السودان بين انقلابين: انهيار اقتصادي وتدهور أمني يدفع العسكر للتسول وبيع ما تبقى من أصول البلاد

إبراهيم درويش

في آخر تصريحات للجنرال عبد الفتاح البرهان، الرئيس الفعلي للسودان عبر فيها عن خطوات لتخفيف التوتر بعد ستة أشهر من محاولته الانقلابية على عملية التحول الديمقراطي في البلاد. وقال «بدأنا مرحلة صعبة وعلينا تقديم تنازلات من أجل البلد» مشيراً في تجمع رمضاني إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في السودان. وقال «نحن جاهزون لتقديم ما يمكننا تقديمه لخلق مناخ لحوار يقود إلى حلول». وقام البرهان وقادة الجيش في 25 تشرين الأول/أكتوبر بانقلاب عسكري على عملية التحول الديمقراطي ونقل السلطة بعد الإطاحة بعمر البشير في نيسان/ابريل 2019 وهو ما أدى لعودة حركة الاحتجاج إلى الشارع مطالبة مرة أخرى برحيل العسكر وتفكيك البنية السابقة للحكم التي يعتبر البرهان وغيره من القادة في السودان اليوم استمرارا لها. ومنذ ذلك قتل في التظاهرات التي يقوم بها المحتجون على النظام الحالي 94 شخصا. واتهم العسكر الجانب المدني باحتكار السلطة، وظل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يمثل عملية التحول حتى وضعه تحت الإقامة الجبرية بعد الانقلاب ثم افرج عنه وعاد إلى ترؤوس الحكومة قبل استقالته من منصبه.

وفي تصريحاته الأخيرة قال البرهان إنه التقى مع النائب العام ورئيس القضاء لتسريع عملية الإفراج عن المعتقلين ومن بينهم قادة مدنيون، رغم نفيه وجود «معتقلين سياسيين». وقال إنه ناقش إمكانية تخفيف حالة الطوارئ، وهو مطلب دولي لبناء الثقة. وتأتي تصريحات البرهان وسط حديثه عن تنازلات قدمتها بعض الجماعات السياسية، مؤكدا على عدم احتكار طرف واحد العملية السياسية. وقال البرهان سابقا إن الجيش لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة.

مأزق العسكر

ولا نعرف إن كانت تصريحات البرهان تعبيرا عن مأزق الجيش الذي وجد نفسه وسط أزمة اقتصادية وتدهور أمني في دارفور وضغوط من الأطراف الإقليمية التي دعمت وسوقت للبرهان وجماعته في السودان بعد خروج البشير من معادلة السلطة في البلاد ثم الانقلاب الثاني الذي قاده البشير. ولوحظ في الفترة الأخيرة ان مبعوثي النظام الحالي قاموا بزيارات لموسكو وأبو ظبي بحثا عن دعم جديد.

وكانت تداعيات الأزمة التي تسبب بها الغزو الروسي لأوكرانيا وأثرها على سلاسل التوريد واضحة في رمضان هذا العام في السودان. وقرأنا في الأسابيع الماضية عن تأثر دول الشرق الأوسط بالحرب نظرا لاعتمادها على الحبوب المستوردة من روسيا وأوكرانيا اللتان تعتبران سلة غذاء للعالم، واستقبل السودانيون رمضان الذي بدأ في الثاني من شهر نيسان/إبريل بنوع من القلق ومخاوف من انفجار مقبل، ذلك أن البلد يعيش على حد السكين. فالتحول الديمقراطي الذي فتحته الثورة ضد البشير يقف في طريقه الجيش والقوى الأمنية التي تزعم أنها تحاول «إنقاذ» البلد من القادة المدنيين. ولكن المؤسسة الحاكمة التي تتمسك بالسلطة تقوم باستنفاد ما تبقى من مصادر أو حياة في البلد. فبلغة الأرقام بات السودان بعد تجربة انقلابين محطما. ووصل التضخم أعلى مستوياته، 250 في المئة أو أعلى وفقدت العملة السودانية معظم قيمتها أمام الدولار. وزادت أسعار المواد الأساسية المستوردة، الحبوب والبترول، بنسبة 30 في المئة، فسعر رغيف الخبز الذي كان جنيهين سودانيين عندما تولى العسكر السلطة قبل عامين أصبح يكلف الآن خمسين جنيها. وهذا راجع إلى زيادة أسعار القمح، حيث يستورد السودان نسبة 80 في المئة من قمحه من روسيا وأوكرانيا. وفي الشهر الماضي كان سعر القمح المحلي 550 دولارا للطن، أي بزيادة 180 في المئة عن العام السابق. ولو لم يتغير الوضع فستواجه نسبة 40 في المئة حسب توقعات برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة «غيابا حادا للأمن الغذائي» في نهاية العام الحالي. وبالحسبة بناء على عدد السكان، فهناك 9 ملايين سوداني من 40 مليون نسمة يعيشون فقرا حادا، مما سيؤدي بالدول المانحة للتفكير بطوارئ إنسانية في المناطق الحضرية من البلاد.

أوقات سيئة

وتردي الأوضاع الاقتصادية وغياب المواد الأساسية وخاصة في شهر رمضان هو بمثابة وصفة للاضطرابات بين الشعب المحبط والغاضب والنخبة العسكرية القاسية التي عاملته بطريقة سيئة، حسب مجلة «إيكونوميست» (9/4/2022). وقالت إن قلة من السودانيين يتذكرون أوضاعا سيئة مرت على البلاد كالتي يعيشونها. وترى المجلة ان البرهان يتحمل مسؤولية هذه الفوضى عندما قاد انقلابا في العام الماضي. وتضيف أن الوضع في السودان لم يتغير حقيقة، فعندما أيقن الجيش أنه سينهار في نيسان/ابريل 2019، قام بالاستيلاء على السلطة للسيطرة على السياسة والاقتصاد. إلا ان خطط الجيش لمرحلة ما بعد البشير لم تسر حسب ما يريد، فقد أجبرت التظاهرات والضغط الدولي الجنرالات على عقد اتفاق مع قادة الاحتجاج لنقل السلطة إلى المدنيين في 2021 وقبل انتخابات كان من المتوقع إجراؤها هذا العام. وتعهد المانحون الغربيون والبنوك المتعددة بمليارات الدولارات كمساعدة لتخفيف الدين ودعم عملية التحول الديمقراطي. إلا أن الانقلاب الثاني أوقف معظم هذا الدعم أو أخره الأمريكيون والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي أوقف تدفق 1.4 مليار دولار من الدعم والمساعدة.

بيع أصول البلد

ولم يعد لدى المجلس العسكري المال، ما دفعه لقطع الدعم عن المواد الأساسية، القمح والوقود تحديداً. واتخذ القرار في غياب الدعم الغربي أو شبكات أمان لتخفيف الصدمة على فقراء البلد. وهم والحالة هذه غاضبون ومن المتوقع تظاهرات جديدة. ويبحث الجنرالات عن المال بطريقة يائسة حتى تظل الحكومة فاعلة. ومن أجل سد الثغرات في الميزانية، زادوا من الضرائب على الأعمال التجارية. لكنه إجراء غير عملي لأن قلة من الأعمال التجارية في السودان تدفع الضريبة. وفي محاولة للبحث عن مصادر أخرى لجأ الجنرالات كما تقول المجلة للتسول. وهم يبيعون ما تبقى من أصول للبلد. وزار البرهان الإمارات العربية المتحدة للحصول على وعود بدعم البنوك السودانية والاستثمار في «مشاريع تنمية» لم تحدد. وربما كان من بين هذه المشاريع استثمار شركة موانئ دبي العالمية التي ظلت عينها خلال السنوات الماضية على محطة الحاويات الرئيسية في ميناء بورتسودان. إلا أن العمال في المرفأ يعارضون أي عملية خصخصة، خوفا من خسارتهم أعمالهم. وهناك روسيا الطامحة منذ زمن لإقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر كما أنها من المشترين المهمين للذهب السوداني. ومن المحتمل أنه تم طرح الموضوعين أثناء زيارة نائب البرهان محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) موسكو عشية الغزو الروسي لأوكرانيا. ويقود دقلو الميليشيا العسكرية «قوات الدعم السريع» والتي تدير معظم مناجم الذهب غير الشرعية. ويعتقد أنه صلة الوصل مع شركة المرتزقة الروسية «فاغنر» التي يتهمها الدبلوماسيون الغربيون بالمشاركة في مناجم الذهب غير المشروعة، وهو اتهام تنفيه الحكومة السودانية. ولم يكن توقيت زيارة دقلو موسكو مصادفة، فروسيا بحاجة لمزيد من الذهب السوداني كي تقوي اقتصادها ضد العقوبات الغربية. ويمثل الذهب نسبة 40 في المئة من الصادرات السودانية ويتم تهريبه عبر البلاد من خلال الإمارات العربية المتحدة ثم إلى روسيا. وهذا يساعد على فهم السبب الذي دفع فيه الإمارات والسودان للامتناع عن التصويت في قرار يشجب الغزو الروسي لأوكرانيا في الأمم المتحدة. وتعتقد المجلة أن هذه «الصفقات اليائسة» لن تشتري الاستقرار للنظام. مشيرة إلى أن علاقة دقلو مع موسكو باتت مصدر توتر بينه والبرهان. ويعتقد المحتجون أن روسيا دعمت الانقلاب، ومرتزقة فاغنر، شركة التعهدات الأمنية هم جزء من خطة بوتين التوسع في أفريقيا، حسب تقارير غربية، كما في مجلة «فورين بوليسي» عن التوسع الروسي في مالي.

