رغم غيابه في 30 آذار/ مارس عام 2000 عن عمر 78 عاماً، إلاّ أنه دائم الحضور بيننا؛ في سهراتنا ونقاشاتنا وأحاديثا يكون دائم الحضور وليس هذا غريباً، فمن مشاركته في صباه بتشكيل حزب البعث الذي سرعان ما غادره إلى الناصرية التي رأى فيها تجسيداً حقيقياً وليس مزيفاً لحلمه في توحيد الأمة ونهضتها وتقدمها وخلاصها من التخلف الذي واكبها أثناء فترة الاستعمار، فعبد الناصر الذي رفع شعار تحرري: إرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعمار، وعلى الاستعمار أن يحمل عصاة ويرحل، وشعارات اجتماعية: القضاء على تحالف الاقطاع ورأس المال، كان يجسد أحلام الأمة من الخليج إلى المحيط… لذلك حمل جمال أتاسي هذا الحلم في سورية مع ثلة من رفاقه المتميزين أمثال عبد الكريم زهور عدي وسامي الدروبي وغيرهم من عمالقة الأدب والفكر في سورية، وبعد تجربة الوحدة الرائدة، والانفصال المشؤوم، جسد هذا الحلم بتأسيس حزب ناصري كان شعاره الأول وعنوان منهاجه المرحلي اسقاط الانفصال وإعادة الوحدة، وذلك مع لفيف من هؤلاء المتميزين في 18 تموز عام 1964، وبقي معه حتى رحيلة أمده بالفكر الناضج والرؤيا المتميزة، كان رجُلْ وحدة وتوحيد، لذلك سعى دائماً لإقامة التحالفات وتوسيع دائرة المهتمين بقضايا الأمة التي استقرت في تجربة التجمع الوطني الديمقراطي، الذي شكل مثالاً يحّتذى في أكثر من قطر عربي، ساهم في مؤتمرات الحزب الثمانية والتي كان آخرها المؤتمر الثامن والذي عقد في آذار/ مارس 2000 قبيل وفاته، والذي بذل لعقده الجهد الكبير، وكانت كلمته الافتتاحية ماتزال إلى الأن خطاً ناظماً للحزب والمجتمع، ومعها قرر الخروج من السرية إلى العلنية، وذلك في عهد الأسد الأب الذي عطل فيما عطل الحياة السياسية في سورية.. وكانت أول مظاهر هذه العلنية- مع الأسف- هي الاحتفالية بأربعين غيابه، والتي عقدت في وسط دمشق وبحضور شعبي وعربي شهد له، وشارك به الجميع من المغرب إلى الخليج من رفاق دربه من حاملي مشروع نهضة الأمة..، وكما مسيرة العظماء في كل زمان أتى بعده من لم يستطع حمل الراية ومتابعة الطريق، وبدأ التفريط والتخاذل والأهواء الشخصية لتكسر الثوابت التي أرساها جمال الأتاسي وسار عليها، ولينهار ذلك البنيان الراسخ الذي عمل عليه لأكثر من 35 عاماً. ومن ينادي اليوم بترميم ما تبقى من هذا الجسم يجب أن يعرف أن لذلك قواعد وأسس هي غائبة عن ذهنه كون تجربته لا ترقى لأن يكون هو الجامع والموحد بعد كل من ساهم بالتفرقة والانحدار…
جمال أتاسي كان قدوة في كل شيء، لم يعش حياة الأرستقراطيين وهو ابن العائلة الأرستقراطية التي أعطت لسورية أكثر من رئيس جمهورية بل عاش من كد يده كأي مهني متميز في الطب النفسي، وبقيت عيادته مفتوحة لآخر أيامه للمرضى والسياسيين والصحافيين وأعضاء حزبه، وهو الذي انفتحت له أبواب السلطة والثروة فرفضها لتناقضها مع أهدافه، قَبِل وزارة الإعلام مع حركة 8 آذار/ مارس 1963 كحركة ناصرية وتقدمية، وسرعان ما غادرها عندما سأله فيلسوف فرنسي: كيف وأنت المثقف التقدمي تقبل منصباً في حكومة أتت بانقلاب عسكري؟ وعندما تأكد من أن البعث سوف يُجهض الحركة ويقيم تجربته الخاصة التي مازالت سورية تئن تحت وطأتها وأدت إلى خراب سورية وتدميرها وتشريد أهلها.
الوفاء لجمال أتاسي هو بالاستمرار على نهجه وهو النهج الوطني الديمقراطي الذي يتجسد في مشروع النهضة في هذا الزمن الرديء الذي نرى من يُسموّن قادة وحكام عرب يعقدون القمم مع عدونا وعدوهم التاريخي غير مبالين بجراح الأمة ونكباتها، ولا عجب، فمن وضعهم في مناصبهم له الحق بتوجيه الأوامر وعليهم السمع والطاعة. أعان الله هذه الأمة وأقالها من عثارها ليبدأ عصر الشعوب وليس ذلك على الله ببعيد.
المصدر: موقع الحرية أولًا