غادر نابليون بونابرت روسيا مهزوماً في عام 1872، عائداً إلى فرنسا بعد ستة أشهر من بداية حملته عليها. كان الروائي الروسي ليو تولستوي ينظر، مثل كثيرين في ذلك العصر، إلى بونابرت بغرور العظمة وريعان الحياة التي لا يفهم أحد معناها، ولغز الموت الذي لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى سره أو يفسر دلالته. هذه اللغة الفلسفية لدى تولستوي كانت أسهل وأيسر حين يقول «إنني أذهب إلى الحرب لأن الحياة التي أحياها لا تناسبني، ونحن هنا لنقاتل من دون أن نفكر».
تولستوي عملاق العمالقة ممن أنجبتهم روسيا في عالم الرواية، ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. روائي ومصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي.
أدى الغزو الفرنسي لروسيا إلى خسارة 44 ألف جندي من الجيش الإمبراطوري الروسي و35 ألف جندي فرنسي بين قتيل وجريح. وكانت أكثر حروب نابليون دموية، بل إنها كانت أكثر الحروب الدموية في التاريخ البشري حتى ذلك الوقت. وتفاخر الروس بأنهم صمدوا في وجه نابليون ولم يعطوه الفرصة التي كان يحلم بها، تماماً مثلما يحدث هذه الأيام، بعد قرنين من الزمان، حيث يتفاخر الأوكرانيون بأنهم صامدون رغم كل الدمار والدماء ولم يمنحوا روسيا الجائزة التي كانت تحلم بها.
قال نابليون عن معركة موسكو «إنها أسوأ معركة خضتها في حياتي. لقد أظهر الفرنسيون أنفسهم بمظهر مستحقي النصر، وأظهر الروس أنفسهم بمظهر غير المقهورين». وهذا يذكرني بأنشودة وطنية عراقية ظهرت في الأيام الأولى بعد حرب الكويت في عام 1991 يقول مطلعها «ما يهمنا كل اللي صار… المهم مأمونة الدار»! الموقف يتجدد اليوم في أوكرانيا؛ هناك مصنعان للنصر أحدهما في موسكو والآخر في كييف.
ولأن اسم تولستوي ارتبط بالحرب والسلام، فإن أي رئيس دولة عسكري أو وزير دفاع أو رئيس أركان جيش أو معظم كبار القادة والجنرالات لا بد أن يكون قرأ، ولو من باب الفضول، رواية «الحرب والسلام».
الفضل الأول في نشر الرواية عربياً يعود إلى الدبلوماسي السوري السابق الدكتور سامي مصباح الدروبي (1921 – 1976) الذي ترجم معظم روايات تولستوي ودوستويفسكي وبوشكين بلغة عربية بليغة وعذبة. وقد وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين السفير الدروبي بأنه «مؤسسة ثقافية إنسانية كاملة»، واستفاد المترجم المتميز من تنقلاته الدبلوماسية بين إسبانيا والمغرب ويوغوسلافيا ومصر، واستطاع أن يكسب ثقة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وصداقته؛ إذ عامله كصديق، في وقت كان عبد الناصر يحرص فيه على خبرة إنسانية وثقافة موسوعية، توطدت من إعجاب الرئيس الراحل بالأدب الروسي الرفيع، وخاصة «الحرب والسلام» لتولستوي و«الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. وبلغ إعجاب عبد الناصر بشخصية سامي الدروبي أن عرض عليه بعد انفصال سوريا ومصر، عقب فشل الوحدة بينهما في عام 1961 منصب سفير في الخارجية المصرية ليبقى قريباً منه. وحدث أن اختارت سوريا الدروبي نفسه سفيراً لها في القاهرة، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ويتذكر جيلنا أن عبد الناصر بكى تأثراً بالكلمة البليغة التي ألقاها السفير أمامه، ونعى فيها موت أول وحدة عربية في عصرنا.
