جاء هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا بمثابة لحظة توضيحية. ومنذ مجيئه إلى السلطة في عام 2000، سعى مختلف القادة الأوروبيين إلى التعاون معه، أو احتوائه، أو التفاوض معه. لكن بوتين أجبر المجتمع الدولي، من خلال شروعه بحرب اختيارية ضد بلاد يزعم أنه ليس لها حق في الوجود، على رؤيته كما هو بشكل حقيقي، أي بوصفه زعيماً عدوانياً يتمتع بقدرة ملحوظة على التدمير. وبالنتيجة، وُجِدَتْ إجراءات جديدة كاسحة جرى تصميمها من أجل التضييق عليه وكبحه، وعقوبات قاسية ضد المؤسسات المالية الروسية، وحظر على الطيران الروسي في المجال الجوي الخاص بدول الاتحاد الأوروبي، وزيادة شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. وحتى ألمانيا التي طالما ترددت في خوض مواجهة مع بوتين، وافقت على استبعاد البنوك الروسية من نظام “سويفت” للرسائل المالية، وسارت على عكس قرار الحظر الذي طبقته منذ زمن طويل بشأن إمداد مناطق النزاع بالأسلحة، إضافة إلى أنها زادت إنفاقها الدفاعي بشكل كبير. هكذا، أطلق غزو روسيا لأوكرانيا تغييراً جذرياً على الصعيد الدولي في كيفية فهم بوتين وما الذي يجب فعله لمواجهته.
وعلى الأرجح، قد يكون هذا التحول الجذري في طريقه إلى الحدوث داخل روسيا نفسها أيضاً. حافظ بوتين خلال فترة ولايته على مستويات عالية نسبياً من الدعم الشعبي. وإلى حد كبير، يرجع الفضل في ذلك إلى قدرته على استعادة النمو الاقتصادي وبسط الاستقرار في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها سنوات التسعينيات من القرن العشرين. وفي حين أنه ليس لدى معظم الروس مقدار كبير من الأوهام حول زعيمهم، وهم يدركون وجود الفساد الذي يفيد منه بنفسه مع النخبة التي تحيط به، إلا أنه تعذر على معظم الروس فهم السبب الذي جعل بوتين يشن حرباً تقليدية كبيرة ضد جيرانهم الأوكرانيين. إذ بدا أن عديداً من المحللين والمعلقين والمواطنين الروس على حد سواء، مقتنعون بأن بوتين لن يتورط في عمل عدواني من هذا النوع. في المقابل، دفعت أنباء الحرب والتداعيات الاقتصادية التي تلتها الروس إلى التفكير في بوتين وروسيا بشكل مختلف، ولم تعد روسيا اليوم نفس ما كانته في الأسبوع الماضي.
ثمة حكمة سائدة مفادها أن بوتين سيكون قادراً على النجاة من أي رد فعل محلي. وهذا صحيح غالباً. ففي الأنظمة الاستبدادية الشخصانية، حيث تتركز القوة كلها في أيدي فرد بدلاً من أن يجري تقاسمها مِنْ قِبَلْ حزب، أو مجلس عسكري أو عائلية ملكية، فإن الزعيم نادراً ما تجري إزاحته من منصبه بسبب الحروب، حتى حين يتعرض إلى هزيمة. ويعود هذا إلى أمرين هما أن النخب الأخرى لا تكون قوية بما فيه الكفاية لمحاسبة الديكتاتور، وأيضاً إلى عدم وجود فرص كثيرة متاحة للجمهور المحلي كي يعاقب الزعماء على ما فعلوه. في المقابل، يتمثل الشيء المهم بالنسبة إلى الأنظمة القمعية كنظام بوتين في روسيا، في أنها غالباً ما تبدو مستقرة تماماً حتى تجيء اللحظة التي لا تعود فيها كذلك. لقد أقدم بوتين على مجازفة كبرى بمهاجمة أوكرانيا، وثمة فرصة، يبدو أنها آخذة في التنامي، بأن ذلك يمكن أن يمثل بداية النهاية بالنسبة إليه.
حصن روسيا
هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن بوتين قادر على الصمود في وجه رد الفعل العنيف على هذه الحرب. فقد قطع شوطاً طويلاً في العام الماضي من أجل البطش بالمجتمع المدني الروسي، والمعارضة السياسية، والصحافيين، وببيئة المعلومات. إن تسميم النظام بشكل وقح لألكسي نافالني زعيم المعارضة، وحظر “ميموريال”، وهي أهم مؤسسة مدنية لحقوق الإنسان في تلك البلاد في المرحلة ما بعد السوفياتية، يؤكدان التزام النظام استعمال القمع للمحافظة على سيطرته. وقد فهم الروس الرسالة. وطبقاً لنتائج استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا” في عام 2021، فإن 52 في المئة من الروس يخافون القمع الجماعي، و58 في المئة منهم يشعرون بالرعب من أنهم سيتعرضون إلى الاعتقال التعسفي أو الأذى بشكل أو آخر مِنْ قِبَلْ السلطات. ويعتبر هذان أعلى مستويين يجري تسجيلهما منذ عام 1994 لهذين المؤشرين. وبصورة عامة، يكون مثل هذا الارتفاع في مستوى القمع شائعاً في المراحل الأخيرة من عهود الحكام المستبدين الذين يقبضون على مقاليد الحكم لوقت مديد. وكلما طالت فترة بقاء هؤلاء الطغاة في السلطة، فقدوا الاتصال مع مجتمعاتهم وتضاءل ما يمكنهم أن يقدموه إلى مواطنيهم. ونتيجة لذلك، لا يكون لديهم سوى طرق قليلة في الحفاظ على حكمهم.
وإلى جانب القمع، يستطيع بوتين أن يتلاعب ببيئة المعلومات في روسيا، فيصوغ الطريقة التي يفهم بها عديد من الروس الحوادث التي تشهدها أوكرانيا. كذلك نرى أن الأطراف الأمنية الروسية الفاعلة باتت تضايق فعلياً الأفراد الذين ينشرون رسائل مناهضة للحرب على منصات وسائط التواصل الاجتماعي، كذلك تمارس تلك الأطراف الرقابة على الحقائق والتفاصيل المتعلقة بالحرب. وقد تحركت السلطات أيضاً لإغلاق “إيكو موسكفي” وهي محطة إذاعية مستقلة في روسيا تعمل منذ عام 1990. وعلى الرغم من أن الأجيال الشابة تتلقى مزيداً من المعلومات عبر منابر إعلامية غير خاضعة لسيطرة الدولة، فإن النظام يبقى مهيمناً في فضاء المعلومات. وتُظهر استطلاعات الرأي قبل غزو روسيا أوكرانيا، أن غالبية كبيرة من الروس تؤيد الاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا المدعومتين مِنْ قِبَلْ روسيا كدولتين مستقلتين، وأنهم ألقوا باللوم على أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في التسبب بالصراع.
ويمكن أن يساعد القمع إلى جانب التحكم بالمعلومات، في منع الاحتجاجات المعادية للحرب في روسيا من أن تحظى بالرواج. وقد اعتقل النظام حتى الآن ما يزيد على 5000 شخص بسبب تظاهرهم بنشاط ضد الغزو الروسي، الأمر الذي قد يردع آخرين من الانضمام [إلى الاحتجاجات]. وبينما يحتمل أن يكون الروس الآخرون مستعدين للمجازفة بالتعرض للاعتقال إذا اعتقدوا أن التظاهرات ستتعاظم، فإن الرقابة تجعل من الصعب على المتظاهرين المحتملين أن يعرفوا عدد المواطنين المستائين من الحرب. ومن المرجح أن نظام بوتين لن يقوم إلا بمزيد من القمع من أجل التعامل مع جمهور روسي أشد اضطراباً. ومن المرجح أن تلجأ الأنظمة الشخصانية إلى القمع للرد على الاحتجاجات أكثر من بقية الأنظمة الاستبدادية الأخرى. كذلك يرجح أيضاً بشكل خاص، أن تفعل تلك الأنظمة الشخصانية ذلك، حينما تنخرط في صراعات إقليمية توسعية (مثلما يفعل بوتين في أوكرانيا). وعلاوة على ذلك، لقد سئم عديد من الروس من بوتين وسيختارون مغادرة روسيا، على غرار ما فعل بعضهم فعلياً، الأمر الذي يخفف الضغط المتصاعد ضد النظام.
لقد بذل بوتين جهوداً كبيرة من أجل تحصين نفسه ضد تهديد آخر يتمثل في انشقاق النخبة. وفي اجتماع جرى تصميمه بدقة بالغة لمجلس الأمن القومي التابع له، أجبر الرئيس الروسي كل واحد من فريقه على التعهد علناً بدعم قراره المتعلق بالاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، أي المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا. وقلل ذلك من قدرة أعضاء المجلس على الانشقاق بشكل يمكن أن يحظى بالمصداقية والادعاء بأن بوتين يمضي بروسيا في الاتجاه الخاطئ. وبالمثل، فقد عقد بوتين اجتماعاً لأقوى رجال الأعمال في البلاد بعد يوم واحد من بدء الحملة ضد أوكرانيا، بهدف مناقشة الصدمات الاقتصادية التي ستتلوها. وكان هدف بوتين واضحاً، وهو تذكيرهم أن مصائرهم مرتبطة بشكل وثيق باستمراره في السلطة.
كل شيء يسقط
إلا أن هناك أسباباً وجيهة أيضاً تفسر لماذا قد تتغير الظروف كي تصبح غير مواتية لبوتين. وعلى الرغم من القمع، اندلعت احتجاجات في ما يزيد على 58 مدينة في أنحاء روسيا. وبالتالي، تكون التظاهرات المبكرة ملفتة ليس لمجرد الشجاعة التي تعبر عنها، بل أيضاً الإمكانات التي تنطوي عليها، علماً بأن الاحتجاجات في ظل أنظمة قمعية للغاية تنجح غالباً بأكثر مما تفعله في بيئات أقل قمعاً. ويعود هذا الى أن الناس حين ينزلون إلى الشوارع حتى حين تكون تكاليف ذلك عالية جداً، فإنهم يرسلون إشارة قوية إلى مواطنين آخرين مفادها أن هناك من يشاركهم معارضتهم. وبهذه الطريقة، ثمة احتمال بأن تطلق الاحتجاجات المبكرة المناهضة للحرب معارضة متتالية. وحقيقة أن الروس ينظرون إلى حرب بوتين على أنها ظالمة وفظيعة، تجعل من المرجح بشكل خاص أن تثير ردود فعل عنيفة على نطاق واسع. إن لحظات الظلم الحاد تتمتع بالقدرة الأكبر على حشد الناس، على غرار ما حصل حين أضرم بائع الفاكهة التونسي محمد البوعزيزي النار بنفسه بعد تعرضه للإذلال على يد مسؤولين محليين ومصادرتهم بضاعته، فأطلق بذلك “الربيع العربي” في عام 2011.
وهناك أيضاً أشخاص محليون مشهورون ونافذون مناهضون للحرب، وهم ليسوا مجرد معارضين معروفين. فقد وقع عدد من المشاهير الروس رسائل معارضة للحرب. وكتب نجم رياضة التنس الروسي أندريه روبليف على كاميرا تلفزيونية “لا للحرب، من فضلكم”. كذلك قدم رئيس الوفد الروسي إلى مؤتمر كبير للمناخ للأمم المتحدة، اعتذاره بسبب غزو بلاده أوكرانيا، فيما ذكرت تقارير أن ابنة سكرتير بوتين الصحافي نشرت عبارة “لا للحرب” في حسابها على منصة “إنستغرام”. (وقد حذفتها بعد ساعات من نشرها). وثمة مؤشرات على أن الأوليغارشيين الذين تربطهم علاقة حميمة مع بوتين، أخذوا يشعرون بعدم الارتياح. وهكذا نشر أناتولي تشوبايس، وهو أحد أقطاب الطاقة سابقاً، في حسابه على “فيسبوك”، صورة بوريس نيمتسوف زعيم المعارضة الذي اغتيل قبالة الكرملين. ودعا الميلياردير الروسي أوليغ ديريباسكا إلى السلام والمفاوضات.
وحتى إذا لم تؤد أعمال بوتين إلى إخراجه من السلطة على الفور، فإن الحرب في أوكرانيا تخلق نقاط ضعف بعيدة المدى. إذ تقضي العقوبات الاقتصادية على قيمة الروبل فعلياً، ومن المتوقع أن يزداد الضرر الاقتصادي تفاقماً. ويمكن لذلك الأمر أن يقود إلى إضعاف بوتين على الصعيد المحلي مع مرور الوقت. وبصورة عامة، تلجأ الديكتاتوريات الشخصانية إلى خفض الإنفاق الحكومي حينما تواجهها عقوبات، ما يجعل حياة المواطنين العاديين أشد صعوبة، ويضاعف احتمال وقوع اضطرابات متنامية. وتميل العقوبات إلى أن تكون أكثر فاعلية حين تستهدف أنظمة استبدادية شخصانية منها حين تطبق على نماذج أخرى من أنظمة الحكم الاستبدادية، لأن الحكام الديكتاتوريين الشخصانيين هم الأكثر [بالمقارنة مع غيرهم من الطغاة] اعتماداً على المحسوبية للبقاء في السلطة. وحتى الآن، لم يُضطر أعضاء النخبة الروسية على الإطلاق إلى أن يختاروا بين الحياة التي يريدون أن يعيشوها وبوتين. إلا أن تعليقات تشوبياس وديريباسكا تلمح إلى أن ذلك قد يتغير حينما تبدأ مفاعيل العقوبات في التفاعل، خصوصاً إذا اقترنت مع جهود مكافحة الفساد المكثفة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وإذا تعرض أعضاء النخب الروسية إلى ضغط شديد بما فيه الكفاية، فإنهم قد يقررون أن بوتين لم يعد يمثل ضمانة بالنسبة إلى مصالحهم المستقبلية، ويحاولون أن يستبدلوا به زعيماً من شأنه أن ينسحب من أوكرانيا، ويدفع الغرب إلى إنهاء تجميد أصولهم.
وأخيراً، من الممكن للغاية أن يتطور الصراع في أوكرانيا إلى تمرد طويل من شأنه أن يستنزف ببطء صبر الروس العاديين. وتظهر البحوث أن الديكتاتور الشخصاني يكون أكثر استعداداً من الطغاة الآخرين لتحمل النزاعات العسكرية التي توقع خسائر جسيمة في الأرواح، إلا أن ذلك لا يعني أن مواطنيه يتحملونها أيضاً. وفي ليبيا مثلاً، مارس الزعيم السابق معمر القذافي القمع الشديد من أجل ضمان استمراره في السيطرة على البلاد، في الوقت الذي أخذت تكلفة حروبه تتعاظم. لكن في نهاية المطاف، أطاح مواطنون عاديون حكومته بصورة عنيفة حينما واجهوا ظروفاً اقتصادية قاسية. وفي الاتحاد السوفياتي، ساعد غزو طويل ومكلف لأفغانستان على استنزاف الثقة بنظام الحزب الشيوعي. وليس من غير المعقول أن تتراخى قبضة بوتين على روسيا، إذا تحولت أوكرانيا إلى مستنقع [بالنسبة إلى موسكو الغازية].
فقدان الاتصال
يشكل توقع سقوط زعيم مستبد مجرد مهمة غبية. ويمكن للطغاة الضعفاء والمحاصرين أن يمضوا إلى الأمام بمشية عرجاء لوقت أطول بكثير مما يتوقعه المحللون. لقد نجا روبرت موغابي رئيس زيمبابوي الأسبق من التضخم المفرط والهزيمة الانتخابية، وبقي في السلطة التي لم يغادرها إلا قبل سنتين من وفاته. ولا يزال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في منصبه، على الرغم من أن اقتصاد فنزويلا قد انهار تماماً. وبالمثل، فإن الزعماء الذين يظهرون بمظهر القوي يمكن أن يجري عزلهم بشكل مفاجئ، على غرار ما حصل مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في عام 2011، والرئيس التونسي زين العابدين بن علي في السنة نفسها.
في المقابل، يدرك المحللون أن زعماء شخصانيين على غرار بوتين معرضون لارتكاب أخطاء في السياسة الخارجية أكثر من غيرهم من الطغاة. إذ يحيطون أنفسهم برجال لا يعارضونهم على الإطلاق ويقولون لهم دائماً ما يرغبون بسماعه، وكذلك يخفون عنهم الأنباء السيئة، ما يجعل من الصعب على هؤلاء المستبدين أن يتخذوا قرارات مستنيرة تستند إلى معرفة جيدة. ويبقى السؤال مفتوحاً بشأن إذا ما كانت حرب بوتين الاختيارية ستصبح الغلطة التي ستخلعه من السلطة. في المقابل، تشهد روسيا الآن حالة استياء متزايد من الجمهور، وتصدعات في أوساط نخبتها، إضافة إلى عقوبات دولية واسعة النطاق. قد لا يأتي سقوط بوتين في الغد أو في اليوم الذي يليه، غير أن قبضته على السلطة باتت أكثر هشاشة بكل تأكيد بالمقارنة مع ما كانه قبل غزو أوكرانيا.
أندريا كيندال – تايلور، زميلة متقدمة ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز “الأمن الأميركي الجديد”. وعملت بين عامي 2015 و2018 “نائبة ضابط الاستخبارات الوطنية [لشؤون] روسيا وأوراسيا” ضمن “مجلس الاستخبارات الوطني”.
إيريكا فرانتز هي بروفيسورة مشاركة في العلوم السياسية في “جامعة ميتشيغان” الرسمية.
فورين آفيرز مارس (آذار)/ أبريل (نيسان) 2022
المصدر: اندبندنت عربية