- الحقبة الإسرائيلية ومستقبل هذه الأمة، وأسس إعادة نهضتها، وما يدعى بالتسوية العربية- الإسرائيلية، وكيفية الحد من الهيمنة الصهيونية مقابل الذل العربي هي المحور الأول للقاء الدكتور الأتاسي والذي قال فيه:
– ما من أحد يستطيع أن يماري في أننا نعيش حقبة مظلمة من تاريخ أمتنا العربية. وأياً ما ساعدت تطلعات البعض المستقبلية فيما مضى، فما كنا نتصور أن هذه الأمة وبكل تاريخها وكل ما تحمله من إمكانيات، يمكن أن تصل إلى مثل هذه الحالة التي وصلت إليها من الضياع وانعدام الوزن، بحيث أصبح أعداؤها هم المتحكمون في مصادرها وأقدارها.
إنها حقبة بلغ فيها التراجع العربي أقصى مدى، أو هذا ما يبدو للعيان، فبعد حقبة من النهوض القومي، مهما قيل اليوم عن مصاعبها وعثراتها، كانت بحق حركة نهوض وتقدم لشعوب الأمة، لحركة التحرر العربي، شقت بها طريقاً نحو أهداف الأمة في الاستقلال والوحدة، وأعطتها مقومات استراتيجية ومرتكزات في مواجهة أخطر التحديات وهي حركة ما استطاعت هزيمة الجيوش في حرب حزيران عام 1967، في مواجهة الحلف الصهيوني – الأمريكي، أن تأتي عليها وعلى مشروعها وعلى صمود شعوبها وعلى مقومات تجددها: لولا أن أخذتها بعد ذلك حركة الردة والثورة المضادة من داخلها، لتدشن بعد ذلك، وبعد فك الاشتباك في حرب تشرين، والمناداة بإنهاء الحرب، دون أن تحقق أهدافها كحرب تعبأت لها الأمة لإزالة آثار عدوان حزيران (والتي قال عبد الناصر فيها، إنها معركة لا بديل فيها للعرب عن النصر): لتدشن التراجع عن هذا الهدف وعما يأتي بعده من أهداف الأمة، ولتعمم صياغ هذه الأنظمة القطرية السلطوية والسلطانية في أقطار الوطن العربي والتي كان لها، ومن حيث النهج التي سارت عليه في الانفتاح والتابعية للخارج وفي الانغلاق والتسلط في الداخل، إن دمرت المرتكزات الاستراتيجية لنهوض الأمة الواحد تلو الآخر، وأولها حرية شعوبها وإرادة المقاومة والتحرير لشعوبها والتماسك الوطني لمجتمعاتها الشعبية، وحافظ النهوض والتقدم على طريق الاستقلال والوحدة لحركة شعوب الأمة.
كما كان لها أن دمرت أول ما دمرت دور مصر القومي وموقعها القيادي كمرتكز لمقاومة الأمة، وكضرورة من حيث بناء كيانها الوطني ككيان يتماشى مع الأمة العربية ومصالحها الكبرى وأهدافها في النهوض والوحدة.
إن محمد حسنين هيكل كشاهد عصر، وكقارئ نافذ للتاريخ وحركة التاريخ- كما يطيب له أن يقدم كتاباته وأفكاره- يقول بأننا وفي هذه المرحلة من تقهقرنا التاريخي، نمر بحقبة إسرائيل، لهيمنة إسرائيل ومعها شريكها الأمريكي الكبير، على مسارات هذه المنطقة من العالم وعلى المصالح فيها وتوجيه حركة الأحداث، بينما الأمة العربية في انقسام وغيبوبة شبه تامة عن الإمساك بمقاديرها وأهدافها.
ولكن هيكل في قراءته للتاريخ ومتابعته لحركة الأحداث في هذه المنطقة وفي العالم يضعنا أمام ثلاث حقب تعاقبت، فهناك حقبتان سبقتا هذه الحقبة أو هذا ((الزمن الإسرائيلي)) الذي يتقدم على حساب مشروع نهوضنا القومي ويتحدى وجودنا العربي والفلسطيني، ولقد المصطلح الأستاذ هيكل على تسمية الحقبة الأولى التي بدأت في الخمسينات بحقبة ((الثورة)) وصعود حركة الثورة، وهي حقبة النهوض الناصري التي جسدت ثورة حركة الشعوب وعودة العرب كاملة إلى مسرح التاريخ والفعل.. الحقبة التي أخذت فيها مصر الثورة، مصر عبد الناصر دورها العربي والإقليمي، بل والعالمي، في قيادة حركة تقدم الأمة نحو أهدافها. وأعطت القدوة لقيام الدولة الوطنية على صعيد القطر كدولة قومية أي كدولة للأمة، ولكل الأمة العربية، وكمرتكز نهوض جديد لهذه الأمة وتقدمها على طريق أهدافها، وفي مواجهة أعدائها، تلك الحقبة، سادت فيها حركة وعي قومي وتطلع للاستقلال ولوحدة شعوب الأمة، وتقدمت في حركة الشعوب قيم الثورة الوطنية والديمقراطية لمهماتها السياسية والاجتماعية والتنموية المستقلة. ولكن حقبة الثورة هذه تراجعت وانحسرت في السبعينات لتخلي الساحة لما يسميه هيكل بحقبة ((الثورة)) أو ((الحقبة النفطية)) وصعود دور أنظمة النفط الثروات النفطية المتزايدة، وقيم الاغتناء والمال المتدفق على الحكام، لتغطي على قيم الحرية والاستقلال والنضال، ويصبح دور الدول والدويلات النفطية هو المؤثر والمتقدم والذي يعطي القدوة والمدد لإعادة تشكيل أنظمتنا القطرية وطبقاتها الحاكمة المغتنية على حساب إضعاف مجتمعاتها وسلطتها على حركة شعوبها وإفقارها.