ما زلنا في حديث «الحرب والسلام» وبوتين وزيلينسكي. وأشير هنا إلى أن تولستوي كان ضابط مدفعية في شبة جزيرة القرم الروسية في ذلك الزمان، والأوكرانية في هذا الزمان.
قبيل اغتياله في عام 1968 قال الناشط الأميركي من أصول أفريقية مارتن لوثر كينغ «الحرب هي فأس سيئة لنحت الغد». وهي حكمة تتداولها الأمم والأجيال التي اكتوت بنيران الحروب والاحتلال والتفرقة العنصرية منذ الحرب العالمية الأولى إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، مروراً بحروبنا في فلسطين والعراق واليمن وسوريا وليبيا والسودان. لقد عملت الفأس السيئة نحتها الدامي في غدنا الذي لم نهنأ فيه.
خلال الحرب الباردة لاحظ القاضي الألماني والسياسي والفيلسوف والأستاذ الجامعي هانز مورغنثاو، أن «من الأسهل أن توجد الشجاعة في الحالات التي يَعتقد فيها القادة أن تجنب الحرب خلال أزمة ما يمتلك فرصة جيدة لإحباطها تماماً. وخلال الحرب الباردة نجح زعماء الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في إدارة سلسلة من الأزمات، كانت أخطرها مشكلة الصواريخ الكوبية، وبذلك جعلوا أملهم في إمكانية تجنب الحرب بينهما يتحقق ذاتياً». وقد عارض هذا الباحث التدخل الأميركي في فيتنام.
ولأن الطريق إلى الحروب صارت سالكة أكثر من أي وقت مضى في كل القارات، فإن مؤلفاً أميركياً مهماً مثل ريتشارد نيد ليبو، يرى «أن هناك أربعة عوامل عامة دفعت دولاً مختلفة إلى الحرب، وهي: الخوف، والمصلحة، والمكانة، والانتقام». وتخضع هذه العوامل إلى الأمزجة الشخصية والعامة في كثير من الأحيان. لكن لا الخوف يتوارى، ولا المصلحة تتحقق، ولا المكانة تُحترم، ولا الانتقام يُجدي. لماذا الحرب إذن؟!
كنت قد قلت في مقالي السابق عن الملاجئ والإنفاق الأوكرانية «إن الحرب الروسية من طرف واحد هو روسيا، والرئيس بوتين لا ينفي ذلك، بينما صواريخه تنهال ليلاً ونهاراً على أوكرانيا، وليس أمام الجيش الأوكراني سوى الدفاع عن المدن ومحاولة منع الجيش الروسي من دخول العاصمة كييف والمدن الأخرى. فحتى الآن ومنذ شهر مضى لم توجه أوكرانيا أي قصف جوي أو صاروخي إلى روسيا». وكأن الجيش الأوكراني قرأ المقال، وغالباً هي صدفة، فقد شنت أوكرانيا يوم الجمعة الماضي لأول مرة غارة جوية على منشأة لتخزين الوقود في مدينة بلغورود الروسية التي تقع على بعد نحو أربعين كيلومتراً من حدود أوكرانيا.
أي حرب دولية هي مأساة بسبب فوضى النظام الدولي كما يقول «السياسيون الواقعيون» بسبب «غياب الحكومة» أو «قانون الغاب» أو «نظام اجتماعي من دون تسلسل هرمي». أما «السياسيون الأحدث» فيتمسكون بأهمية توازن القوى في أي حرب، وهي نظرية موروثة من القرن الثامن عشر في أوروبا، وكثيراً ما توصف تلك الفترة بالعصر الذهبي لتوازن القوى. وإذا طبقنا هذه المعايير على الحرب الروسية في أوكرانيا فهي تنتمي إلى «العصر النحاسي» لعدم توازن القوى بين موسكو وكييف. وهو أمر ينتقص من «هيبة» الحرب الروسية ويعزز «الدعوات» إلى السلام الأوكراني. نحن نتحدث هنا عن رواية «الحرب والسلام» لتولستوي… ورحم الله السفير السوري الاستثنائي سامي الدروبي.
المصدر: الشرق الأوسط