خطوة إضافية جديدة يقدم عليها الرئيس التونسي في إعادة بناء النظام السياسي للبلاد على هواه الشخصي، فقد كشف قيس سعيد الأسبوع الماضي أن التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي قرر هو وحده إجراءها في (17 ديسمبر/ كانون الأول) سيكون في دورتين، وعلى الأفراد وليس على القوائم مستندا إلى نتائج ما سمي بـ”الاستشارة الوطنية” (استشارة إلكترونية شارك فيها حتى من هم في سن الــ16 عاما!!) ولم يتجاوز عدد المشاركين فيها الــ 500 ألف وبخروق عديدة مفضوحة للجميع.
ومع أن سعيّد قال إن “الشعب التونسي سيقول كلمته في الدستور الجديد والنظام السياسي خلال الاستفتاء يوم الخامس والعشرين من يوليو/تموز المقبل” لكنه في كل مرة يضع لبنة جديدة في ما يرى أن الشعب يريده، بحيث لن نصل إلى هذا الموعد، إن وصلنا إليه فعلا، إلا وأمام الشعب خيار واحد محدود وهو ما أراده سعيّد نفسه لهذا الشعب، ولا شيء غير ذلك.
نظام الاقتراع على الأفراد نظام لم تعرفه تونس أبدا في تاريخها ويستوجب إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية والانتقال إلى دوائر أصغر من الدوائر الحالية القائمة على التنافس بين قائمات، سواء حزبية أو مستقلة، في حين أن التنافس في نظام الأفراد سيكون على مقعد وحيد في كل دائرة انتخابية.
ما أن أعلن سعيّد عن ذلك حتى تبارى القانونيون والسياسيون، في تصريحات صحافية مختلفة وتدوينات، وفي ما يشبه الاجماع، على كشف العيوب العديدة لهذا النظام الانتخابي المزمع الذهاب إليه تحت يافطة أن الشعب يريده، فقد رأى القاضي المتقاعد المعروف أحمد صواب أن “من محاسن نظام الأفراد أنه يمكّن المواطن من معرفة من يحاسب تحديدًا، لكن من مساوئه، أنه سيساهم أكثر في الفساد، وسيستفيد منه المهرّبون” وأن “الحزب بما هو مؤسسة، سيقع تغييبه في نظام الاقتراع هذا، وسيتم إضعاف الأحزاب لتأتي أخرى هي التنسيقيات (لجان شعبية مؤيدة للرئيس) والنتيجة الحتمية هي برلمان ضعيف سيقوّي رئيس الجمهورية أكثر”.
أما أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي فرأت أنّ نظام الإقتراع على الأفراد لا يضمن حظوظ وافرة للشباب في الفوز وسيُساهم في تراجع المرأة في الهياكل النيابية المنتخبة وأنه لن يضمن سوى فوز ”نواب من صفوة القوم” لكن دون أن يكون من بينهم “شخصيات مرموقة في المجتمع معروفة بعلمها وأخلاقها نظرا إلى حملة الشيطنة التي تعرّض لها أصحاب المعرفة وكلّ من أبدى تمنّعا عن الانسياق مع المزاج العام”. وحذرت القليبي من أنّ الاقتراع على الأفراد في المجتمع التونسي “سيزيد من تقويض فكرة أن الدولة يجب أن تكون قائمة على مؤسّسات وليس على علاقات شخصية”، وبالتالي فإن ذلك سيعمّق منطق الولاء للأقارب ولأرباب العمل والمتمكنين مع إحياء للولاء القبلي.
حتى من كان يشار إليهم بأنهم من الموالين للرئيس مثل الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي تحفظ على الأمر قائلا إن هذا المشروع “يمثل خطرا على وحدة البلاد، فضلا عن إمكانية تصعيد ما يعرف بالأثرياء الجدد وأصحاب التأثير المالي بما يفرز مجلسا نيابيا متكونا من غير النزهاء والمقتدرين والأكفاء”، وأن المجلس المقبل سيكون “فسيفساء متنوعا ولا روابط بين نوابه بما يجعل أداؤه ضعيفا وهزيلا، ولا يضمن وجود سند برلماني للحكومة ورئيس الدولة”.
وحتى أعضاء “الهيئة المستقلة للانتخابات” خرج بعضهم عن تحفظهم فقد اعتبر نائب رئيس الهيئة فاروق بوعسكر أن نظام الاقتراع على الأفراد يكون ناجحا فقط عند إجرائه في دوائر انتخابية ضيقة مثل البلديات وليس على الصعيد الوطني، وأنه “سيشجّع على الوجاهة العائلية والعروشية (القبلية) والمحلية بمعنى أن المترشح الذي له عائلة كبيرة سيكون المسيطر على تلك الدائرة والأمر ذاته للمترشح الذي له إمكانيات مادية”، فيما لم يخف عضو الهيئة محمد التليلي المنصري عيوب هذا النظام بالقول إن “تونس عبر تاريخها لم تعرف الانتخابات على الأفراد”، مع أن “هناك دولاً تعتمد هذه الطريقة، إلا أن تجربتها الديمقراطية أعرق وذات ثقافة مختلفة”.
أما الأحزاب السياسية فعبّرت في معظمها، عن معارضتها الشديدة لهذا النظام الانتخابي الذي يهمشها بالكامل ويقضي على أي تنوع سياسي في البلاد وأي تنافس بين البرامج والمشاريع الوطنية إذ اعتبرت، على غرار ما قاله الناطق باسم “حركة النهضة” أنه نظام “سيمسح للوبيات المال والفساد أن تكون مهيمنة على العملية الانتخابية”.
هل من أمل والصورة على ما ذكرنا أن يتراجع قيس سعيّد ويترك البت في أمر النظام الانتخابي لحوار وطني حقيقي، وليس انتقائيا كما يريده هو؟ للأسف الأمل ضعيف جدا نظرا لما عرف عن الرجل، حتى الآن، من تمسك عنيد بكل ما يقوله بحيث أن تونس، إذا ما وصلت إلى الانتخابات البرلمانية كما يريدها سعيّد، ودون أن تنجح في إسقاط انقلابه على الدستور المستقوي بالمؤسستين الأمنية والعسكرية، لن تكون إلا دولة ببرلمان هو أشبه ما يكون بـ”مؤتر الشعب العام” لليبيا معمر القذافي، بعد أن اتضح لرئيسها هو الآخر أن “كل من تحزّب خان”!!.
٭ كاتب وإعلامي تونسي
المصدر: القدس العربي