير العربي كمنطلق للنهوض الحضاري، وهو ما يفترض مهمات إنجاز أشكال تضامنية عربية عديدة، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية يضمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في إقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، وممارسة الديمقراطية كمنهج للتعامل السياسي على صعيد الدولة والمجتمع.
وفي الواقع، يصعب على المرء أن يحدد مفهوماً معاصراً للعروبة بدقة، ولكن يمكنه أن يحدد الشروط التي يجب توافرها من أجل التعاطي المجدي مع معطيات الحاضر، بما يمهد لتجديد العروبة. ولكن – قبل ذلك – علينا أن نواجه سؤالاً رئيسياً: هل نريد أن نعيش في هذا العصر، أم نبقى سادرين في عصور سابقة؟
قاعدة التلاقي
إنّ العروبة هي عودة إلى الوعي بالذات، إنها الدعوة لا السلطة، إنها الهوية لا الحاكم. فقد أساء إلى العروبة بعض دعاتها، وألحقت بها الأذى حكومات حملت شعاراتها، لكنّ الفكرة هي قاعدة التلاقي، وإنكارها نقطة الافتراق بين شعوبنا. إنها رابطة تاريخية تضم وتجمع وتوحد أغلب المجموعة السكانية القاطنة في هذه البقعة من العالم، اعتماداً على اللغة والتاريخ والخصائص النفسية والمصالح المشتركة، وهي حركة تحرر وطني وتغيير حضاري، تهدف إلى توحيد الشعوب والطاقات، وإلى تحرير الأرض والإنسان، وإلى بناء صيغة جديدة لعلاقات داخلية وخارجية تعتمد الحرية والمساواة والعدل، وتساهم في إقامة عالم أفضل.
وفي الواقع، لا يمكن التحدث عن مفهوم معاصر للعروبة إلا إذا اشترط عليه أن يشهد تحولاً كيفياً يمتلك من خلاله بعض السمات، ويحيط نفسه بمجموعة قرائن تجعل العروبة مقبولة من جماهير العرب ونخبها، بما عليها أن تشكل في طياتها من مخزون يحوي قدراً من التحرر والديمقراطية والتنوع. فبين عروبة الخمسينيات من القرن العشرين وعروبة اليوم سبعة عقود استُهلكت خلالها القيم الشمولية، وبرزت فيه الديمقراطية مفهوماً يستعاض به عن العصبية الموحِّدة والمكوِّنة للدول والمجتمعات، وأظهرت التعددية قدرتها على أن تكون فعل انسجام ودافعاً محركاً للوحدة الوطنية تحت رعاية دولة الحق والقانون والمؤسسات، ولم يعد الصراع مع العدو الصهيوني يشكل وحده دافعاً كافياً لإرادة التوحد، بل باتت شروط التوحد أكثر تعقيداً.
فعلى العروبة اليوم أن تفعّل عملية التثاقف الحضاري وأن تميّز بين القيم الغربية كجزء من القيم الإنسانية العامة وبين التدخل الغربي كمشروع استعمار وسيطرة. وأن تكون مشروعاً تنموياً اقتصادياً واجتماعياً ومشروعاً علمياً تكنولوجياً، ومشروع حرية في مجالات الإعلام والثقافة والفكر، وعليها حماية واحتضان المجتمع المدني.
إنّ الإشكاليات السابقة تفرض علينا أن نعيد طرح قضايا العروبة، وخاصة الوحدة والتجزئة، على نحو جديد، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الدولة الوطنية الحديثة هي جوهر تلك القضايا. ومن هنا تبدو أهمية تجديد الخطاب النهضوي العربي على قاعدة: أنّ الدولة الوطنية/القطرية الديمقراطية تشكل أساس دولة الأمة الحديثة.
تراجع الأداء العربي
لقد أثرت عطالة النظام الإقليمي العربي سلباً على تفعيل العمل العربي المشترك، بل أدى التراجع في الأداء العربي إلى صدور دعوات لإنهاء جامعة الدول العربية أو للتشكيك العميق في فائدتها وفائدة المؤسسات العربية الأخرى.
إنّ إعادة صياغة العروبة قد تنعكس إيجابياً على العرب فيما إذا اتجهت نحو: دمقرطة الحياة السياسية والاجتماعية العربية في كل قطر عربي، والعمل المؤسساتي من أجل نجاح الإصلاح في واقع اقتصادي واجتماعي عربي متأخر، وإعادة صياغة العمل العربي المشترك وفقاً لمنظومات عربية وظيفية مرنة: أمنية واقتصادية وثقافية وسياسية، والتوازن في العلاقات مع الأطراف الدولية المختلفة.
الارتقاء للتحديات
وهكذا، لسنا بحاجة لشعارات من أجل مواجهة التحديات الكبيرة المطروحة، بل الارتقاء إلى مستوى التحديات، بما يخدم مصالح الأمة ويضمن حقوقها الأساسية في السيادة والحرية والاستقلال والتقدم. ولكي تتحول العروبة من مشروع تعاطف قومي، يعبّر كل طرف فيه عن إرادة توحده ووحدة همومه وانشغالاته مع الآخر، إلى مشروع عملي يؤمل منه أن يتحول إلى واقع متحقق في المستقبل، ليس على الأقطار العربية المختلفة إلا أن تصلح أوضاعها وتنمّي قدراتها المادية والبشرية، لكي تشكل كل منها نموذجاً يحتذى للآخر.
إنّ مشروع النهضة العربية كان ولا يزال في حاجة إلى فكر الأنوار والحداثة، وكذلك استيعاب التحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على الساحتين الإقليمية والدولية. مما يستوجب الاعتراف بالخصوصيات القطرية، في إطار التنوع ضمن إطار الرابطة العربية، مع إمكانية تحويل هذا التنوع إلى عنصر غنى للثوابت الضرورية لتطور الرابطة العربية. ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فالأمر يستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة.
إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم التحررية، بما يؤهلهم لـ ” التكيّف الإيجابي ” مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضيات التحوّلات العميقة للعلاقات الدولية، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أن يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي، لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل.
لعلنا بذلك نفتح من جديد باب التاريخ وندق أبواب المستقبل وننهض لإطلاق خطاب عربي عصري، عناوينه في توجهاته ومضامينه وفي تجديدنا له، يحتمل دائماً التأويل والتعديل لصالح شعوبنا العربية. إنها إعادة قراءة واجبة، ليس فقط في تجديد هذا الخطاب وإنما في تجديد التفكير العربي المدعو إلى خوض مغامرة المستقبل بأدوات جديدة وأفق مفتوح وحوار دائم على المصالح والأهداف والممكن والمستحيل.
لم تكن مآلات ربيع الثورات العربية، كما لم تكن الضمانات الأميركية لإسرائيل ببقاء الكتل الاستيطانية داخل الضفة الغربية بما يستحيل معه قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولم يكن إخفاقنا في التنمية الإنسانية في مجالات الحرية ودور المرأة ومجتمع المعرفة. لم يكن كل ذلك بداية لأزماتنا ولا نهاية لمصائبنا إنما هو مرآة مكبرة لتقاعسنا عن إصلاح أنفسنا، ولعجزنا عن تشكيل أفضل لمجتمعاتنا، ولتكاسلنا في عملية الذود عن موقعنا في العالم. إنها مرآة لواقعنا، وصورة عن اللامبالاة بضرورة التغيير، وعن غياب التضامن العربي الفعلي والمجدي، وعن التلكؤ في دخول العصر.