فحقبة الثورة والنفط تلك والتي خرجت بالأمة عن طريق الثورة الوطنية والتحرير والوحدة هي الحقبة التي نسميها نحن الناصريين، بحقبة التراجع والردة أو حقبة الثورة المضادة.. والتي تميزت أول ما تميزت بالارتداد في مصر ضد النهج الناصري، وتخلي مصر السادات عن دورها القيادي العربي والتزاماتها القومية وانخراطها في مسار التابعية للهيمنة الأمريكية ومسار كامب ديفيد، كما تميزت أيضاً بعجز القطار المشرق العربي التي تحمل شعارات الثورة والتحرير والوحدة، عن أن تقدم بتضامنها وصوتها مرتكزاً بديلاً يستنهض تجمع قوى الأمة، بل حل الانقسام وحلت الفرقة، وتعمم نمط الأنظمة القطرية والآخذة بالتراجع عن التزاماتها القومية، والمتكفلة إلى قطريتها وسلطويتها القطرية والمنخرطة في مسمار التابعية للخارج وللمركز الرأسمالي العالمي.. مسار إخضاع مجتمعاتها وقهر شعوبها.
إن تلك الحقبة الثانية المرتدة والتي أوهنت قوى الأمة وأوقعتها في التشتت والعجز، هي التي فتحت كل الثغرات في جسد هذه الأمة أمام الحملة الأمريكية- الإسرائيلية المركزة لقهر أمتنا والهيمنة على المنطقة، ولتحل بنا وبمنطقتنا العربية هذه ((الحقبة الإسرائيلية)). وبمقدار ما أخذت تتراجع المقومات والمرتكزات الاستراتيجية لمشروع نهوضنا القومية على طريق الاستقلال الوطني والتحرير والوحدة والتنمية المستقلة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري والانكفاء لمواقع القطرية والتابعية.
أخذ المشروع الصهيوني الامبريالي يتقدم في المنطقة ويتعمم تحت عنوان هذا النظام الشرق أوسطي الجديد، بعد أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتدمير كل ما يمكن أن يعترض سبيله من مقومات للتضامن العربي والأمن القومي، ومن مواقع وقوى أو تحصينات عربية في حرب الخليج الثانية والرهيبة وما جرته من نتائج مدمرة لتضع بعد ذلك العديد من أنظمتنا الحاكمة في هذا المسار الاستسلامي، المسمى بمسار التسوية السلمية الذي حيكت أواصره ومقدماته انطلاقاً من ((مؤتمر مدريد)) ووصولاً إلى ما وصلنا إليه من اختراقات لأنظمتنا ومجتمعاتنا، باسم السلام والتسوية والتطبيع وفتح الأسواق والتنمية الاستهلاكية، ولترتفع نجمة داوود علماً في سماء عدد من العواصم العربية، وفي الوقت التي أصبحت فيه واشنطن هي المرجع والموئل ((الحميم)) لقادة الأنظمة والحكومات العربية، وكأنها تكرس بتراجعها المهين ((حقبة إسرائيلية)) فحلقات السقوط والتراجع العربي تتوالى. بينما يتقدم المشروع الصهيوني الأمريكي هذا الشرق أوسطي الهادف إلى إلغاء وجودنا كأمة عربية وقطع طريق مستقبلنا.
ما هذا إلا استعراض أو قراءة لحقب توالت، ولكن السؤال يبقى فيما إذا كنا نمسك بعد هذا برؤية للمستقبل وآمال المستقبل، وبعد السقوط في شراك هذه ((الحقبة الإسرائيلية)) والمسطورة الأمريكية ما السبيل بعد هذا التراجع والانقطاع، إلى إعادة تأسيس نهوضي أو تجديد لمسار نهوض أمتنا؟
إن واقعنا العربي بائس اليوم والإحباطات كثيرة والتحديات خطيرة، ومستقبل هذه الأمة، أمتنا المستباحة من أعدائها والمكبلة بقيود أنظمتها ((القطرية)) تلك الأنظمة التي ضغطت كثيراً واستكانت في مواجهة الأعداء والاختراقات الخارجية، بينما قويت وتغطرست واشتدت كثيراً ضد شعوبها، بحيث وصل بعضها إلى أن يشن حرب إبادة ضد شعوبها أو فئات منها، هذا المستقبل مرهون بتجدد يقظة حركة شعوبها، وقدراتها على الدفع بحركة التغيير الحقيقية لمساحة الفعل والتأثير، وما قويت أمتنا في حقبة غير بعيدة على المواجهة والتصدي إلا بنهوض حركة شعوبها، ومن هنا يأتي التركيز اليوم على الطلائع والقوى المهتمة بمصير أمتها ومستقبلها، للدفع بحركة التغيير، الديمقراطي لأنظمتها ومجتمعاتها، بحيث تسترد الشعوب كرامتها وإرادتها الحرة لمجتمعاتها باستقلاليتها وحداثتها ومقومات نهوضها ووحدتها.