قلق إقليمي

وربما كانت تصريحات البرهان التي أشرنا إليها بالبداية جزءا من البحث عن الدعم، فكما يقول كاميرون هدسون الخبير بشؤون السودان بالمجلس الأطلنطي في مقال نشره على موقع المجلس (12/4/2022) فإن المدافعين عن السودان يحاولون البحث عن سبب يدفع باستئناف برامج تخفيف الدين بطريقة تقود إلى تجنب الانهيار المالي المقبل وحدوث حالة طوارئ إنسانية. إلا أنه أشار إلى عدم الليونة في موقف العسكر. فمنذ انقلاب العام الماضي شنت قوات الأمن حملات قمع ضد قادة الاحتجاج والتي شملت التغييب والاعتقال واستهداف المتظاهرين بالنار، بل وهدد البرهان مبعوث السلام الأممي بالطرد لـ «كذبه علنا» وأنه لم يقدم إيجازا لمجلس الأمن عن التقدم الذي حصل في ظل الحكم العسكري. وفي الوقت الذي لم يخاطر أي من الداعمين في الخارج بتغيير موقفه من العسكر أو التحرك ضد إرادة الشعب السوداني إلا أن الوضع ربما تغير سريعا. وتشير سلسلة من اللقاءات الأخيرة في القاهرة والرياض وأبو ظبي إلى أن أصدقاء النظام في الخرطوم يفقدون صبرهم من الإنسداد السياسي والانهيار الاقتصادي المقبل ويبحثون عن طريقة لمنع حدوث هذا وإن كانت على حساب الطموحات الديمقراطية للشعب. وبالنسبة للشركاء الذين اشتروا عقارات في الخرطوم وحصصا تجارية بأسعار أقل من سعر في السوق في الأيام الأخيرة من حكم البشير، فإن انهيار السودان سيجلب معه الكوارث على استثماراتهم. وتخشى مصر التي لا تزال تنظر للسودان دولة تابعة لها من موجات هجرة إلى الشمال، وفوضى سياسية في حدودها الجنوبية. كما أن بقاء الخرطوم في نفس الاتجاه السياسي مع القاهرة أثناء المفاوضات حول سد النهضة العظيم، وهو أكبر تحد للسياسة الخارجية المصرية، سؤال مهم. ويرى هدسون أن الوضع السياسي في السودان جاهز لعملية سيئة السمعة تجريها النخبة وتبعد البلاد عن الحافة. إلا أن هذه العملية التي تحاول اختصار الطريق لن تقود في النهاية للحكم المدني أو الديمقراطي. وانتشرت في الأسابيع الماضية الشائعات حول إمكانية رئيس الوزراء السابق، حمدوك الذي يمكنه تهدئة الأسواق المالية. فالعودة للحكم المدني وحكومة التكنوقراط تعني وضع وجوه مقبولة للنظام، إلا أن هذه لن تؤدي إلى زحزحة سيطرة العسكر على الحكم، فالنقاش المثير للقلق حول إنشاء مجلس أمن ودفاع جديد، يعني استمرار سيطرة الجيش على الحكم. ولو حدث هذا فسيقود إلى انتخابات سريعة، يتوقع أن يفوز بها الجيش وحلفاؤه السياسيون. وستكون العملية بمثابة إضفاء الشرعية على المصالح الأمنية التي لم تتغير وداعميها من الخارج. وسيكون الخاسر الأكبر في العملية هو الشعب السوداني.

ولن تقبل الحركة الديمقراطية بأي صفقة تتم هندستها من الخارج، كل هذا لا يعني عدم استعداد الجيش وحلفائه السياسيين. ولم يفت الوقت لمنع سيناريو كهذا، إلا أنه يحتاج لتركيز طويل الأمد من الولايات المتحدة وشركائها وبناء تواصل حقيقي مع الشعب السوداني. وهي بحاجة مع المجتمع الدولي تذكير نفسها بأن الثورة السودانية لم تكن فقط عن إنهاء حكم البشير وحزبه بل عن التخلص من الفساد والعنصرية والنظام الشمولي. وبدلا من مطالبة الجيش اتخاذ خطوات لبناء الثقة على المجتمع الدولي تذكير رجاله أن أيامهم باتت معدودة وأن العودة إلى وضع ما قبل الانقلاب مستحيلة. كما وتحتاج واشنطن لتغيير رسالتها المزدوجة، فهي مع المحتجين لكنها تسكت عن الانتهاكات وقتل الأبرياء. وهي بحاجة إلى الاستماع لمطالب الشعب وتبني بياناتهم وليس الاستمرار في الكلام المعاد المكرر حول ضرورة العودة إلى العملية الانتقالية واتفاق جوبا. مع أن الشارع يطالب بطريقة جديدة. وربما حان الوقت لكي توازن الولايات المتحدة ما بين طاولة المفاوضات واتخاذ خطوات عقابية ضد الأفراد الذين يقودون الانتهاكات ويتربحون من الوضع الحالي. ولم يواجه أي من المتورطين في الوضع الحالي نتائج أفعالهم، وكل ما قامت به واشنطن هي خطوات رمزية، في وقت أظهرت فيه جهلا بما يجري على الأرض.

عودة الحرس القديم

ويعاني المطالبون بعودة الديمقراطية وخروج العسكر من مشكلة أخرى تتعلق بمظاهر عودة الحرس القديم إلى مؤسسات الدولة، فالبرهان وحميدتي وبقية النخبة الحاكمة كانوا جزءا من آلة البشير للبقاء في الحكم. إلا أن انقلاب العام الماضي سرع بعمليات إعادة الكثيرين من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الذي تزعمه البشير، وهو ما كشف عنه تقرير في موقع «ميدل إيست آي»(11/4/2022) جاء فيه إن عمر البشير يقبع في السجن إلا أن مسؤولي حكومته بدأوا بالتسلل من جديد إلى المواقع البارزة في الحكومة التي يقودها الجيش الآن. لكن السؤال هو هل غادر رجال البشير الحكم حتى يتسللوا إليه من جديد؟ والجواب عليه يبدأ من رأس السلطة الحالية في الخرطوم اليوم. ولا حاجة لنا لذكر علاقة البرهان أو دقلو بالبشير. لكن ما هو جديد إصدار محكمة سودانية يوم الخميس الماضي براءة عدد من القادة الإسلاميين بمن فيهم عبد الله غندور، رئيس حزب المؤتمر الوطني نظرا لعدم توفر الأدلة. وأشار الموقع إلى أن البرهان الذي لا يملك قاعدة دعم شعبي بات يلوح بورقة الإسلاميين ويعيد الحرس القديم. وقدم الموقع قائمة بأسماء العائدين وحصل عليها من المعارضة. وبالمحصلة عندما انتفض السودانيون قبل 3 أعوام ضد ديكتاتورهم حلموا بالسلام والازدهار، ولكنهم يواجهون بعد انقلابين أزمة سياسية وانكماشا في الاقتصاد وزيادة في العنف. وهذه تهدد وجود السودان كما قال فولكر بيرتس، المبعوث الأممي للقرن الأفريقي وأخبر مجلس الأمن في الشهر الماضي أنه «حتى يتم تصحيح المسار الحالي» فإن «البلد يسير نحو الانهيار الاقتصادي والأمني ومعاناة إنسانية كبيرة».

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى