في السنوات الفائتةِ شهدت مؤسساتٌ كثيرةٌ من تلك التي أفرزتها ثوراتُ الربيع العربي حركاتٍ تفاعليةً، أخرجت مكنوناتِ الإنسان العربي، وكشفتِ المستور في منظومات تفكيرِه، وإن كانت سببت صدماتٍ للكثيرين، لكن لم تشكلْ صدمة للعارفين الذين أدركوا من قبل سوءَ الأوضاع، التي كانت سببا رئيساً لتلك الثورات.
واليوم يتنازع الفاعلون فتاتِ الثورة، ويجددون قسمهم الأول (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ). فلا يَدَعو للمساكين والمعذبين شيئاً من ثورتهم، إلا أضغاثَ أحلامٍ يريدون وأدَها ودفنَها، وهم يبايعون بعضهم بعضاً على ذلك.
يتحدث الكثيرون عن آليات التمثيل واحتكار الفئات الضيقة والمتسلقة والمدسوسة للثورات، لكن يغيب عنهم أن عدم قدرتَهم على استئصال هؤلاء أعمقُ وأخطرُ بكثير من استبدال شخصيات بأُخْرَى .
فعجزُ الصادقِ عن إزاحة الكاذب يضعُنا أمام تفسيرين لا ثالث لهما: إما فساد من يدعي الصدق، أوتمكن الكاذبِ لأنه مفرزُ بيئتِه الطبيعي، وفي تلك الحالتين؛ وعدُ الله جار بالاستبدال، وإلا فسدتِ الحياةُ، وعندها لن تصبحَ الأرض مكاناً قابلاً للعيش.
أولئك الذين أقسموا في الظلام، وفي الغرف المغلقة (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ)، نسوا أمرين هامين؛ الأول: أن هناك رقيباً لا ينام “فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ □فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (القلم:19-20)”، وجوابُه جَلِيٌّ كالشمس في وَضَح النَّهار :”كَذَلِكَ الْعَذَابُ ۖوَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (القلم-33).الأمر الثاني: أن أولئك الذين أقسموا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ هم كعصابات السطو المسلح التي نشاهدها في الأفلام الهوليودية، كلما قُتِل فردٌ منهم فرحوا -وإن كان في سرِّهم- لأن غنيمةَ الباقين ستزيد، بينما من يبغي الإصلاحَ على العكس من ذلك يجعل من الجماعة ستراً ودرعاً له، فيُسعَدُ بكثرة الصالحين ويحْزَن لفقدانهم؛ فهم يعينونه على الحق ويقوون بعضهم بعضاً.
وبالتالي ديدنُ سارقي الأحلام تصفيةُ بعضِهم بعضاً، وفضحُ بعضِهم بعضاً. ولا يشفع لأيٍّ منهم مبرراتُه البراغماتية أو سيرُه مع تيار إخوته في الجريمة؛ ذلك لأن الخلاف اليوم ليس على محصول أو حفنٍة من الدولارات، بل على دماء شعب بأكمله، ومستقبل أجيالٍ وأحلام مشردين في العراء، نحن بانتظار أن يظهرَ أوسطُهم فيقولَ لهم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ، لكن ربما لعنةُ الدم حلت عليهم جميعاً، فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (المائدة-26).