ولكي نتطلع للمستقبل أو لكي نستطيع طرح نفور للتحرك نحو المستقبل وأهداف المستقبل، لا بد لنا من التحكم في هذا الحاضر المأزوم لأمتنا وأنظمتنا ومجتمعاتنا، ومن الوقوف على مرتكزات لإيقاف هذا التراجع والسقوط الذي تتوالى حلقاته، للخروج بالأمة من ((حقبة إسرائيل)) ومسيرة الاستسلام، ومن الوقوف على خط ناظم بحركة تقدم شعوب هذه الأمة ونهج استراتيجي وبرنامج يجمع قواها، لردّ العدوان وللتحرك نحو المستقبل وليس من مستقبل إلا في وحدة هذه الأمة وفي أن يكون لها الاستقلال والسيادة في أرضها ومنطقتها، وأن يكون لها دورها في العالم.
لست بالباحث الذي يطمح للتحقيق في السيناريوهات التي ترسم احتمالات للمستقبل والتوقعات إنما في مواجهة هذا العناد الكبير، لا بد من تحري كل الوسائل والأسباب لاستنهاض حركة الشعوب، لكي تستعيد حركة الشعوب عنفوانها وإرادتها الحرة في صنع مستقبلها وثمة مشروع ومشاريع أو بالأحرى عناوين متداولة لمقومات نهوض الأمة، أو مبادئ عامة لأسس إعادة هذا النهوض وأنا لا أرى تصوراً في تأسيس جديد لحركة نهوض أمتنا العربية، أو من أسس لإعادة نهضتها إلا في التواصل مع ما انقطع من مسار نهضوي كانت فيه مصر الناصرية، مصر الثورة القدوة والنبراس، ومن تطلع لكل الدوائر ولأهداف التي كان يتطلع بها للمستقبل، وكان نهوضاً في المواجهة وليس في الاستسلام أمام الحلف الأمريكي الصهيوني الذي يقوم اليوم بمنطقتنا، بل ويخرجنا كأمة عربية وكمقاومة عربية لمشاريعه من التاريخ.
فالرئيس كلينتون عندما وقف خطيباً ليبارك توقيع الاتفاق الأردني الإسرائيلي قال ها نحن بصدد إعادة كتابة التاريخ، وإذا به لا يرى من بداية لتاريخ المنطقة إلا منذ وقوع مصر في مسار كامب ديفيد بعد أن بدأ سجله بزيارة قبر الرئيس السادات، ليقف بعد ذلك في وادي عربة مندداً بالذين يقامون التطبيع مع إسرائيل ومسيرة السلام، ولينادي كما نادى بعد ذلك وبعد كل حادث مقاومة، أنتم الماضي ونحن المستقبل!!
أما شمعون بيريز، وزير خارجية إسرائيل الحالي ذلك المهندس ((للحقبة الإسرائيلية)) ولصهينة المنطقة فقد سطر في كتابه ((شرق أوسط جديد)) حكمه وهي ((علينا أن نعرف كيف ومتى نتجاهل التاريخ فنحن لا نستطيع أن نسمح للماضي بصياغة تصورات راسخة يمكن أن تفشل قدراتنا على بناء طرق جديدة في التفكير والتصرف..)) وليضيف بعدها، ((إن الانسلاخ عن الماضي يعطي ميزة خاصة تتمثل في عنصر المفاجأة..)) فأي طرق جديدة وبأية مفاجآت، إلا محاولة سلخنا عن ماضينا وقطع طريق مستقبلنا وإلغاء هويتنا الثقافية والحضارية ووضع مشاريع إسرائيل والإمبريالية الأمريكية في الاقتصاد والهيمنة محل كل القيم الوطنية والقومية وفي معاداة العروبة والإسلام؟؟ ونحن نعيش اليوم حقبة من الانهيارات الكبرى في العالم وكل الأمم والقوى ترصد التغيرات وتعيد حساباتها، والكثير يتطلع إلى يقظة إنسانية جديدة لحركة الشعوب، وأمتنا المأزومة في حاضرها والتي تفتش عن مرتكز للتجمع والمواجهة لتخرج من حقبة الردة والضياع ولتتحرك نحو أهدافها المستقبلية، لا بد لها أن تصل ما انقطع من مسيرة نهوضها وتقدم حركة شعوبها على طريق الثورة الوطنية والتحرر والوحدة، كما لا بد لنا أن نتعلم من التجارب التي مرت بها أمتنا في مواجهة المخاطر والأزمات التي مرت بها.
وأعود هنا لأستشهد بوقفة كانت لأمتنا وبمواقف كانت لمصر ولقيادة عبد الناصر في مواجهة أزمة قومية كبيرة ونكسة من أخطر النكسات التي مرت بها أمتنا، والتي ما زلنا نرزخ تحت أعبائها حتى اليوم، عندما ضربتنا الهزيمة في حرب حزيران عام 67، وكاد كل شيء يسقط لولا أن وقفت جماهير الشعب المصري وقفتها المجيدة في التاسع والعاشر من حزيران، ووقفت معاها شعوب الأمة. تحركت مقاومتها لتوقف الانهيار وترد على العدوان فثورة شعوبنا لم تسقط إرادتها بعد إنكسار الجيوش في معركة حزيران، وإنما أسقطتها بعد ذلك، وبعد حرب تشرين التي كادت أن تكون مجيدة، لولا أن ضربتها الردة والأنظمة القطرية المرتدة بعدها.
لم تستسلم الأمة وقامت حركة مواجهة ونقد وعاد عبد الناصر ليجدد بناء قوة الأمة ومرتكز مقاومتها كما لم يفعل من قبل. وسكت عبد الناصر أشهراً قبل أن يقدم في 30 مارس (آذار) بيانه للأمة ومنهاج مواجهته لآثار الهزيمة والتحرك على طريق التحرير وطريق المستقبل.
وفي بيان عبد الناصر للأمة في 30 مارس وقف ليقول: ((الآن يصبح في إمكاننا أن نتطلع إلى المستقبل… وقبل الآن فإن مثل ذلك لم يكن ممكناً إلا بالاستغراق في الأحلام أو الأوهام، وكلاهما لا تستسلم له الشعوب المناضلة فضلاً عن أن تقع فيه، بينما هي عند مفترق الطرق الحاسمة وأمام تحديات المصير.. قبل الآن لم يكن بمقدورنا أن ننظر إلى أبعد من مواقع أقدامنا، فلقد كنا على حافة جرف معرض للانهيار في أي وقت، وكان واجبنا يحتم علينا قبل كل شيء أن نتحسس طريقنا إلى أرض أصلب تتحمل وقفتنا، وأرض أرحب تتسع لحركتنا، ولقد كانت جماهير الشعب بموقفها يومي 9 و 10 حزيران، هي التي جعلت ذلك قابلاً للتحقيق بفضل ما أظهرته من تصميم يرفض الهزيمة ويثق في النصر…)) وبهذا قدم عبد الناصر لبرنامجه الذي استفتى عليه الأمة، برنامجه الوطني والقومي في بناء الأمة وقوة الأمة، ((برنامج للتغيير يستجيب للآمال العريضة التي حركت جماهير شعبنا إلى وقفتها العظيمة يومي 9 و 10 حزيران.. برنامج يكفل وصولنا إلى الأهداف القريبة لنضالنا، يقرب منا يوم الوصول إلى الأهداف البعيدة..))
وتحرك عبد الناصر بمصر وشعب مصر، وبالأمة وما تعطي شعوب الأمة على طريق معركة ((إزالة آثار العدوان))، وتحرير الأرض، كل الأرض التي احتلها العدوان الإسرائيلي في حرب حزيران، معركة صمم عليها وعلى أن لا بديل فيها عن النصر، ليرفع نكسة عن كاهل هذه الأمة لتعود وتتقدم بالديمقراطية، وبثورة ديمقراطية ومراجعة نقدية، ثورة ثقافية بعد ذلك على طريق الأهداف الكبرى والنهوض الحضاري بالأمة. ولكن القيادة الساداتية بعد عبد الناصر، توقفت بحرب تشرين عام 73 منذ يومها الثالث عن أن تكون هذه الحرب حرب تحرير وإزالة لكل آثار عدوان حزيران، ليوقفها دون ذلك وليمولها إلى حرب ((تحريك)) وليتحول عن أهداف النضال الوطني القريبة والبعيدة لينادي بالاستسلام أمام القوة ((الأمريكية)) التي لا قدرة له وللأمة على مواجهتها، حيث وضعته أمريكا في مسار كامب ديفيد لتتوالى بعد ذلك حلقات التراجع والردة ولتنخرط بعد ذلك في هذا المسار المهين لتسوية ((الصراع العربي الإسرائيلي)).
مسار سقفه الأعلى اليوم ((كامب ديفيد)) الماضي.. تسوية، لا بل هي صهينة، للمنطقة، وهي تسوية لم تعد على الأبواب بل هي أخذت تخترق الأنظمة العربية الواحد تلو الآخر، وتخترق الحدود والمجتمعات، لنعود ونفتش عن أرض صلبة ومرتكز محدد لإيقاف السقوط أرض تتحمل وقفة قوية في المواجهة، للحد من هذه الهيمنة على مقدراتنا وللتصدي للمشاريع الغازية، ليكون لنا بعد ذلك أن نتحدث عن المستقبل.
