اغتيال الثامن من آذار

حسين حمدان العساف

أطل علينا صباح الثامن من آذار يزف إلى الشعب السوري والشعب العربي في كل مكان بشائر الفرح بإسقاط حكومة الانفصال التي اغتالت الوحدة، وقيام ثورة الثامن من آذار التي قادها الضباط الناصريون والبعثيون والقوميون والوطنيون المستقلون الذين أعلنوا في مقدمة أهدافها هدف إعادة سورية إلى الوحدة بقيادة عبد الناصر..وقدعمّت الأفراح سوريّا في أيامها الأولى..أمّا في مدينة الحسكة فرأيت وقتها وأنا طالب في الثاني الإعدادي المدينة تزينت بأعلام الجمهورية العربية المتحدة وبصور عبد الناصر، وفي ذاكرتها القريبة زيارة عبد الناصر التاريخية لها بالأمس القريب في الساعة الثالثة والنصف بعد ظهريوم الاثنين في 15 شباط سنة 1960م ، مشاركاً أبناءها احتفالهم بالذكرى السنوية الثانية لقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصروسوريا، والمدينة .. لاتنسى ـ ولن تنسى ـ جماهيرها المحتشدة في الشارع تحمل سيارة عبد الناصر من أمام جامع المدينة الكبير إلى مبنى غرفة الزراعة حيث ارتجل من شرفة النادي الزراعي كلمته الوحدوية الهامّة.. وفي ذاكرة الحسكة القريبة أيضاً تمرد أبنائها على عهد الانفصال ، فقد كان طلاب دار المعلمين قلعة النضال الوحدوي في الحسكة ، وجلهم من أبناء ديرالزور والرّقة يتجمعون في مقهى الشباب (صار مطعماً فيما بعد) مقابل صيدلية صيّاح القباقيبي ، ويخططون لإخراج الطلاب والموظفين والمواطنين بتظاهرات شعبية ناصرية..بعثية..وطنية..غاضبة ، تطوف في شارعَيْ جمال عبد الناصر (شارع جامع المدينة الكبير)، وشارع فلسطين ، وترفع صور عبد الناصر وأعلام الوحدة ، وتدوي زمامير سياراتها نغمة (ناصر..ناصر..ناصر) ، وتطالب مثل التظاهرات الشعبية التي عمّت مدن القطر بإسقاط عهد الانفصال الأسود ، وإعادة الوحدة مع مصر..وهي تلقى تجاوباً وتأييداً من أوساط واسعة في صفوف الجيش ، عبّر عنه الانقلاب العسكري الأول غير الموفق الذي قاده العقيد البارز جاسم علوان في حلب يوم 28/3/1962…وكنا نحن طلاب المدارس نشارك في التظاهرات الشعبية ، فنضيع في خضم تزاحم الكبار..نهتف معهم بالوحدة مع مصر بقيادة عبد الناصرقائد مرحلة النهوض القومي العربي ..ونهتف (لادراسة ولا تدريس إلا بعودة الرئيس)..حتى ختمت الثورة الجديدة ذلك العهد الأسود ، فتنفست المدينة الصعداء ككل مدن سوريا ، واحتفلت فيها مثل مدن سورية الأخرى ، وتدفق الناس من المدينة وريفها إلى خيمة الاحتفال المقامة بالساحة قدام مبنى اتحاد فلاحي الحسكة الحالي ، وهي مزدانة بصورعبد الناصر وأعلام الوحدة ، يعربون عن فرحتهم بهذه الثورة الجديدة معتقدين أنها ثورة وحدوية ناصرية، وتوالت في الخيمة كلمات التأييد لهذه الثورة والترحيب بها من مختلف فئات الشعب..وكنت أتابع وأصدقائي الطلاب احتفالات الخيمة وراء الكبار وبينهم، ونحن نرى المرحوم (حرب صباغ) قاعدا على كرسيه خلف منصة الخطابة، يتولى عرافة الاحتفال ممسكا بيده مكبرالصوت، وداعياً أصحاب الكلمات إلى إلقاء كلماتهم لهذه المناسبة مردداً بين الفينة والأخرى بيت الشعر الآتي الذي حفظناه لكثرة ترديده له :

لو كان حبُك ياجمالُ جريمة……فليشهدِ التاريخ أني مجرمُ

وكان الناس يتابعون وسائل الإعلام ليتعرفوا إلى أسماء حكومة الثورة الجديدة، وتبيّن لهم تشكيل المجلس الوطني الأول الذي تألف برئاسة الضابط الناصري لؤي الأتاسي، وعضوية البعثيين: محمد عمران و صلاح جديد وموسى الزعبي، والناصريين: راشد القطيني وفواز محارب وكمال هلال ودرويش الزوني، والمستقلين  زياد الحريري وغسان جديد وفهد الشاعر. وتشكلت أول وزارة من الناصريين والبعثيين والقوميين والمستقلين، وأعلنت السلطة الجديدة حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي بقيت مستمرة مايقرب من خمسين عاماً، وما إن مضت أيام قليلة على قيام ثورة الثامن من آذار حتى حدث صراع بين البعثيين والناصريين على السلطة..البعثيّون يريدون الاستئثار وحدهم بالسلطة والناصريون يريدون إعادة الوحدة مع مصر بقيادة عبدالناصر، ويرون أنّ البعثيين ليسوا جادين في طلب الوحدة ، وأنهم يراوغون على ما اتفقوا عليه خاصة بعد محاولة البعثيين في سورية والعراق إفشال مشروع الوحدة الثلاثية مع عبد الناصر في نيسان 1963م الأمرالذي دفع العقيد الناصري البارز جاسم علوان إلى أن يقود انقلابه العسكري الثاني غيرالموفق بدمشق في 18 تموز 1963، والذي انتهى باعتقاله، وأقيمت له محكمة استثنائية برئاسة اللواء صلاح الضللي، حكمت عليه وعلى رفاقه بالإعدام، وتدخل عبد الناصر لإخراجه من زنزانته، وأخذه إلى القاهرة ليعيش فيها أربعين عاماً، وتمت بعد هذا الانقلاب تصفية وتسريح واسعين للضباط الناصريين والقوميين والمستقلين من الجيش والوزارة، وتفرّد البعثيون منذ ذلك الوقت بالسلطة ، فأقصوا كل خصم لهم أومعارض، وألغوا التعددية، وقمعوا الرأي الآخر، وأحدثوا تمييزاً بين أفراد الشعب الواحد، وتولت الأجهزة الأمنية السيطرة على الدولة والمجتمع ، وصار مقياس الوطنية بنظرها هو انتماء المواطن لحزب البعث وولاءه للرئيس والنظر إلى غيره على أنه معاد، لايرتقي إلى مكانه الذي يستحقه، وجعلت أفضلية قبول التوظيف والعمل في دوائر الدولة ومؤسساتها والصعود إلى مواقعها المتقدمة للمواطن البعثي، وبذا فسحت المجال لذوي المنافع والانتهازيين والمتلونين يتدافعون إلى حزب البعث ، فأساءت إليه وإلى أهدافه السامية ، وحوّلته إلى منظمة منافع وموالاة للسلطة ليس غير ومضت السلطات الأمنية في نهجها الإقصائي الذي لم يغيّره قيام مايسمى تجاوزاً بالجبهة الوطنية التقدميّة فيما بعد ، وهي الوجه الآخرللنظام ، ثم تحوّل الصراع على السلطة إلى الضباط البعثيين أنفسهم، فصارت كل فئة منهم تحرك قواتها العسكرية التابعة لها لتطيح الفئة الأخرى حين تختلف معها ، أوتجدها عقبة في طريقها متذرعة بحرصها على نهج البعث ، وتمسكها بسلامة خطه الثوري ، ومتهمة الفئة المطاح بها بالمنحرفة ، أوالمناورة ، أواليمينية ، فتلقي بخصومها في غياهب السجون والمعتقلات ، وفي أثناء سلسلة الانقلابات يتوالى في أول كل انقلاب عسكري عزف الموسيقا العسكرية والأناشيد الوطنية، تتخللها بياناتها الإذاعية ، تقدّم فيها السلطة الجديدة نفسها إلى الشعب على أنها الممثل الشرعي لحزب البعث ، وتدعي أنها ماقامت بانقلابها العسكري على الفئة السابقة إلّا لتصحيح المسار وإلّا لمصلحة الشعب ، ولأجل حرية المواطن وكرامته ، ثم تغرقه بسيل من الوعود المعسولة ، والأهداف البراقة التي لاتجد سبيلها إلى التطبيق ، وإذا بالبلد في عهودها يغوص بالفساد ، وتتراكم فيه الأزمات على مختلف الأصعدة ، وتسوء أحوال الناس ما أدّى آخرالأمر إلى تفجير الوضع الداخلي الذي جرّ الويلات والمآسي على الشعب السوري نتيجة موقف السلطة في خيارها العسكري والأمني، وإلى تشظي كيان الدولة السورية الواحدة إلى أشلاء انفصالية ، يتحكم بها عملاء يستقوون بالخارج ، ويخدمون مصالحه ، وإذا بالشعب السوري يرى أن الأهداف التي أعلنتها سلطات حزب البعث منذ أن انقلبت على الناصريين والقوميين في آذار عام 1963م إلى الفترة الراهنة تلاشت في الهواء ، فلا وحدة بعد ستين سنة من التشبث بالحكم ، ولا حرية ، ولا اشتراكية ، وإذا بثورة الثامن من آذار التي توالدت منها انقلابات عسكرية متصارعة تغتال فرحة الشعب بالوحدة واستبشاره بعودتها وبأمله في تحسين حياته ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنا (حسين حمدان العساف) على يمين الصورة بجانب العقيد جاسم علوان (مطربش) وعلى يسارالصورة الأخ عبد المجيد منجونه أبوضرار في فندق (أوربا) بالقاهرة في شباط 2008م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى