نلتقي مجموعة الاتصال العربية اليوم وزير الخارجية الروسي في موسكو، وستلتقي نظيره الأوكراني في وارسو، “لإجراء مشاورات في شأن الأزمة الأوكرانية، وإمكان المساهمة في إيجاد حلّ دبلوماسي لها”.
هذه الخطوة وعنوانها يهدفان إلى تأكيد الموقف العربي الوسطي، بين رفض التدخل العسكري الروسي (انسجاماً مع المبادئ الدولية وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة) ورفض العقوبات الاقتصادية (باعتبار أنها تتسبّب بالأزمة الغذائية العالمية) والمطالبة بحل سلمي للأزمة، وهو ما تتطلّع إليه معظم دول العالم، وما تحاوله الوساطات المتعدّدة، وما يُفترض أن تتمخّض عنه المفاوضات الروسية – الأوكرانية بعد انتقالها من حدود بيلاروسيا إلى إسطنبول. لكن “الحل السلمي” بات مصطلحاً مجازياً إلى حدّ كبير، إذ إن الغزو الروسي دمّر عدداً كبيراً من المدن والبلدات، وعطّل اقتصاد أوكرانيا، وهجّر الملايين من أبنائها إلى خارج بلادهم، وغدا لطخة سوداء في التاريخ المشترك للبلدين والشعبين.
لم يعلن وزراء خارجية المجموعة العربية (مصر والأردن والجزائر والسودان والعراق والإمارات والأمين العام للجامعة) مبادرة محدّدة يعتزمون طرحها، وليس مؤكداً أن الأفكار التي يحملونها ستُحدث اختراقاً في الأزمة أو في مواقف طرفيها.
وعلى رغم الجهود التي بُذلت لإبداء “الحياد العربي”، فإنه قُرِئ عموماً بأنه أقرب إلى روسيا وهذا يكفيها، من دون أن يكون معادياً لأوكرانيا وهذا لا يكفيها، وأنه ينأى بنفسه عن عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأطروحاتهما، وإن كان يناهضها في بعض الجوانب، كما أنه يراقب عن كثب موقف الهند التي تحاول الحفاظ على مصالحها الضخمة المزمنة مع روسيا ومصالحها المهمة المستجدّة مع الولايات المتحدة، ويسير بموازاة الصين المتشاركة مع روسيا في طموح تغيير النظام الدولي المؤسس على هيمنة أميركية وغربية.
يبقى تحرّك الوزراء العرب أمراً جيداً، حتى لو كان بروتوكولياً، لأنه يذكّر بمبادرات ووفود سابقة لم تحقّق النتائج المرجوّة، لكنها كانت تعكس محاولة العرب الحفاظ على مظاهر التضامن في شأن قضاياهم، ولا سيما “القضية المركزية”، أي الفلسطينية، التي يبدو أنها لم تعد توحّدهم، أو بالأحرى بات يستحيل توحيد كلمتهم حولها، ولا حول أيٍّ من خمس أزمات وقضايا أخرى عصفت بالعالم العربي ولا تزال اليوم متفاعلة.
قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، في بيان بعد لقائه سفراء دول مجموعة الـ7 في بغداد، إن “مبادرة” الجامعة العربية بالنسبة إلى الأزمة الأوكرانية تهدف إلى “الاستماع إلى كل الأطراف ذات العلاقة وتبادل وجهات النظر، وصولاً إلى حلّ يهدف إلى التهدئة وضبط النفس ووقف إطلاق النار، وبما بكفل عودة الاستقرار وإنهاء الأزمة الإنسانية القائمة”. ومع تأكيده حرص العراق على “إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن”، لفت الوزير إلى أن “موقف بغداد في اتخاذ الحياد ينسجم مع أحكام الدستور العراقي، وهو يعني عدم الوقوف مع جهة ضد جهة أخرى”، علماً بأن هناك جهة معتدية وأخرى معتدى عليها.
هذه الإشارة إلى “الحياد” تعني أن الوزراء العرب أُحيطوا علماً بالملفات العالقة في المفاوضات الروسية – الأوكرانية. فالعقدة الرئيسية عنوانها: “حياد أوكرانيا”، ومنها تتفرّع العُقد والمتطلّبات الأخرى، وصولاً إلى اتفاق لإنهاء الحرب. ولا بدّ من أنهم مدركون غرابة أن تغزو دولة كبرى دولة مجاورة وتدمّر مدنها لتفرض عليها أن تكون “محايدة”، وكانت روسيا قبل ذلك قد ضمّت شبه جزيرة القرم، ثم اعترفت عشية الغزو بـ”جمهوريتين شعبيّتين” مقتطعةً ثلث أراضي أوكرانيا.
لا يأتي الغزو من صديق، بل من عدو. مع ذلك، ونظراً إلى موازين القوى، وإلى أن الدول الصديقة (الغربية) في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لم تشأ ضم أوكرانيا إلى عضويتها، فإن كييف وافقت على أن تصبح “دولة محايدة” وعلى معظم المبادئ التي يمليها وضع كهذا، لكن ثمة تفاصيل كثيرة هي الآن موضع تفاوض صعب بين طرف روسي يملي شروطه ليوقف الحرب، وطرف أوكراني يريد أن يحافظ على سيادته ووحدة أراضيه، وعلى دولته وجيشه.
مسألة “الحياد” كمسألة “عدم الانحياز”، تبقى غامضة وملتبسة، فلن تثق موسكو بـ”حياد أوكرانيا” إلا إذا ضمنت ارتباطها العضوي بها، ولن تقبل بإعادة أراضيها موحّدة إلا إذا ضمنت تغيير تركيبة النظام في كييف لتبقى لها، من خلال الروس الأوكرانيين، حصة دائمة ومدسترة في الحكم والحكومة وفي الجيش والأمن والسياستين الداخلية والخارجية. وفي هذه الحال فقط يمكن موسكو أن تطلب من أنصارها في إقليم دونباس التخلّي عن مطلب الانفصال، وأن تسحب اعترافها بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
والأكيد أنها ترفض أي تفاوض على شبه جزيرة القرم كأرض “متنازع” عليها، بل تعتبرها جزءاً من الأراضي الروسية، وإنْ لم ينل ضمّها عام 2014 والاستفتاء الشعبي فيها أي اعتراف دولي… منذ البداية كانت هذه الشروط والاعتبارات الروسية معروفة، وقد مضت إلى الحرب أولاً ثم إلى التفاوض، للحصول على ما تريده بالقوة وليس بالتفاهم. فهذا هو منطق موازين القوى، ومهما بلغت المساعدات العسكرية الغربية لكييف فإنها لن تغيّره، وكل ما تستطيعه هو إطالة الحرب لاستنزاف الطرف الأقوى وإغراقه في مستنقع، وفي هذه الحال فإن أوكرانيا هي هذا المستنقع.
لا تطمح مجموعة الاتصال العربية لأن تكون “وسيطاً” في هذه الأزمة، فهي تأتي متأخرة، ولا يسمح لها “الوزن الاستراتيجي” الهشّ للمنطقة العربية بمنافسة وساطة ألمانيا وفرنسا المرتبطة مباشرة بفلاديمير بوتين، أو تركيا التي يمنحها بوتين دوراً ليستكمل جذبها استراتيجياً إلى جانب روسيا، أو حتى وساطة إسرائيل التي لم تنجح.
تبقى للمجموعة العربية مهمة رصد الجوانب التي يمكن أن تخدم المصلحة العربية، على افتراض أن هناك تعريفاً وتطبيقاً موحّدين لهذه المصلحة. من الطبيعي أن يكون تواصل مع طرفَي الأزمة الدولية الراهنة لإبداء حسن النيّة واستباق التداعيات السلبية للحرب، أو تخفيف وطأتها على الاقتصادات والأوضاع الاجتماعية في البلدان العربية. لكن هذا التحرّك العربي يستدعي ملاحظتَين: الأولى، أنه مدعو لأن يشمل أيضاً التواصل مع الدول الغربية لئلّا يشيَ بتعجّل عربي إلى النظام الدولي “الجديد” للتخلص من خيبات الأمل التي حصدها من النظام الدولي “السابق”/ الحالي. والثانية، أن توق المجموعة العربية للتوسّط في أزمة دولية كهذه يمكن، بل يجب أن تحفزها على مبادرات موحّدة للتوسّط إن لم يكن لحلّ الأزمات التي سمّمت الأجواء العربية طوال العقدين الماضيين.
المصدر: النهار العربي