فليسمح لنا إذن بوقفة عند مسار التسوية، قبل استكمال الحديث عن أسس النهوض وعن المواقع والمرتكزات التي يمكن التحرك منها للنهوض، والتي تضع قوى الأمة وطلائعها أمام مهمات ثورة قومية ديموقراطية عربية جديدة. ولننتقل إلى الموضوع الثاني ((والسؤال الثاني)) عن تلك التسوية الداخلة علينا، وعن إمكانية التصدي لها والخروج من إسارها فمنظورنا للمستقبل ولنهوض جديد للأمة العربية، ولوحدة هذه الأمة، إنما يتوقف على حركة شعوب الأمة وقدرات طلائعها وقواها، على إيقاف هذا المسار العربي المتراجع والساقط في إسار الخضوع للهيمنة الأمريكية الإمبريالية، والذي يفتح الأبواب أمام المشروع الصهيوني والهيمنة الإسرائيلية، ويكرس امتداد هذه ((الحقبة الإسرائيلية)) كما يسميها هيكل.
المجد 5 العرب والعالم الإثنين 20 شباط 1995
المفكر الناصري الدكتور جمال الأتاسي في حوار مع المجد
المطلوب إعادة تأسيس القضية الفلسطينية كقضية قومية مركزية
(الحلقة الثانية)
- انتم من الذين تنبأوا ومنذ زمن بعيد بقدوم التسوية بين النطم العربية وإسرائيل، والآن وقد أصبحت على الأبواب، بل انها عند البعض قد دخلت دون استئذان، وهل من إمكانية لدى الأمة وقواها للحد من الهيمنة الإسرائيلية على مقدراتنا والتصدي لمشاريعها الشرق أوسطية.
– الصراع العربي- الإسرائيلي صراع تاريخي منذ عشرات السنين ، ولقد كان وما زال، صراعاً على الوجود. فهناك تصادم كلي وتعارض شامل، قائم منذ البداية بين المشروع الصهيوني لقيام إسرائيل ((كاستعمار استيطاني وكركيزة وامتداد في المنطقة للاستعمار الغرب وللإمبريالية الرأسمالية الدولية)) وبين المشروع العربي للتحرر الوطني والاستقلال للشعوب العربية ولنهوضها القومي ووحدتها. وإذا كان المشروع الصهيوني قد حقق اختراقاته الأولى في منطقتنا العربية وفلسطين، وجاء في إطار نظام شرق أوسطي للهيمنة الاستعمارية وصفت أرضه المشتركة اتفاقات سايكس بيكو ووعد بلفور، لتأخذ إسرائيل في ذلك الإطار بداية تشكلها برعاية بريطانيا العظمى، فإن ذلك المشروع الصهيوني في الحقبة الراهنة، وبعد كل ما تولى من متغيرات دولية وما طرأ من انهيارات وتراجعات على جانب المواجهة العربية، يتقدم في المنطقة لتعزيز كيان ((دولة إسرائيل الكبرى أو العظمى)) وأخذ دورها في الامتداد والهيمنة، في إطار إعادة تنظمي الشرق الأوسط أو ما يسمونه ((شرق أوسط جديد)) يأخذ تشكله لصالح الهيمنة الأمريكية العالمية وهيمنة الشريك الصهيوني في المنطقة.
وهذا الصراع، وبكل ماله وما أخذه من أبعاد فلسطينية وعربية وإسلامية ودولية، وكل ما هو عليه من وقائع ومتغيرات، كان من الطبيعي أن تطرح عليه حلول ومشاريع تسوية، بدءاً من مشروع التقسيم الأول لفلسطين، إلى كل ما توالي بعد ذلك من مشاريع وقرارات دولية، والتي لم يكن لها تحرك وتقدم إلا بعد انكسارات عربية، في ظروف تختل فيها موازين القوى لصالح أعداء الأمة العربية والمستقبل العربي.
ولكن عملية ((التسوية)) التي تجري في هذه الحقبة من التراجع والغياب العربي، ومن الحضور المكثف للحليف الأمريكي- الإسرائيلي على ساحة ذلك الصراع التاريخي، والتي تدفع على طريقها الأنظمة العربية واحداً تلو الآخر، بما في ذلك النظام العرفاتي المستحدث في ((معازله)) غزة وأريحا.
فهي ما كانت خياراً عربياً بأية حال. بل جاءت كخيار أمريكي، بل وتكاد تمليه إملاء وتفرضه الولايات المتحدة على الأطراف العربية، ولكأنها أصبحت تمسك بمصائر الأنظمة وتحدد لها أدوارها في التنظيم المنشود للمنطقة وتحتفظ بالدور الأكبر والمتميز لإسرائيل ولمشروعها الصهيوني. وإذا كانت إسرائيل قد قدمت نفسها بعد حرب السويس عام 1956 وبعد جلاء النفوذ الاستعماري القديم عن المنطقة كحليف وشريك للولايات المتحدة الأمريكية، لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال، وقوفها في وجه تيار القومية العربية الصاعدة وتيار الوحدة العربية، فإنها تتقدم اليوم كقاعدة ثابتة وقوة فاعلة في خدمة المصالح الأمريكية وخدمة الغرب كله، للتصدي لما يسمونه بعد غياب التحاد السوفياتي من خطر إسلامي ومن يقظة إسلامية، أو لم تحسبو لها مسبقاً من نهوض عربي أو عربي إسلامي جديد.
والتسوية الجارية إنما تتقدم بخطواتها وتصاغ اتفاقاتها في إطار حملة إمبريالية جديدة ينفرد فيها بهذه المنطقة العربية والإسلامية، (والتي يسمونها شرق أوسطية) وبالهيمنة الكاملة الحلف الأمريكي الإسرائيلي، وهذه التسوية، بل هذه المحاولة لتصفية القضية الفلسطينية والعربية كلها، ما أخذت هذا المسار ((الشرق أوسطي)) المنشود، إلا بعد تمهيدات سلفت، بدءاً من اتفاقات كمب ديفيد وخروج السادات بمصر من ساحة الصراع، ثم بعد حرب الخليج الثانية، وتشتت الشمل العربي وتدمير القوة العربية والثروة العربية، واحتواء النظم العربية في مسار التسوية وطريق تعميم السلام الأمريكي والركون إلى وعوده وظلاله الوارفة.
فالرئيس الأمريكي السابق بوش، بعد أن حقق الانتصار الأمريكي الكبير في حرب الخليج الثانية، ضد العراق، وبعد انتصاره بالعرب وأموال العرب ضد العرب أيضاً ولصالح إسرائيل وضد الوجود العربي، أخذ يبشر بسلامة الأمريكي وبحل معضلة الصراع في المنطقة. ووضعنا على طريق ((مدريد)) للتسوية، بل التسويات ((الثنائية)) والمتعددة الأطراف، ولكنه وإن كان قد طرح مقولات وعناوين عامة للتسوية منها ((الأرض مقابل السلام)) والأحكام للقرارات الدولية السالفة بشأن ذلك الصراع، فإن صيغة ((مدريد)) التي أمسكت بها الإدارة الأمريكية، كانت قد غيرت كل معادلات ذلك الصراع من الأساس، فلا القرارات عادت قرارات للمنظمة الدولية، لتتابع تطبيقها وترعاها، ولا الأرض عادت أرضاً وطنية لأمة وشعوب ولا القضية الفلسطينية عادت محوراً ولا قضية أمة عربية، بل قضية أطراف متفرقة، الواحد الموحد فيها إسرائيل لوحدها، وفرطت عقد الأمة العربية ونزعت عن هذا الصراع صفته القومية والمصلحة العربية، لتنقل الجميع إلى صيغة تجمع شرق أوسطي مرصوف حسب الجوار الجغرافي، تربط أواصره المشاريع الاقتصادية والروابط السياحية. فالهوية الشرق أوسطية تأتي هنا بديلاً بل واقتلاعاً لكل هوية ثقافية وحضارية ووطنية وقومية وإسلامية. وفي هذا المسار وفي هذا السبيل، كان التركيز قبل كل شيء، على عزل القضية الفلسطينية وسحبها من التداول العربي المشترك، لتوضع رهن التصرف الإسرائيلي، وعلى هذا الطريق عقد اتفاق أوسلو من وراء ظهر الأمة بين الزعامة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، ليلحق به الاتفاق الأردني- الإسرائيلي، ولتكشفه بعد ذلك العديد من الأنظمة العربية الأخرى، أوراقها وعلاقاتها واتفاقاتها المسبقة مع إسرائيل في ظل الدفع والرعاية الأمريكيتيين.
وبالتقدم على هذا الطريق، لتأسيس النظام الشرق أوسطي الجديد، بحسب الحلف الأمريكي- الصهيوني إنه قد دمر وأزال من طريقه، الواحدة تلو الأخرى، كل المرتكزات الاستراتيجية التي يمكن أن يقوم عليها مشروع للنهوض العربي في مواجهة المشروع الصهيوني أو لمحاصرته، أو في بناء القوة الذاتية العربية والتماسك القومي والموقف العربي الموحد، الذي ليس من بديل عنه لمواجهة هذه المآلات الخطيرة، التي ألت إليها أحوال الأمة في إدارة مصالح شعوبها وأمتها، وإدارة صراعها مع أعدائها والطامعين في ثرواتها النفطية ومواقعها الاستراتيجية.
بعد اتفاق كمب ديفيد وإخراج مصر، وبعد حرب الخليج الثانية وما أوقعه من تفكك عربي ودمار، ومن تعارض واختلاف في المصالح والولاءات، وبعد إخراج أقطار الخليج النفطية وأموال النفط من المعادلة العربية لوضعها في إطار المعادلة الأمريكية الإسرائيلية، وكرصيد لها بدلاً من أن يكون رصيداً لأمتها، أخذت حملة السلام الأمريكي تشق طريقها في غير عناء، وبعد أن جرى تطويع الأنظمة وإخضاعها لمشاريع التسوية، والدفع بها إلى عقد ما عقدت من اتفاقات ثنائية وإعلانات مبادئ واعترافات وانتهاء للمقاومة ولحالة الحرب وإلى لقاءات قمة عربية إسرائيلية، وعربية أمريكية إسرائيلية، وعقد تحالفات لمكافحة ((التطرف)) الشعبي و ((الإرهاب)) في ((التطبيع)) لاختراق المجتمعات والمصالح العربية ولتطويع معارضة الشعوب. ولقد واكب هذا كله حملة أيديولوجية ((ثقافية)) وحرب إعلامية موجهة ضد الأمة العربية وضد هويتها الحضارية ووحدتها، لتقدم كبدائل لها في مواجهتها أيديولوجية الرأسمالية المتفوقة والمهيمنة، وآليات اقتصاد السوق، والمنفتحة للأنماط الاستهلاكية المعممة، وعبقرية التقدم التكنولوجي الإسرائيلي الرائد في التنمية، فضلاً عن التقدم التكنولوجي الأمريكي السائد عالمياً والسطوة العسكرية الأمريكية التي لا ترد.
إن الحملة الثقافية والإعلامية التي تشنها الأجهزة المعلنة والخفية ومراكز التوجيه والدعاية للحلف الأمريكي الصهيوني، وما يرتبط بها ويتبع من دعاة محليين، وأكاديميين مرتزقة ووسطاء كمبادوريين، ومن فعاليات رجال المال والأعمال والمترسملين من السلطة، تعمل كلها على تعميم نوع من الوعي الزائف لطبيعة الصراع الدائر ولحملة السلام والتسوية وتعميم روح الهزيمة فالتسليم بالأمر الواقع لدى العرب.
هكذا يدار الصراع من الطرف المعادي للأمة لصالح المشروع الأمريكي الصهيوني في الهيمنة. وهكذا تخترق أنظمتنا ومواقع مقاومة الأمة ومجتمعاتها. والسؤال كيف السبيل للتصدي لهذه الهيمنة والمشاريع. وهل من سبيل بعد كل هذا التراجع العربي والسقوط من رد لذلك المسار التفريطي في التسوية على أعقابه.
***
- لقد حاولت قوى المعارضة الفلسطينية بعد التوقيع في أوسلو، أن ترفض ما حصل وتقاومه، برأيكم هل تستطيع هذه القوى بما تملك من آليات وبما تطرح من آراء رافضة لكل ما يحصل أن تسقط أوسلو، وهل يمكن لها أن تقاوم دون بدائل موضوعية مقادرة؟
– في مواجهة حملة الإخضاع والتسوية، لم يتقدم بعد مشروع عمل عربي جماعي في المواجهة، وإن قامت هنا وهناك، وعلى صعيد الشعوب، دعوة عامة لمقاومة التطبيع ومعارضة اتفاقات التسوية ومطالبة بالتغيير والخروج من مواقع العجز والضعف من هذه الاستكانة غير المعقولة، أمام غطرسة الحلف الأمريكي- الإسرائيلي، التي هي ليست بالكلية القدرة ولا القدر المحتوم، فإسرائيل ما تقوت علينا وقويت إلا على حساب إضعافنا وتشتيت مواقفنا وقوانا، وبمقدار ما تشتد الحملة وتتكشف مخاطرها الجسيمة وأبعادها، لا بد أن تحرك حوافز البقاء والنهوض لأمتنا، وأمتنا كانت وستبقى أمة مواجهة، ونهوضها بشرى عدالة وحق في العالم. وما كانت ولا كان نهوضنا في مواجهة، الظلم والطغيان إنذار إرهاب وتعصب أعمى، فالإرهاب والتعصب في العالم والمنطقة لم يصنعها مثل ما صنع ذلك الحلف الإمبريالي الصهيوني، ولا قام بتعصب وإرهاب في بعض المواقع العربية إلا بدافع من غطرسة الاستبداد وتسلط النظم.
وحركات المعارضة الشعبية في عدد من الأفكار العربية ما رفعت شعار مقاومة ((التطبيع)) إلا بعد أن اخترقت حملة التسوية هذه الأنظمة والمجتمعات القطرية، وأصبح العدو في داخلنا، وما خضعت الأنظمة وأعلنت قبولها بتلك التسويات والتطبيع والمشاريع إلا بعد أن كانت قد أخضعت شعوبها وأخضعت مقاومة مجتمعاتها وألغت استقلالية وحرية الفئات الاجتماعية وهكذا فإن مقاومة الهيمنة الخارجية ورد مشاريعها لن تأخذ طريقها الصحيح إلا عبر مقاومة الهيمنة الداخلية على الشعوب والمجتمعات المدنية، فمعركة مقاومة التطبيع ومعارضة التسوية الصهيونية في معركة الديمقراطية واستعادة الشعوب والحركات الشعبية طريقها وإرادتها الحرة واستعادت المجتمعات الوطنية لاستقلاليتها وتشارك مصالحها الوطنية والقومية.
***
- هل تعتقدون بقدرة المثقف العربي اليوم على التصدي لمحاولات التطبيع مع عدو الأمة، وهل أنتم متفائلون بذلك؟
– وفي هذه الظروف المتراجعة والصعبة التي تمر بها الأوطان والأمة ثمة دور في معركة الديمقراطية والحريات وفي استنهاض وعي جماعي لظروف الأمة ومصائرها، ولمصادر قواتها وتقيمها. لا بد لمثقفيها وطلائعها الثقافية أن تؤديه تلك مسؤوليتهم، ونعني بهم لا أولئك الذين وضعوا معارفهم وخبراتهم في خطة السلطة والسلطان أو مؤسسات التطويع الخارجية، بل أولئك الملتزمون بقضايا أمتهم وبقضية الحرية والحق والعدالة انهم المثقفون الذين يسمونهم بالمثقفين العضويين، وهم المنخرطون عضوياً بمجتمعاتهم وفئاتهم الشعبية المختلفة. وثمة مهمات أولية لا بد لهم من الوفاء بها. فطلائع الأمة الثقافية العضوية تلك ورجال الفكر فيها، يحملون مسؤولية كبيرة في التبشير الديمقراطي وفي الرد على الحملة المعادية بكل أدواتها المعرفية والإعلامية، وفي النهوض بحركة وعي قوى الأمة لهويتها الثقافية والحضارية وثوابتها وحقوقها التي لا تتنازل عنها، ولأهدافها التي لا تفريط بها، وفي ممارسة الدور الذي لا بد أن تؤديه على الصعيد العالمي والإنساني، وعليها أن تشق بالوعي والمعرفة طريقاً أمام مشروع نهوض الأمة الحضاري وكفاحها. وليس بوسعي هنا أن أعبر عن تفاؤل أو تشاؤم بما هو ممكن وما سيكون. إلا إنه دور نطالب به، وهو مطلوب.
وإذا كان رفض الاتفاقات الجارية على طريق التسوية ورفض التعامل مع المشروع الصهيوني ومقاومة حركة التطبيع والاختراقات الاقتصادية والثقافية لأنظمتنا ومجتمعاتنا هي الرد الوطني والشعبي في الأقطار العربية المعنية، أي أما جاءت عليه الاتفاقات التي عقدتها، أو يمكن أن تعقدها الأنظمة والزعامات الرسمية، أو الشركات اللا وطنية وللا قومية والمشاريع التي تسير عليها جماعات أو بالأحرى ((مافيات)) من رجال المال والأعمال مع الصهاينة، فإن التحركات الشعبية في المواجهة، لا بد لها من أن تأخذ امتداده القومي فضلاً عن توحيدها الوطني. وأمام ذلك التناقض المطلق والتعارض الكامل بين المصالح الأساسية للأوطان والأمة وبين المشروع الإمبريالي الصهيوني الزاحف علينا، لا بد من إزالة كل أسباب التعارض والخلاف بين قوى وطنية وديمقراطية قومية وقوى إسلامية ناهضة، لتصب كلها على طريق واحدة في المواجهة وعلى طريق مشروع متكامل في النهوض.
وإذا تجري التسوية لسحب القضية الفلسطينية من التداول العربي وتصفية هذه القضية لصالح إسرائيل الكبرى والهيمنة الصهيونية، فالمطلوب إعادة تأسيس القضية الفلسطينية كقضية مركزية في حركة تحرير الأمة ونهوضها، وفي إدارة صراعها مع أعدائها. ولتتعزز الانتفاضة الوطنية للشعب الفلسطيني في وجه الاستعمار الاستيطاني ولتكن المقاومة الفلسطينية، لا طليعة لنفسها ووطنها الفلسطيني، وشعبها فحسب، بل وطليعة لمقاومة الأمة ولتحمل الأمة كلها مسؤولية تعزيزها كخط دفاع أول في وجه تقدم المشروع الصهيوني. ومن هذا المنظور نتطلع إلى الحوار والتعامل مع ظروف وأوضاع ومواقف القوى الفلسطينية المتصدية لمعارضة التسوية، فإن وحدتها الوطنية تبقى مسؤولية قياداتها على مختلف مواقفها، وإن كان المطلوب ومن خلال الالتزام القومي أن تجد تواصلاً بينها وبين كل قوى المعارضة الشعبية والعربية، ولا بد أن تلتقي على مشروع واحد وأهداف مرحلية واحدة.
ويبقى في البدء البحث عن قدراتنا على الحد من الهزيمة وسبل التصدي للمشروع الصهيوني الأمريكي الشرق أوسطي وفي هذه المواجهة التاريخية والحضارية التي لا بد أن تستعد لها الأمة وتقوى، نظل نتطلع إلى مصر. ولا نرى من بديل له كقاعدة ومرتكز لنهوض جديد للأمة في المواجهة. فمن ذلك الموقع، أي من حيث بدأت الردة ومن حيث بدأ السقوط على طريق كامب ديفيد الذي أصبح المرجع اليوم لكل التسويات الحقة، ولتتولى من بعد ذلك كل حلقات السقوط لا بد أن يعود ويتحفز النهوض من جديد، وأن يعود شعب مصر ليأخذ دوره في المواجهة وأن يعطي القدوة والمرتكز. وفي مصر اليوم بوادر تحرك. وفي مصر آمال. وبعودة مصر لأمتها ولقضايا أمتها ولتصنع مواجهة أمتها ومستقبلها، يمكن أن نعود من جديد، وكأمة، واحدة إلى ساحة المواجهة… وفي مصر كانت جامعة عربية، وبمصر يمكن أن تقوم جامعة عربية جديدة. وبهذا العنوان سنعود ونستأنف الحوار حول مستقبل ((الجامعة)) والسبل إلى جامعة شعبية عربية.
الاثنين 13 شباط 1995