جيل جمال الأتاسي هو جيل تفتح الوعي الوطني والقومي، عاش الكفاح الوطني من أجل استقلال سورية فأعطاه ذلك الكفاح الروح الوطنية النقية المتحفزة، وعاش الاستقلال فمنحه الاستقلال شعور العزة والنصر، ورغم المرارة والألم العميق الذي عايشه بخسارة فلسطين، لكنه لم يكن في معركة فلسطين غائبًا، لقد شارك بكل مايملك وخسر لكنه لم ينهزم .
حفرت فلسطين في قلبه جرحًا عميقًا، دفعه لاحقًا نحو الوحدة والثورة لأجل العودة لطريق التحرير. طعم الكفاح ضد الاستعمار، ومعنى النصر الذي حمله الاستقلال بقي يغذي عنده الإصرار على الكفاح السياسي. لاحقًا تجسد ذلك بالاندفاع نحو الوحدة، ثم بدمج الاندفاع الوحدوي بالنضال الاجتماعي .
في سيرة جمال الأتاسي نرى ذلك الحماس للهدف، والإصرار على الطريق، لكننا نرى أيضًا الثقافة والوعي السياسي .التمسك بالمبادىء، النزاهة وسمو أخلاق المناضل، النقد والتجديد في الخط الفكري – السياسي، حب الجماهير والاقتراب الدائم منها، واختيار حركتها كأداة للتغيير .
جمال الأتاسي كان مرجعية فكرية وسياسية هامة في سورية ـ لم يترك ميدان العمل والممارسة كما لم يترك الكتابة حتى وفاته، بمقدار ماكان براغماتيًا في السياسة كان صلبًا في المبادىء،
ناصرية جمال الأتاسي لم تكن مجرد نزعة عاطفية، ولا التقاط حالة شعبوية، لقد كانت انحيازًا واعيًا للخط الفكري – السياسي الذي تحول بفضل عبد الناصر إلى تيار شعبي واسع .
هي ناصرية متجددة، أو قابلة للتجديد باستمرار، لاتنتهي عند التجربة الناصرية لكن تلمع فيها تلك التجربة كمنارة على الطريق .
ناصرية قادرة على إمعان النظر في جوانب قصورها، في أخطائها، هذا الحس النقدي هو ما يفتح أمامها الطريق ويبعدها عن الجمود .
كتب جمال الأتاسي في ” إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي ” متحدثًا عن مرحلة مابعد هزيمة حزيران 1967:” لعل الخطأ الكبير الذي وقع به نظام عبدالناصر والأدوات التنفيذية لسلطته الثورية، كما وقعت به ثورات ونظم ثورية أخرى، هو أنها لم تساعد على تفتيح هذا الوعي النقدي، أي تقدم الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية في مساراتها كلها، ولم تعمل على خلق أدوات مثل هذا الوعي الجماعي، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر، فضلاً عن أنها في عدد من مراحل هذه الثورة، عملت ضد تفتح هذا الوعي النقدي وأدواته”
في عام 2000 ألقى الدكتور جمال الأتاسي كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي قال فيها: ” ماكانت قضايا الديمقراطية، وتعميم الثقافة الديمقراطية، والحوار والتعددية وتكريس مبادىء سيادة الحق والقانون في الدولة والمجتمع وغيرها… هي شاغلنا وشاغل أحزابنا الثورية في الخمسينات والستينات بل فكر الثورة والاستقلال الوطني والتحرر القومي والتقدم الثوري وحرق المراحل تقدميًا لتقوى على مواجهة أعداء الأمة والقوى المعادية لتقدمها “.
هكذا وقبل وفاته يرسم جمال الأتاسي بأمانة مستقبل الحركة الناصرية في نقده السابق، فمستقبلها اليوم مرتبط بالنضال من أجل الديمقراطية وسيادة القانون وحرية المواطن وكرامته ، وفي سورية أصبح مرتبطًا بأهداف الثورة السورية بالحرية والكرامة والديمقراطية وإسقاط الاستبداد.