الثورة السورية في ذكراها

محمود الوهب

يعيش السوريون هذه الأيام ذكرى ثورتهم الحادية عشرة، ولا يزال نصفهم في أماكن النزوح، والمغتربات، ومن تبقى في الداخل يمرُّ بأسوأ أيام حياته فقرًا، وبردًا، وفقدان أمن، فهل هي الثورة، فعلًا، التي تسببت بذلك أم قيادتها أم إنه نظام الاستبداد عموماً؟ لا بد إذاً من محاولة وضع النقاط على الحروف، وتحميل الأخطاء لمرتكبيها مع الأخذ بالحسبان عدوانية النظام الشديدة، ومنذ الأيام الأولى، وحقده على الشعب، ثم استعانته بالإيرانيين، والروس الذين (نسقوا مع الإسرائيليين) كانوا الأكثر وحشيةً في عدوانهم وتدميرهم.

ولا بد أولًا من القول إن عوامل الثورة كلها كانت متوفرة، فمن القمع إلى غياب مبادئ الديمقراطية وأسس الدولة المعاصرة، وتفشّي ظاهرة الفساد في معظم مفاصل الدولة، وتوقف التنمية، إن لم أقل انعدامها، ما أدّى إلى هجرة العقول والخبرات بسبب تراكم البطالة.. ناهيكم بالتمييز الذي كان حاصلًا في المجتمع، سواء على أسس حزبية أم على أسس مناطقية تعود إلى ماضٍ بعيد ولأنظمةٍ باليةٍ كان عمادها الأسرة والعائلة فالقبيلة، وغير ذلك. يضاف إلى ذلك كله أن النظام عجز عن تحقيق أي إصلاح لا على زمن الأب، ولا على زمن الولد، فالأب كما كان يزعم، ومَنْ حوله، أنه منشغل بالسياسة الخارجية، أما الولد الذي وعد بالإصلاح والتحديث، وقد بدأ ببعضه لكنه تراجع بسبب ضعفه، وتردّده، إن لم أقل كذبه واستماعه لأمه، وخوفه من عناصر الحرس القديم النافذة، وإدارته الظهر لصوت الشارع، وخصوصا لمن يمثلهم من مفكّرين ومثقفين وطنيين وسياسيين، اختار بعضهم بنفسه للحوار.. ومنهم المفكر السوري والأستاذ الجامعي، الطيب تيزيني، الذي أعطى رأيه قبل بدء الحراك الشعبي، على صفحات صحيفة تشرين، وخلاله عبر الندوات الحوارية التي أدارها حزب البعث وأجهزته الأمنية، ولكن بدلًا من احترام رأيه، كان قد ضرب واعتقل لدى مشاركته في الاحتجاج السلمي لأجل الإفراج عن معتقلي الرأي.

ثانيًا: يبدو أنَّ ملاقاة طموحات أولئك الشباب الذين غصّت بهم شوارع المدن وساحاتها على نحو مفاجئ، لم تكن أمراً متوفراً، فقد هبَّ الشباب هكذا، وكأنهم بركان ظُنَّ أنه خامد، لكنه انفجر فجأة، ومن خلال وعي اكتسبه جيل الشباب عبر تراكم الوجع الوطني والاجتماعي والإنساني، فما إن لامسته رياح الربيع العربي حتى انفجر على نحو مخيف.. وما ساعد هؤلاء الشباب ذلك التطوّر في وسائط التواصل الاجتماعي، لكن المشكلة أنَّ ذلك الانفجار لم يجد من يلاقيه، فقد غابت القيادة التي كان عليها أن تشارك الشباب رأيها وأن تسمع منهم وأن تجعلهم شركاء حقيقيين، لكنَّ من تنطع لقيادة ذلك الحراك الشبابي انقسم على نفسه منذ البداية، فهناك من عوَّل على الخارج أكثر من اعتماده على الداخل، وهذه قضية في غاية الأهمية.

ثالثًا: إذا كان التسليح قد فرض نفسه ردّاً على تدخل الشبّيحة وأجهزة الأمن والجيش وارتكاب مجازر، فإن ممارسة استخدام السلاح لم تكن على النحو المطلوب، إذ جاءت عشوائية، وكلنا يعلم أنَّ النظام لم يكن ليغطّي جرائمه غير وجود السلاح بيد المعارضة، ثم إن فصائل كثيرة (أفرادًا وجماعات) كانت تقاتل لأجل الغنائم. وكأننا في عزِّ زمن الجاهلية، بل حتى في صدر الإسلام، لم تكن غنائم الحروب لتوزّع كما مارسها بعضهم، ما أفقد فصائل الجيش الحر المصداقية، وشجّع أحيانًا اعتداء بعضهم على الملكيات الخاصة، وقادت تلك الأخطاء إلى استشهاد ثوار افتقدتهم الثورة بحق.. وقد ذكر ذلك العقيد عبد الجبار العكيدي، في مقالة له عن تحرير مدرسة المشاة بحلب. وعدَّ ذلك سببًا رئيسًا لاستشهاد بعض أبطال الثورة. (كان “أبو الفرات” يصرخ وينادي ويهدد بعقاب الله لمن يغل شملة، لكن لا حياة لمن تنادي بالنسبة لبعضهم في ظل الفوضى الحاصلة، فلا آذان تسمع، ولا عيون تبصر، ولا قلوب تعي ما سيحصل نتيجة مخالفتهم أوامر القائد.). (موقع تلفزيون سوريا 27 سبتمبر/ أيلول 2021).

رابعًا: جاء تركيب قيادات قوى الثورة والمعارضة الأولى على أساس المكونات، والمظلوميات، الأمر الذي ساهم، من حيث تدري أو لا تدري، في أمر تقسيم المجتمع السوري مباشرة، ونسف شعار الثورة: “واحد .. واحد، الشعب السوري واحد ..”. والأخطر من ذلك كله فتح المجال لتحويل المجتمع إلى مكونات بحجوم مختلفة ما يبعده عن دولة المواطنة التي يحكمها دستورٌ يضع المواطنين كافة على قدم المساواة. وبذلك أعطى الأكثرية حق الفيتو أو السيادة، ثمَّ إنها لدى انتخاب قائد للثورة جرى اقتراح أن يكون لشهر فقط، ثم عدل الاقتراح ليكون ثلاثة أشهر، وليستقرّ، فيما بعد، إلى ستة أشهر، ثم “إلى الأبد”، ولينتهي بتبادلٍ مخزٍ بين رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ورئيس هيئة التفاوض العليا.

خامسًا: لم تُجر المعارضة أيَّ تقييم لأعمالها، نجاحًا أو فشلًا.. ولم تر نفسها ارتكبت أيَّ خطأ، ولم تدعُ أحدًا من أطياف شباب الثورة السياسية أو الإعلامية أو الثقافية من الذين تمثلهم، لتبسط سيرتها أمامهم، ولا أكثر من هؤلاء! ولو كانت فعلت مع بعضهم، على الأقل، وسألت كيف رأيتمونا أيها الشباب، هل أدّينا الأمانة؟ أو هل كنا أوفياء لدماء الشهداء، ومعاناة المعتقلين، ومن فقدوا أحبابًا لهم؟ ما نواقصنا؟ وهل كنا بديلًا مناسبًا لدولة الاستبداد والفساد؟! حبذا لو أنها بسطت أمام بعضهم الواقع السياسي الذي تحرّكت في فضائه، وكيف عالجت ما عانته من صعوبات.. وما دفعها إلى هذا السلوك أو ذاك؟! وحبذا لو كانت لمّحت لشؤونها المالية لكانت بحق مثالًا للشفافية التي سعت إليها الثورة.

سادسًا: لم تُعر المعارضة أي اهتمام للداخل السوري، من دون أن تورّط أحداً فتعرّضه للاعتقال أو لأيِّ أمر يؤذيه، ولعلها افترضت أن كل من بقي داخل البلاد وفي مناطق النظام خارج دائرة اهتمامها، وقد شكلت بذلك وجهاً آخر للنظام.. ذلك إذا تجاهلنا عدم وجودها في الداخل السوري، وخصوصا بعد أن صار بالإمكان توفير المكان الآمن لها، كما أنها لم تستطع أن تجمع القوى المؤيدة لها وهي كثيرة ومنتشرة، سواء في الداخل أم في الشتات.

 سابعًا: لم تحدّد قيادة قوى الثورة والمعارضة موقفها تماماً من التنظيمات المتطرّفة، بل سكتت حتى عن أكثرها تطرّفًا، ومنها، كما هو معلوم، موضوع على قوائم الإرهاب، وأنها لم تكتشف أصابع النظام، ضمن بعض تلك التنظيمات، ما أساء إليها، وأعطى النظام ما كان يسعى إليه، بل أوجد ذلك الأمر خللًا في مفهوم الحرية، وفي محتوى الدولة الذي سعت إليه الثورة. وربما لو كانت فعلت ذلك، لجنّبت الشعب السوري مآسي كثيرة تعرّض لها.

ثامنًا: مما يؤسف له اليوم أن بعض فصائل ما بات يُعرف بالجيش الوطني المحسوب، طبعًا، على قوى الثورة والمعارضة، أرسلت جنودًا للمحاربة إلى جانب الأوكرانيين. وحدث ذلك بالتوازي مع ما قام به النظام من إرسال مرتزقة للقتال المباشر تحت إمرة الروس ما يعني إلى الموت الزؤام.. فالحرب هناك حرب مدن وشوارع، ولا يريد الروس أن تكثر ضحاياهم، فللشعب الروسي موقف سلبي من تلك الحرب، ومن رئيسه. وإذا كان النظام يعتقد بأنه يردّ جميل الروس الذين قتلوا شعبه ودمَّروا بلاده، فما الذي تستفيد منه المعارضة؟ سيقول قائل إنهم يذهبون باختيارهم. أقول إنهم يقتاتون بدمهم، وهي الحال التي أوصلوه إليهم نظامًا ومعارضةً.

وأخيرًا، لا يزال الشعب السوري ينتظر لا من “الائتلاف”، بل من كل من يزعم أنه ممثل للثورة وللحرية التي طالب بها هؤلاء الشباب، القيام بإجراء ما يوحّد كلمة الشعب السوري، وتقديم خطاب عصري مفهوم ومؤيد لدى عموم الشعب السوري، يفهمه العالم، وخصوصاً هؤلاء الذين بيدهم قرار حلِّ مسألة سورية والسوريين، وإلا فنحن ذاهبون إلى كارثةٍ لا أحد يقدّر أبعادها، وخصوصا في هذا الوقت الذي نرى فيه تهافت العرب على التطبيع، لا مع إسرائيل فحسب، بل مع النظام السوري أيضًا.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى