ثمن الهيمنة: هل تستطيع أميركا تعلم استخدام قوتها؟ (1 – 2)

   روبرت كاغان * ترجمة: علاء الدين أبو زينة

مقدمة:

العالم بعد الحرب

بينما يذهب هذا الإصدار من المجلة إلى المطبعة، ما تزال الحرب في أوكرانيا بعيدة كل البعد عن الانتهاء. ويبدو مرجحا أنها ستستمر لأسابيع، أو شهور -أو حتى سنوات- سواء كان ذلك في شكل صراع طاحن من كر وفر، أو تمرد يقاتل من أجل التحرر من احتلال، أو في شكل كارثة عالمية. ومع ذلك، منذ اللحظة التي تم فيها إطلاق الصواريخ الأولى في هذه الحرب، كان من الواضح أن هذا الغزو يشكل بداية حقبة جديدة -والتي لن تتحدد سماتها من خلال النتيجة على الأرض في أوكرانيا فحسب، ولكن أيضا من خلال الاستجابة العالمية. وقد أظهر الأوكران بقوة، في مقاومتهم للهجوم الروسي، ما هو على المحك بالنسبة لهم. وما يزال باقي العالم يتصارع مع معرفة ما هو على المحك بالنسبة له أيضاً.

بالنسبة للأميركيين، كما يجادل روبرت كاغان، تشكل الحرب تذكيرا صارخا “بأنهم جزء من صراع لا ينتهي على السلطة، سواء كانوا يرغبون في ذلك أم لا” – وأن “هناك حقا أشياء أسوأ من هيمنة الولايات المتحدة”. وبالنسبة للنظام الدولي، فإن الحرب تهدد المبدأ الذي كان يقوم عليه الاستقرار لعقود: لقد تم اختبار القاعدة ضد الغزو الإقليمي بأكثر الطرق تهديدا وإسهابا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لصانعي السياسة الغربيين، تؤكد الحرب تؤكد على قيمة “السياسة الواقعية المؤسسية” -وهي استراتيجية من شأنها أن تقوم بنشر النظام الدولي الحالي، بدلا من إلغائه، لاحتواء التحديات التعديلية المنسقة –والمتميزة مع ذلك- التي تشنها الصين وروسيا.

بالنسبة لفلاديمير بوتين، تعكس الحرب نمطا ناشئا، يتميز بالقومية المعادية للغرب؛ والخطابات الغاضبة المبررة للذات؛ واستخدامات القوة التي تصبح مفتوحة باطراد، أولا في الداخل ثم في الخارج. وبالنسبة للأوكرانيين، تمثل الحرب هجوما على تاريخهم، من بين أشياء أخرى كثيرة، بينما يختار بوتين اللجوء إلى القوة العسكرية والرقابة الشمولية في محاولة عبثية لجعل الواقع أقرب إلى الأسطورة.

في الأثناء، فرضت الحرب بالنسبة لنا جميعا مواجهة جديدة مليئة بالمخاطر والتهديدات التي تم اعتبارها ذات يوم آثارا من الماضي. واتضح أن استراحة الغرب القصيرة نسبيا من منافسة القوى العظمى مع روسيا كانت مجرد رمشة عين تاريخية.

-محرر الملف: دانيال كورتز فيلان.

ثمن الهيمنة: هل تستطيع أميركا تعلم استخدام قوتها؟

لسنوات، ناقش المحللون ما إذا كانت الولايات المتحدة هي التي حرضت على تدخلات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا والدول المجاورة الأخرى، أو ما إذا كانت تصرفات موسكو أعمالاً عدوانية غير مبررة فحسب. وقد أسكت هذا النقاش مؤقتا بفعل أهوال الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. وأدت موجة من الغضب الشعبي إلى إغراق أصوات أولئك الذين جادلوا منذ فترة طويلة بأن الولايات المتحدة ليست لديها مصالح حيوية على المحك في أوكرانيا، وأن أوكرانيا تقع ضمن نطاق مصلحة روسيا، وأن السياسات الأميركية هي التي خلقت مشاعر انعدام الأمن التي دفعت بوتين إلى اتخاذ هذه الإجراءات المتطرفة. ومثلما أسكت الهجوم على بيرل هاربور أصوات المناهضين للتدخلية وأغلق النقاش حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تدخل الحرب العالمية الثانية، علق غزو بوتين، نسخة 2022، الجدل غير المنتهي الذي يخوضه الأميركيون حول ما ينبغي أن يكون هدفهم في العالم.

وهذا مؤسف. على الرغم من أنه من الفُحش إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في هجوم بوتين اللاإنساني على أوكرانيا، فإن الإصرار على أن الغزو كان غير مبرر تمامًا هو رأي مضلل بنفس المقدار. فمثلما كان “بيرل هاربور” نتيجة لجهود الولايات المتحدة لإعاقة التوسع الياباني في البر الرئيسي الآسيوي؛ ومثلما كانت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) –في جزء منها- ردًا على الوجود المهيمن للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد حرب الخليج الأولى، كذلك كانت قرارات روسيا رداً على توسع هيمنة ما بعد الحرب الباردة للولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا. ومن المؤكد أن بوتين يتحمل وحده اللوم على أفعاله، لكن غزو أوكرانيا يحدث في سياق تاريخي وجيوسياسي لعبت فيه الولايات المتحدة -وما تزال تلعب- الدور الرئيسي، ويجب على الأميركيين أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة.

بالنسبة لمنتقدي القوة الأميركية، فإن أفضل طريقة تتكيف بها الولايات المتحدة مع الأحداث هي أن تقلص حضورها في العالم، وتجرد نفسها من الالتزامات الخارجية التي ينبغي أن يتولى الآخرون أمر التعامل معها، والعمل، على الأكثر، كموازن خارجي بعيد. وسوف يمنح هؤلاء النقاد للصين وروسيا مجالات اهتمامهما الإقليمية الخاصة في شرق آسيا وأوروبا، ويركزون اهتمام الولايات المتحدة على الدفاع عن حدودها وتحسين رفاهية الأميركيين. ولكن، ثمة جوهر غير واقعي لهذه الوصفة “الواقعية”: إنها لا تعكس الطبيعة الحقيقية للقوة العالمية والتأثير الذي ميز معظم حقبة ما بعد الحرب الباردة، والذي ما يزال يحكم العالم اليوم. كانت الولايات المتحدة مُسبقاً القوة العالمية العظمى الحقيقية خلال الحرب الباردة، بثروتها وقوتها التي لا تُدانى وتحالفاتها الدولية الواسعة. وأدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تعزيز الهيمنة الأميركية على العالم فقط -وليس لأن واشنطن تدخلت بحماس لملء الفراغ الذي خلفه ضعف موسكو. لقد أدى الانهيار إلى توسيع نفوذ الولايات المتحدة لأن المزيج الذي لديها من القوة والمعتقدات الديمقراطية جعل البلد جذابا لأولئك الذين يسعون إلى الأمن، والازدهار، والحرية والاستقلال الذاتي. وبذلك تشكل الولايات المتحدة عقبة كأداء أمام سعي روسيا إلى استعادة نفوذها المفقود.

كان ما حدث في أوروبا الشرقية على مدى العقود الثلاثة الماضية شهادة على هذا الواقع. لم تطمح واشنطن بنشاط إلى أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة. ولكن، في السنوات التي أعقبت الحرب الباردة، تحولت دول أوروبا الشرقية المحررة حديثًا، بما في ذلك أوكرانيا، إلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لأنهم اعتقدوا أن الانضمام إلى مجتمع عبر-الأطلسي هو مفتاح الاستقلال والديمقراطية والرفاهية. كان الأوروبيون الشرقيون يتطلعون إلى الهروب من عقود -أو، في بعض الحالات، قرون- من الامبريالية الروسية والسوفياتية. وقد منحهم التحالف مع واشنطن في لحظة ضعف روسيا فرصة ثمينة للنجاح. وحتى لو كانت الولايات المتحدة قد رفضت التماساتهم للانضمام إلى حلف الناتو والمؤسسات الغربية الأخرى، كما يصر النقاد على أنها كان يجب أن تفعل، فإن دول مدار النفوذ السوفياتي السابق كانت ستستمر في مقاومة محاولات موسكو لإعادتها إلى مجال نفوذها، وطلب أي مساعدة يمكنها الحصول عليها من الغرب. وكان بوتين سيظل يعتبر الولايات المتحدة السبب الرئيسي لهذا السلوك المعادي لروسيا، ببساطة لأن هذه الدولة كانت قوية بما يكفي لجذب الأوروبيين الشرقيين.

طوال تاريخهم، مال الأميركيون إلى أن يكونوا غير مدركين للتأثير اليومي لقوة الولايات المتحدة على بقية العالم، من الأصدقاء والأعداء على حد سواء. وعادة ما يتفاجأون عموماً عندما يجدون أنفسهم هدفًا للاستياء ولأنواع التحديات التي تفرضها روسيا بوتين وصين الرئيس شي جين بينغ. ويمكن للأميركيين التقليل من حدة هذه التحديات من خلال ممارسة نفوذ الولايات المتحدة بشكل أكثر اتساقا وفعالية. لكنهم فشلوا في القيام بذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، مما سمح للعدوان الذي شنته ألمانيا وإيطاليا واليابان بالمرور من دون رادع حتى أدى إلى نشوب حرب عالمية مدمرة واسعة النطاق. كما فشلوا في القيام بذلك في السنوات الأخيرة، مما سمح لبوتين بالاستيلاء على المزيد والمزيد من الأراضي حتى غزا أوكرانيا بأكملها في نهاية المطاف. وبعد خطوة بوتين الأخيرة، قد يتعلم الأميركيون الدرس الصحيح، لكنهم سيظلون يكافحون لفهم الكيفية التي ينبغي أن تتصرف بها واشنطن في العالم إذا لم يفحصوا ما حدث مع روسيا، وهذا يتطلب استمرار الجدل حول تأثير قوة الولايات المتحدة.

بطلب شعبي

وإذن، بأي طريقة يمكن أن تكون الولايات المتحدة قد استفزت بوتين؟ ثمة شيء ينبغي توضيحه: لم يكن ذلك من خلال تهديد أمن روسيا. منذ نهاية الحرب الباردة، تمتع الروس، موضوعيا، بقدر من الأمن أكبر من أي وقت مضى في الذاكرة الحديثة. كانت روسيا قد تعرضت للغزو ثلاث مرات خلال القرنين الماضيين، مرة من قبل فرنسا ومرتين من قبل ألمانيا. وخلال حقبة الحرب الباردة، كانت القوات السوفياتية على استعداد دائم لمحاربة القوات الأميركية وقوات الناتو في أوروبا. ومع ذلك، منذ نهاية الحرب الباردة، تمتعت روسيا بأمن غير مسبوق على أطرافها الغربية، حتى في الوقت الذي استقبل فيه الناتو أعضاء جددًا من الدول الواقعة إلى شرقه. بل إن موسكو رحبت بما كان من نواح كثيرة أهم إضافة إلى التحالف: ألمانيا موحدة. عندما كانت ألمانيا تتوحد في نهاية الحرب الباردة، فضل الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ترسيخها في الناتو. وكما قال لوزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، فإنه كان يعتقد أن أفضل ضمان للأمن السوفياتي والروسي هو ألمانيا “محتواة داخل الهياكل الأوروبية”.

من المؤكد أن آخر القادة السوفيات وأول الزعماء الروس لم يتصرفوا كما لو أنهم يخشون هجومًا من الغرب. وقد انخفض الإنفاق الدفاعي السوفياتي والروسي بشكل حاد في أواخر الثمانينيات وخلال أواخر التسعينيات، بما في ذلك بنسبة 90 في المائة بين العامين 1992 و1996. كما تم خفض الجيش الأحمر الذي كان هائلاً في السابق إلى النصف تقريبًا، مما جعله أضعف، بالمعاني النسبية، مما كان عليه في حوالي 400 سنة كاملة -حتى أن غورباتشوف أمر بانسحاب القوات السوفياتية من بولندا ودول حلف وارسو الأخرى، في ما كان في المقام الأول أجراء لتوفير التكاليف والنفقات. وكان كل ذلك جزءا من استراتيجية أكبر لتخفيف توترات الحرب الباردة حتى تتمكن موسكو من التركيز على الإصلاح الاقتصادي في الداخل. ولكن، حتى غورباتشوف ما كان ليسعى إلى هذه العطلة من الشؤون الجيوسياسة لو أنه كان يعتقد أن الولايات المتحدة والغرب يمكن أن يستفيدا منها.

وكان حكمه منطقياً. لم يكن للولايات المتحدة وحلفائها أي مصلحة في استقلال الجمهوريات السوفياتية، كما أوضح الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في خطابه في العام 1991 في كييف، والذي شجب فيه “النزعة القومية الانتحارية” للأوكرانيين ذوي الاتجاهات الاستقلالية (الذين سيعلنون الاستقلال بعد ثلاثة أسابيع لاحقاً). وفي الواقع، لعدة سنوات بعد العام 1989، كانت سياسات الولايات المتحدة تهدف أولا إلى إنقاذ غورباتشوف، ثم إنقاذ الاتحاد السوفياتي، ثم إنقاذ الرئيس الروسي بوريس يلتسين. وخلال فترة الانتقال من اتحاد غورباتشوف السوفياتي إلى روسيا يلتسين -وقت الضعف الروسي الأكبر- كانت إدارة بوش ثم إدارة كلينتون مترددتين في توسيع الناتو، على الرغم من الالتماسات التي تصبح أكثر إلحاحاً باطراد من دول حلف وارسو السابقة. وأنشأت إدارة كلينتون منظمة “الشراكة من أجل السلام”، التي كانت تأكيداتها الغامضة على التضامن تقل كثيراً عن تقديم ضمان أمني للأعضاء السابقين في حلف وارسو.

من السهل أن نفهم لماذا لم تشعر واشنطن بأي حافز كبير لدفع الناتو شرقاً. كانت قلة من الأميركيين في ذلك الوقت تنظر إلى منظمة الحلف على أنها حصن ضد التوسع الروسي، ناهيك عن أن تكون وسيلة لإسقاط روسيا. من وجهة نظر الولايات المتحدة، كانت روسيا مسبقاً مجرد قشرة لذاتها السابقة. وكان السؤال هو ما إذا تبقى للناتو أي مهمة على الإطلاق الآن بعد أن انهار الخصم الكبير الذي كان يستهدفه -وبالنظر إلى مدى التفاؤل الذي بدت عليه فترة التسعينيات لمعظم الأميركيين والأوروبيين الغربيين. كان يُعتقد أن هذا هو وقت التقارب، حيث كانت كل من الصين وروسيا تتجهان بشكل حتمي نحو الليبرالية. وحلت الجغرافيا الاقتصادية محل الجغرافيا السياسية، وكانت الدولة القومية في طريقها إلى الزوال، وكان العالم “مسطحًا”، فيه سيدير الاتحاد الأوروبي القرن الحادي والعشرين، وتنتشر مثُل “التنوير” في جميع أنحاء الكوكب. وبالنسبة لحلف الناتو، كان شعار اليوم هو “خارج المنطقة، أو خارج نطاق العمل”.

ولكن، بينما كان الغرب يتستمتع بتخيلاته وكانت روسيا تكافح للتكيف مع عالم جديد، نظر السكان المتوترون إلى الشرق من ألمانيا -البلطيق والبولنديون والرومانيون والأوكرانيون- إلى نهاية الحرب الباردة على أنها أحدث مرحلة فقط في نضالهم المستمر منذ قرون. بالنسبة لهم، لم يكن الناتو شيئاً عفا عليه الزمن. بدلاً من ذلك، رأوا في ما تعتبره الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أمرًا مفروغًا منه -ضمان الأمن الجماعي بموجب المادة 5- مفتاحًا للهروب من ماض دموي طويل وقمعي. ومثل الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى، الذين كانوا يخشون اليوم الذي ستهددهم فيه ألمانيا متعافية مرة أخرى، اعتقد الأوروبيون الشرقيون أن روسيا ستستأنف في النهاية عادتها الإمبريالية التي استمرت لقرون وتسعى إلى استعادة نفوذها التقليدي على جيرانها. وأرادت هذه الدول الاندماج في رأسمالية السوق الحرة لجيرانها الغربيين الأغنى، وكانت العضوية في الناتو والاتحاد الأوروبي بالنسبة لها هي السبيل الوحيد للخروج من ماض كئيب وإلى مستقبل أكثر أمانًا وديمقراطية وازدهارًا. ولم يكن مفاجئًا، إذن، أنه عندما أرخى غورباتشوف ثم يلتسين الأعنّة في أوائل التسعينيات، اغتنم كل عضو حالي في حلف وارسو، وسابقٍ فيه لاحقاً، وكل جمهورية سوفياتية الفرصة للانفصال عن الماضي وتحويل ولائهم من موسكو إلى الغرب عبر-الأطلسي.

ولكن، على الرغم من أن هذا التغيير الهائل لم تكن له علاقة كبيرة بسياسات الولايات المتحدة، إلا أنها كانت له علاقة كبيرة بواقع هيمنة الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. يميل العديد من الأميركيين إلى مساواة الهيمنة بالإمبريالية، لكن الاثنين مختلفتان تماماً. الإمبريالية جهد نشط تقوم به دولة لإجبار الآخرين على الخضوع لمدارها، في حين أن الهيمنة هي شرط أكثر من كونها غاية. وفيها تمارس دولة قوية عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا تأثيرًا على الدول الأخرى بمجرد وجودها نفسه، بالطريقة التي يؤثر بها جسم أكبر في الفضاء على سلوك الأجسام الأصغر من خلال جاذبيته. وحتى لو لم تكن الولايات المتحدة توسع نفوذها بقوة في أوروبا، وبالتأكيد ليس من خلال جيشها، فإن انهيار القوة السوفياتية عزز تأثيرها الجذاب هي وحلفائها الديمقراطيين. وأدى ازدهار هؤلاء الشركاء وحريتهم -ونعم، قدرتهم على حماية دول المدار السوفياتي السابق، عندما اقترن ذلك بعدم قدرة موسكو على توفير أي من هذه الامتيازات، إلى تحول كبير في التوازن في أوروبا لصالح الليبرالية الغربية على حساب الأوتوقراطية الروسية. وهكذا، لم يكن نمو نفوذ الولايات المتحدة وانتشار الليبرالية هدفًا لسياسة الولايات المتحدة بقدر ما كان النتيجة الطبيعية لهذا التحول.

كان بإمكان القادة الروس التكيف مع هذا الواقع الجديد. فقد تكيفت قوى عظمى أخرى مع تغييرات مماثلة. كان البريطانيون في يوم من الأيام أمراء البحار، وأصحاب إمبراطورية عالمية واسعة، ومركز العالم المالي. ثم فقدوا كل شيء. ولكن، على الرغم من أن البعض منهم أحسوا بالإذلال لأن الولايات المتحدة تجاوزتهم وحلت محلهم، تكيف البريطانيون سريعا مع مكانهم الجديد تحت السماء. كما خسر الفرنسيون إمبراطورية عظيمة أيضا، وهزمت ألمانيا واليابان في الحرب وفقدتا كل شيء باستثناء موهبتهما في إنتاج الثروة. لكن هؤلاء جميعًا تمكنوا من التكيف، بل ويمكن قول إنهم أصبحوا أفضل حالاً معه.

كان هناك بالتأكيد روس في التسعينيات -وزير خارجية يلتسين، أندريه كوزيريف، على سبيل المثال- ممن اعتقدوا أن على روسيا اتخاذ قرار مماثل. وكانوا يرغبون في دمج روسيا في الغرب الليبرالي حتى على حساب الطموحات الجيوسياسية التقليدية. ولكن، لم يكن هذا هو الرأي الذي ساد في روسيا في نهاية المطاف. على عكس المملكة المتحدة وفرنسا -وإلى حد ما اليابان- لم يكن لروسيا تاريخ طويل من العلاقات الودية والتعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة -بل العكس تماما. وعلى عكس ألمانيا واليابان، لم تتعرض روسيا للهزيمة العسكرية، والاحتلال، وبالتالي الخضوع لإصلاح في هذه العملية. وخلافًا لألمانيا، التي كانت تعلم دائمًا أن قوتها الاقتصادية لا يمكن قمعها، وأنها يمكن أن تزدهر في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، على الأقل، لم تصدق روسيا أبدًا أنها يمكن أن تصبح قوة اقتصادية ناجحة. وقد اعتقدت نخبها أن النتيجة الأكثر ترجيحًا للاندماج ستكون انخفاض مرتبة روسيا، في أحسن الأحوال، إلى قوة من المرتبة الثانية. ستكون روسيا في سلام، وستظل لديها فرصة لتزدهر. لكنها لن تحدد مصير أوروبا والعالم. (يُتبع)

*روبرت كاغان Robert Kagan: زميل “ستيفن وباربرا فريدمان” الرفيع في معهد بروكينغز، ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان “الشبح في العيد: أميركا وانهيار النظام العالمي” 1900-1941″ The Ghost at the Feast: America and the Collapse of World Order, 1900–1941.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Price of Hegemony: Can America Learn to Use Its Power?

المصدر: (فورين أفيرز)/ الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى